📘 قراءة كتاب نشأة الإنسانيات عند المسلمين وفي الغرب المسيحي أونلاين
إذا كان لنا أن نطلق لقبًا على جورج مقدسي، فسأختار لقب “محطم الأساطير”، لكنه في هذا الكتاب يواجه أسطورة ضخمة، إنها الأقوى من نوعها في عصرنا، إنها أسطورة “الغرب”. لقد سخّر مقدسي سعة اطّلاعه الهائلة، وأقوى أدواته المعرفية لمواجهة هذه الأسطورة، حتى أنّ هذه المواجهة لتذكرنا بمواجهة داود وجالوت.
في كتابيه المتتاليين “نشأة الكليات: معاهد العلم في الإسلام والغرب” (إدنبرة ، 1981)، و “نشأة الإنسانيات عند المسلمين وفي الغرب المسيحي”، لم يألُ مقدسي جهدًا في توثيق مصادر أعظم ما تحتفي به الحضارة “الغربية” وأحظى ما تعتز بإنجازه: التقليد المدرسي والإنسانيات، وإرجاعها إلى أصولها الإسلامية. إنّ الحجج التي قدمها جورج مقدسي -إذا تلقتها الروح العلمية الموضوعية- كفيلة بأن تبدد الأسطورة القائلة بأن “الغرب” هو منارة العالم، وأن حضارته هي أحق الحضارات باسم التمدن، تلك الأسطورة التي يروّجها ويحافظ عليها مجموعة من المشتغلين بشرح وترجمة العلوم العربية. لكن -كما هو الحال مع حججه التي قدمها في “نشأة الكليات”– فإن هذه الحجة الجديدة إما أن تقع على آذان صماء، أو أن تكون محل نزاع عنيف من قبل أنصار المركزية الأوروبية.
حشد مقدسي حججا قوية، وغنيٌّ عن البيان أن نقول إنّ التحدي الأكبر الذي يواجهه في هذه العملية هو تقديم وجهة نظر تعددية بديلة للتاريخ البشري. لقد نجح مقدسي في إعطائنا المسح الأكثر شمولاً وموثوقية للإنسانيات الإسلامية حتى الآن (كما فعل مع التقليد المدرسي في نشأة الكليات). ولأول مرة نرى بلغة أوروبية وصفًا شاملاً لصعود روح ومؤسسات الأدب (أو ما يسميه مقدسي الإنسانيات الإسلامية). يتتبع الجزء الأول من الكتاب صعود النزعة الإنسانية الإسلامية إلى أصول المدرسية/التقليد المدرسي. هذا الجزء في الواقع يمثل ربطًا مثاليًا بين نشأة الكليات ونشأة الإنسانيات. يقدم الفصل الأول حجة مكثّفة (طرحها مقدسي في مكان آخر) حول أهمية الشافعي في تأسيس ما أسماه مقدسي “الإسلام التقليدي”. ويمهد هذا الفصل لمناقشة المعركة الكلاسيكية بين التقليديين والعقلانيين التي وثقها مقدسي بالفعل فيما بعد. الفصل الثاني يؤرّخ لتشكّل المذاهب، وتحولها إلى حواجز مؤسسية “ضد تكرار الإزعاج العقلاني” (ص 16). بينما يعرض الفصل الثالث حجة إضفاء الطابع المهني على الدراسات الفقهية ويرى أن فيها تعزيزّا للمواقف التقليدية ضد العقلانيين.
يتتبع الفصل الرابع -خاتمة الجزء الأول- التحول من العقلانية إلى المؤسسات التقليدية. وفي هذا الفصل -وتحديداً في قسم “الدور العقلاني السري للكلية النظامية” (ص 41 وما يليها)- يهيئ مقدسي المسرح لظهور روح الأدب ومؤسساته. أما الأجزاء من الثاني إلى السادس، ففي فصل تلو الآخر يتتبع مقدسي ويوثق الجوانب الحاسمة لمؤسسات الأدب، بما في ذلك فحص مصادر الوقف، وتفصيل أشكال التعليم، كما حدد تنظيم المعرفة، وعين بدقة المجالات الرئيسية للإنسانيات الأدبية (مثل المذاكرة، والمناظرة ، وما إلى ذلك). وأخيرًا في الجزء السادس، بعنوان “المجتمع الإنساني” (ص 232 وما يليها)، يقدّم مجموعة متنوّعة من المجموعات الاجتماعية (مثل الرعاة، والباحثين الإنسانيين، والطلاب الإنسانيين، وما إلى ذلك) التي جعلت من الممكن تشكل مؤسسات الأدب.
في الجزء السابع، يستأنف مقدسي هدفه الأكثر طموحًا للفت الانتباه إلى “أوجه التشابه المدهشة في عددها وأهميتها، بين إنسانيات الإسلام العربي الكلاسيكي وإنسانيات الغرب المسيحي اللاتيني” (ص 294). في هذا القسم، يستعرض مقدسي أولًا أفكار عدد من المؤرخين البارزين الذين تكهّنوا بأصول الإنسانيات وسوابقها كما يعرفها “الغرب”. ناقش مقدسي هنا نظريات واقتراحات كل من أولمان، روبرت ويس، سيم دريسدن، بول أوسكار، رينولدز، ويلسون، واستنتج أن
“ما يمكن تعلمه -من بين أمور أخرى- من هذه الدراسات حول الإنسانيات هو أن الحركة الإنسية في الغرب المسيحي قد نشأت في إيطاليا…ولكن ما بقي دون إجابة هو لماذا بدأت هذه الحركة في إيطاليا بدلاً من فرنسا، وهي موطن تقليد أدبي كلاسيكي أصيل يبدو أنه لم يكن موجودا في إيطاليا؟ ما هو مصدر هذا “الدافع الغامض” للحركة الإنسية الذي اكتشفه أولمان في إيطاليا؟ إن الدراسات سالفة الذكر [حول أصل الإنسانيات]… تلقي الضوء على “ماهية” النزعة الإنسية، لكن يظل “دافع” نشوئها غامضًا”(ص 301 – 2).
ولكيلا يدّخر جهدًا في تدعيم رؤيته، يلجأ مقدسي إلى المصدر الأكثر موثوقية حول نشأة الإنسانيات، وهو العمل الكلاسيكي لجاكوب بوركهارت “حضارة النهضة في إيطاليا”. أسهب مقدسي في عرض المقاطع التي تم إهمالها بشكل كبير، والتي يناقش فيها المؤرخ الثقافي الألماني البارز مركزية صقلية في إشعال شرارة عصر النهضة وعلاقتها بالعالم الإسلامي، لا سيما في عهد فريدريك الثاني. ويتابع مقدسي سرديته ببيان أوجه التشابه الملحوظة بين النزعة الإنسية الغربية ونظيرتها الإسلامية: نظرة بوركهارت للدولة، والنزوع الفرداني، والتعددية، والنزوع نحو الشهرة والمجد، وانتشار الطابع الساخر، إلى آخر أوصاف حضارة النهضة في إيطاليا. ويختتم مقدسي هذا الفصل بالحديث حول خصوصيات عصر النهضة الإيطالية باقتباس من بوركهارت نفسه:
كانت المعرفة والإعجاب بالحضارة الرائعة التي وصل إليها الإسلام -خاصة قبل غزو المغول- خصيصة إيطالية منذ زمن الحروب الصليبية. وقد تعزز هذا الإعجاب عن طريق السياسات شبه الإسلامية لبعض الأمراء الإيطاليين، وذلك بإظهار الكراهية وحتى الازدراء للكنيسة القائمة، والاتصال التجاري المستمر مع موانئ شرق وجنوب البحر الأبيض المتوسط. يمكن إثبات أنه في القرن الثالث عشر، كان لدى الإيطاليين نموذجًا إسلاميًا للنبل والكرامة والفخر، وقد أحبوا التواصل مع شخص السلطان”.
عداد القراءة:
اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني و يمكنك تحميله من هنا:
عفواً..
هذا الكتاب
غير متاح للتحميل، حفاظًا على حقوق دار النشر. ،، يمكنكم شراؤه من مصادر أخرى
🛒 شراء " نشأة الإنسانيات عند المسلمين وفي الغرب المسيحي " من متاجر إلكترونيّة
شكرًا لمساهمتكم
شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف: