❞ كتاب النار المقدسة - وظائف الديني ❝  ⏤ ريجيس دوبريه

❞ كتاب النار المقدسة - وظائف الديني ❝ ⏤ ريجيس دوبريه

انهجس الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه منذ بداياته الأولى في التأليف، بالتنظير والتقعيد للوسائطيات، باعتبارها دراسة لمختلف أشكال الوسائط التي يعتمدها البشر في تعاملاتهم واتصالاتهم الحياتية، وقد بذل في ذلك جهدا جهيدا نصَّبه رائدَ هذا المبحث ومؤسسَه الرئيس بإجماع الباحثين. واللافت في الأمر أن دوبريه لم يكتفِ بالتصدي للوسائطية في العالم المنظور وحده بل جعلها تمتد لتشمل العالم غير المنظور، العالم الآخر بكل عناصره ومقوماته، كاشفا النقاب عن صلة الإنسان بالإلهي وتجلياتها في الديانات التوحيدية كما في غيرها من أشكال التدين والتعبد الأخرى، معتبرا إياها جميعا ظواهر في حاجة ماسة إلى تحليل “ميديولوجي”، يفحص الأفكار الدينية، والأسناد التقنية التي توظفها لبث رسائلها، فضلا عن المؤسسات التي تُنَصِّب نفسها قَيِّمَة على الشأن الديني.

هكذا وبعد كتابه “الإله. خط سير”، وسّع دوبريه مجال بحثه دافعا بمنهجه إلى أقصى مداه ليتأتى له الكشف عن أساسيات الإنسان المتدين في الغرب كما في مناطق أخرى، بصرف النظر عما إذا كان هذا الإنسان يعبد إلها واحدا، أو ألْفًا، أو لا أحد.

وهو في هذا السِّفر يرصد تجليات وتبعات “النار المقدسة” التي كانت ولا تزال وستظل باقية، بتقلباتها وتناقضاتها، في قلب المدينة ما بقي الإنسان في الوجود، كما يقف بدقة على مجمل الاختلافات القائمة بين الجانب الديني ووظائفه والجانب الروحي وتجسداته.

فما الجدوى من الأديان؟ وما عسانا نفعل بها؟ وكيف نفكر فيها؟

حجر الأرض إمتاع عابر للحقول

بطل الجبل

أول ما يستوقفنا في هذه الأسئلة أنها لا تسائل الدين بل الأديان، وهي مسألة يقصدها دوبريه وينافح عنها لاقتناعه بأن الدين على وجه الإجمال لا وجود له؛ ويجب ألا نستخدم اللفظ الدال عليه إلا بصيغة الجمع. وليس مردّ ذلك في اعتقاده إلى تشتت الظاهرة الدينية، ولا تجانس مكوناتها، وصعوبة التعامل بنفس الكيفية مع ديانة سماوية وديانة ملحدة وغيرهما من ضروب التدين الأخرى، فحسب، ولكن لأن مبرر وجود الأديان جميعا هو أن تتميز بعضها عن بعض، لأن حياتها في تميزها واختلافها لا في توحدها كما يعتقد الحالمون.

ومع ذلك، يحذرنا دوبريه من مغبة تقديم أجوبة عجلى على أسئلة من هذا القبيل، لأنها ببساطة من نوع الأسئلة الملغومة التي تحمل معها إرثا تاريخيا مديدا يستوجب أخذ الوقت الكافي والتزام الهدوء والتريث في التعامل معه. كما يقتضي أن نفحص، دونما غشاوة ودون أحكام مسبقة جاهزة، الوظائف الحيوية والاجتماعية والنفسية التي نهضت بها، وما زالت، قلوبنا وأرواحنا عبر التاريخ. وهذا بالفعل ما يقوم به دوبريه هنا، دون تعصب ولا تبشير، مستندا في ذلك إلى مستندات ووثائق وبنية حجاجية قوية، أراد من خلالها أن يُلفت انتباه المؤمنين كما “غير المؤمنين” إلى أمر غريب، أو غير مألوف لديهم، بتعبير أخفّ، يتمثل في جعلهم يرون المقدسَ كطريق للوصول إلى الدنيوي (المدنَّس)، والمتخيَّل كبوابة للولوج إلى الواقعي، وتمكينهم بالتالي من أن يفهموا دون غموض أو تفخيم في الكلام ما الذي تعنيه بالتدقيق مفاهيم: الأخُوة، والكراهية، والحرب، والهوية، والوحدة والسلام، وأن يدركوا كذلك أن الإنسان مجبول على الإيمان لأنه يضمن له توازنا يُمَكِّنه من عبور الحياة بشقاء أقل، وأن هشاشته النفسية لا تُخَوّله العيش دون قناعات أو معتقدات يُسنِد إليها رأسه ويشد بها عضده حتى لا ينهار في نقطة ما من رحلة العبور؛ فهو إذا “لم يؤمن بالله منذ حداثة سنه، فإنه سيؤمن لا محالة بلينين، أو بهتلر، أو بالدلاي لاما، أو بلاكان، أو بالبروليتاريا، أو ببُرْجه، أو بالجمهورية، أو بصهيون، أو بماو تسي تونغ، أو بالأمة، أو بزيدان، أو بنايكي أو بديزني”([1])، بل أحيانا كثيرة يجبره الاقتراب من خط نهاية عمره القصير على إسقاط قناعاته السابقة وتجديد إيمانه بالسماء إما خوفا من عقاب ممكن أو طمعا في ثواب محتمل أو عن تعلق خالص بالله على طريقة العشق الصوفي.

ربما لا نجانب الصواب إذا قلنا إن تزايد اهتمام الباحثين بالديني وبوظائفه في العقود الأخيرة يرجع في المقام الأول إلى ارتفاع منسوب الحقد والكراهية اللذين عبَّرت عنهما، قولا أو فعلا، بعض الطوائف الدينية المتعصبة، إلى جانب تصاعد أعمال العنف والقتل التي اكتوى بنارها عددٌ لا يستهان به من ساكنة العالم، في إطار ما عُرف بـ”انتقام الإله”([2]). على أن هذه الأعمال التي تم تصنيفها في خانة “الأعمال الإرهابية” لا ينبغي في نظر دوبريه أن نربطها رأسا بما بات يعرف بالنزعة الإسلاموية([3]) ونجعل منها كبش فداء، فقد خرجت، خلال القرن الماضي، حربان عالميتان من داخل القارة الأكثر إيمانا بالإنجيل بين القارات الخمس، ومع ذلك لا يحق لنا أن ندين المسيحية، لأن الإحصاءات تكشف أن الهند الإسلامية-الهندوسية تعرف معدلا إجراميا يضاهي في ارتفاعه ما نجده في الولايات المتحدة اليهودية-المسيحية. فهل نكون مخطئين حين نقحم السماء في شؤوننا الأرضية؟ لا يبدو الأمر كذلك، لأننا عندما نعود بالزمان إلى الوراء، ندرك أن الحرب في أثينا كما في روما كانت أيضا ذات مَنزع ديني، مع أنه ما ثبت يوما عبر التاريخ أن إله الجيوش قد صنع أسلحة أو أطلق نيرانا([4]) إلا ما كان مما تضمنته بعض كتب الأساطير. فأن يُلقي رجال الدين، في الديانات الرسالية الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام، بمسؤولية جرائمهم على السماء، فذلك في اعتقاد دوبريه ليس له سوى مبرر واحد، هو محاولتهم التملص من العقاب وتبرئة أنفسهم من أفعال ينسبونها إلى الإله بغير وجه حق، لأنهم يعلمون علم اليقين أنه لو أمكن “إخراج الديانات من الصراعات الكبرى التي تلهب الأرض حاليا، فإن جذوتها ستنطفئ لا محالة لغياب الوقود. ووقود هذه النيران المستعرة هو الإله الذي يُعد برميل البارود الذي ينبغي إخماده…”.([5]) لكنْ أليس الصواب أن يطردوا الخطيئة من صدورهم، بدل أن يعزوها إلى متعالٍ لا دخل له في ما يُنسب إليه إلا ما كان مِن اتخاذه مِشجبا تُعَلَّق عليه التُّهم من أجل التنصل من المسؤولية وإضفاء القداسة على حروب مدنّسَة؟

ينظر دوبريه إلى تداخل الإلهي بالدموي باعتباره أمرا ضاربا في القِدم، وحتى لو كان اللاهوت المتعالي يمارس تهديدا بسياسته المطلقة، فلا شيء من ذلك يدفع المرء إلى إدانة المطلق (=الإله) وتجريمه، لأن البشر هم من يشنون حروب الآلهة. وإذا كانت الديانات التوحيدية قد تمكنت من تغذية النار المقدسة هنا وهناك، فإنه لا يحق لنا أن نشير بالأصابع إلى دين مخصوص ونعتبره هو من أضرمها، مثلما أن الإلحاد لم يكن يوما مرادفا للسلام. ولْنجرؤ على الاعتراف بأن “الوحشية” ذات صلة بطبيعة الإنسان ذاته بوصفه حيوانا مُحرَّفا، مصابا بهذا المرض العضال الذي يحمل إسما مُبهِجا هو الثقافة.([6])

فهل تعد الثقافة هي السبب في الوحشية التي أبداها الإنسان على مدار تاريخه؟

يطلعنا دوبريه على أن ذلك ما حاول فرويد أن يوضحه لعدد من العلماء الذين كانوا مشدودين إلى ضرب من اليوتوبيا يقضي بأن “الحرب موافِقة للطبيعة، وأنها تستند إلى ما هو بيولوجي في الإنسان ولذلك بالكاد يمكن تجنبها عمليا”([7]). وقد حاول فرويد أن يوضح لهم بأن مفهوم الطبيعة قد التبس عليهم ولم يتمكنوا من إدراك ماهيته الحقيقية؛ لأن الطبيعة في مدلولها العام لا تمثل بالنسبة للطبيعة البشرية، في نظره، إلا ما يمثله القتل بالنسبة لطقس القربان، أو ما يمثله القتل دفاعا عن النفس بالنسبة للقتل الذي نعاينه في هيئات مختلفة للكائن البشري لدوافع متباينة. فأبناء جنسنا لا يتقاتلون فيما بينهم ليأكل بعضهم بعضا، مثلما هو حاصل لدى الحيوانات التي تحركها غريزة البقاء، ولذلك لا دخل للطبيعة والحياة في حروب البشر، ولا يبدو أن محرك الحرب بيولوجي وإنما ثقافي صرف، وهو ما يُصَعِّبُ من أمر “تفاديها عمليا”.([8])

بناء على ذلك، يرى دوبريه أن العودة إلى قاموس المفردات القديمة من شأنها أن توقفنا على تمييز في غاية الأهمية، بين كلمة حضارة – “بما هي مفهوم يدل على مجموعة من الاستعدادات العامة الكونية القابلة للنقل”- وكلمة ثقافة – التي تعني أسلوبا خاصا في الحياة لا يقبل النقل إلى الجميع”، أو “هي مجموعة من السمات المميزة، أو السلوكات أو القيم التي تَسِمُ شعبا معينا” – وبموجب هذا التمييز فإن الديني يدخل في خانة “الثقافة”، وهذا من شأنه أن ينسف الحلم المُطَمْئِن بحضارة بلا ثقافات، أو بحضارةٍ تحضنها جميعا. ومثلما تتحطم سفينة الحب على صخرة الواقع اليومي، يتحطم هذا الحلم الجميل على صخرة الأديان. وكما تتوحد الشعوب في معادلاتها وأدواتها، فهي تتفرق في أذواقها وصلواتها؛ فتصير طرُقها في الحساب وصنع الآلات – العلم والتقنية – قابلة للتبادل، أما الأصوات التي تخرج من أفواهها وأحلامها – اللغة والتدين- فلا يحدث أن تتوافق([9])، لأن الثقافة، في معناها الإثنولوجي، لا توجد إلا حيث يرتسم حد معين، والحد عزلة كما لا يخفى، والعزلة تقديس للذات وإعلاء من شأنها، وربما انطوت على قدر قليل أو كثير من ازدراء الآخر، ولذلك كان مصير كل منعزل أن يكون مكروها ومعشوقا في الآن ذاته، وتلك أيضا طبيعة المقدس الذي يتماهى مع الثقافة بما هي وجه يحمل خلفه قفًا اسمها الوحشية. ففي النهاية لم يتسبب في شقاء الإنسان سوى الإنسان، وتلك نتيجة ثابتة ومحسومة مهما حاولنا تبريرها وتسويغها بالصورة التي تخدم مآربنا أو أحلامنا أو أوهامنا؛ فليست كائنات خارقة للطبيعة هي من أضفت صفة الألوهية على أبطال ميتين، وألّهت الوطن، وخلّدت الجنود الذين قضوا دفاعا عن القضية التي أُطلق عليها هنا وهناك اسم “الحرب المقدسة” (من أجل الوطن، من أجل ستالين…)، وليست حقوق الإنسان، التي تمثل المُطلق بالنسبة للنسبيين، بمنأى عن المساءلة مثلما أنها ليست خيرا مطلقا كما يتوهم البعض، فعلاوة على أنها لم تفلح أبدا في الحيلولة دون قصف رياض الأطفال والعُزل والنساء والعجزة وغيرهم، فقد اتُّخذت مطية لانتهاك حقوق الإنسان، وباسم النزعة الإنسانية أُبيد الإنسان. ولهذا ما من ديانة خيّرة بالفطرة، أو سيئة بالمطلق؛ جميعها تمنح بعض الفوائد لأعضائها مع بعض الإجحاف الذي تبدو قيمته متساوية بينها تقريبا.
ريجيس دوبريه - ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ حياة الصورة وموتها ❝ ❞ نقد العقل السياسي ❝ ❞ كى لانستسلم ❝ ❞ النار المقدسة - وظائف الديني ❝ الناشرين : ❞ المركز الثقافي العربي ❝ ❞ دار دال للنشر والتوزيع ❝ ❞ إفريقيا الشرق ❝ ❱
من الفكر والفلسفة - مكتبة المكتبة التجريبية.

نبذة عن الكتاب:
النار المقدسة - وظائف الديني

2018م - 1445هـ
انهجس الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه منذ بداياته الأولى في التأليف، بالتنظير والتقعيد للوسائطيات، باعتبارها دراسة لمختلف أشكال الوسائط التي يعتمدها البشر في تعاملاتهم واتصالاتهم الحياتية، وقد بذل في ذلك جهدا جهيدا نصَّبه رائدَ هذا المبحث ومؤسسَه الرئيس بإجماع الباحثين. واللافت في الأمر أن دوبريه لم يكتفِ بالتصدي للوسائطية في العالم المنظور وحده بل جعلها تمتد لتشمل العالم غير المنظور، العالم الآخر بكل عناصره ومقوماته، كاشفا النقاب عن صلة الإنسان بالإلهي وتجلياتها في الديانات التوحيدية كما في غيرها من أشكال التدين والتعبد الأخرى، معتبرا إياها جميعا ظواهر في حاجة ماسة إلى تحليل “ميديولوجي”، يفحص الأفكار الدينية، والأسناد التقنية التي توظفها لبث رسائلها، فضلا عن المؤسسات التي تُنَصِّب نفسها قَيِّمَة على الشأن الديني.

هكذا وبعد كتابه “الإله. خط سير”، وسّع دوبريه مجال بحثه دافعا بمنهجه إلى أقصى مداه ليتأتى له الكشف عن أساسيات الإنسان المتدين في الغرب كما في مناطق أخرى، بصرف النظر عما إذا كان هذا الإنسان يعبد إلها واحدا، أو ألْفًا، أو لا أحد.

وهو في هذا السِّفر يرصد تجليات وتبعات “النار المقدسة” التي كانت ولا تزال وستظل باقية، بتقلباتها وتناقضاتها، في قلب المدينة ما بقي الإنسان في الوجود، كما يقف بدقة على مجمل الاختلافات القائمة بين الجانب الديني ووظائفه والجانب الروحي وتجسداته.

فما الجدوى من الأديان؟ وما عسانا نفعل بها؟ وكيف نفكر فيها؟

حجر الأرض إمتاع عابر للحقول

بطل الجبل

أول ما يستوقفنا في هذه الأسئلة أنها لا تسائل الدين بل الأديان، وهي مسألة يقصدها دوبريه وينافح عنها لاقتناعه بأن الدين على وجه الإجمال لا وجود له؛ ويجب ألا نستخدم اللفظ الدال عليه إلا بصيغة الجمع. وليس مردّ ذلك في اعتقاده إلى تشتت الظاهرة الدينية، ولا تجانس مكوناتها، وصعوبة التعامل بنفس الكيفية مع ديانة سماوية وديانة ملحدة وغيرهما من ضروب التدين الأخرى، فحسب، ولكن لأن مبرر وجود الأديان جميعا هو أن تتميز بعضها عن بعض، لأن حياتها في تميزها واختلافها لا في توحدها كما يعتقد الحالمون.

ومع ذلك، يحذرنا دوبريه من مغبة تقديم أجوبة عجلى على أسئلة من هذا القبيل، لأنها ببساطة من نوع الأسئلة الملغومة التي تحمل معها إرثا تاريخيا مديدا يستوجب أخذ الوقت الكافي والتزام الهدوء والتريث في التعامل معه. كما يقتضي أن نفحص، دونما غشاوة ودون أحكام مسبقة جاهزة، الوظائف الحيوية والاجتماعية والنفسية التي نهضت بها، وما زالت، قلوبنا وأرواحنا عبر التاريخ. وهذا بالفعل ما يقوم به دوبريه هنا، دون تعصب ولا تبشير، مستندا في ذلك إلى مستندات ووثائق وبنية حجاجية قوية، أراد من خلالها أن يُلفت انتباه المؤمنين كما “غير المؤمنين” إلى أمر غريب، أو غير مألوف لديهم، بتعبير أخفّ، يتمثل في جعلهم يرون المقدسَ كطريق للوصول إلى الدنيوي (المدنَّس)، والمتخيَّل كبوابة للولوج إلى الواقعي، وتمكينهم بالتالي من أن يفهموا دون غموض أو تفخيم في الكلام ما الذي تعنيه بالتدقيق مفاهيم: الأخُوة، والكراهية، والحرب، والهوية، والوحدة والسلام، وأن يدركوا كذلك أن الإنسان مجبول على الإيمان لأنه يضمن له توازنا يُمَكِّنه من عبور الحياة بشقاء أقل، وأن هشاشته النفسية لا تُخَوّله العيش دون قناعات أو معتقدات يُسنِد إليها رأسه ويشد بها عضده حتى لا ينهار في نقطة ما من رحلة العبور؛ فهو إذا “لم يؤمن بالله منذ حداثة سنه، فإنه سيؤمن لا محالة بلينين، أو بهتلر، أو بالدلاي لاما، أو بلاكان، أو بالبروليتاريا، أو ببُرْجه، أو بالجمهورية، أو بصهيون، أو بماو تسي تونغ، أو بالأمة، أو بزيدان، أو بنايكي أو بديزني”([1])، بل أحيانا كثيرة يجبره الاقتراب من خط نهاية عمره القصير على إسقاط قناعاته السابقة وتجديد إيمانه بالسماء إما خوفا من عقاب ممكن أو طمعا في ثواب محتمل أو عن تعلق خالص بالله على طريقة العشق الصوفي.

ربما لا نجانب الصواب إذا قلنا إن تزايد اهتمام الباحثين بالديني وبوظائفه في العقود الأخيرة يرجع في المقام الأول إلى ارتفاع منسوب الحقد والكراهية اللذين عبَّرت عنهما، قولا أو فعلا، بعض الطوائف الدينية المتعصبة، إلى جانب تصاعد أعمال العنف والقتل التي اكتوى بنارها عددٌ لا يستهان به من ساكنة العالم، في إطار ما عُرف بـ”انتقام الإله”([2]). على أن هذه الأعمال التي تم تصنيفها في خانة “الأعمال الإرهابية” لا ينبغي في نظر دوبريه أن نربطها رأسا بما بات يعرف بالنزعة الإسلاموية([3]) ونجعل منها كبش فداء، فقد خرجت، خلال القرن الماضي، حربان عالميتان من داخل القارة الأكثر إيمانا بالإنجيل بين القارات الخمس، ومع ذلك لا يحق لنا أن ندين المسيحية، لأن الإحصاءات تكشف أن الهند الإسلامية-الهندوسية تعرف معدلا إجراميا يضاهي في ارتفاعه ما نجده في الولايات المتحدة اليهودية-المسيحية. فهل نكون مخطئين حين نقحم السماء في شؤوننا الأرضية؟ لا يبدو الأمر كذلك، لأننا عندما نعود بالزمان إلى الوراء، ندرك أن الحرب في أثينا كما في روما كانت أيضا ذات مَنزع ديني، مع أنه ما ثبت يوما عبر التاريخ أن إله الجيوش قد صنع أسلحة أو أطلق نيرانا([4]) إلا ما كان مما تضمنته بعض كتب الأساطير. فأن يُلقي رجال الدين، في الديانات الرسالية الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام، بمسؤولية جرائمهم على السماء، فذلك في اعتقاد دوبريه ليس له سوى مبرر واحد، هو محاولتهم التملص من العقاب وتبرئة أنفسهم من أفعال ينسبونها إلى الإله بغير وجه حق، لأنهم يعلمون علم اليقين أنه لو أمكن “إخراج الديانات من الصراعات الكبرى التي تلهب الأرض حاليا، فإن جذوتها ستنطفئ لا محالة لغياب الوقود. ووقود هذه النيران المستعرة هو الإله الذي يُعد برميل البارود الذي ينبغي إخماده…”.([5]) لكنْ أليس الصواب أن يطردوا الخطيئة من صدورهم، بدل أن يعزوها إلى متعالٍ لا دخل له في ما يُنسب إليه إلا ما كان مِن اتخاذه مِشجبا تُعَلَّق عليه التُّهم من أجل التنصل من المسؤولية وإضفاء القداسة على حروب مدنّسَة؟

ينظر دوبريه إلى تداخل الإلهي بالدموي باعتباره أمرا ضاربا في القِدم، وحتى لو كان اللاهوت المتعالي يمارس تهديدا بسياسته المطلقة، فلا شيء من ذلك يدفع المرء إلى إدانة المطلق (=الإله) وتجريمه، لأن البشر هم من يشنون حروب الآلهة. وإذا كانت الديانات التوحيدية قد تمكنت من تغذية النار المقدسة هنا وهناك، فإنه لا يحق لنا أن نشير بالأصابع إلى دين مخصوص ونعتبره هو من أضرمها، مثلما أن الإلحاد لم يكن يوما مرادفا للسلام. ولْنجرؤ على الاعتراف بأن “الوحشية” ذات صلة بطبيعة الإنسان ذاته بوصفه حيوانا مُحرَّفا، مصابا بهذا المرض العضال الذي يحمل إسما مُبهِجا هو الثقافة.([6])

فهل تعد الثقافة هي السبب في الوحشية التي أبداها الإنسان على مدار تاريخه؟

يطلعنا دوبريه على أن ذلك ما حاول فرويد أن يوضحه لعدد من العلماء الذين كانوا مشدودين إلى ضرب من اليوتوبيا يقضي بأن “الحرب موافِقة للطبيعة، وأنها تستند إلى ما هو بيولوجي في الإنسان ولذلك بالكاد يمكن تجنبها عمليا”([7]). وقد حاول فرويد أن يوضح لهم بأن مفهوم الطبيعة قد التبس عليهم ولم يتمكنوا من إدراك ماهيته الحقيقية؛ لأن الطبيعة في مدلولها العام لا تمثل بالنسبة للطبيعة البشرية، في نظره، إلا ما يمثله القتل بالنسبة لطقس القربان، أو ما يمثله القتل دفاعا عن النفس بالنسبة للقتل الذي نعاينه في هيئات مختلفة للكائن البشري لدوافع متباينة. فأبناء جنسنا لا يتقاتلون فيما بينهم ليأكل بعضهم بعضا، مثلما هو حاصل لدى الحيوانات التي تحركها غريزة البقاء، ولذلك لا دخل للطبيعة والحياة في حروب البشر، ولا يبدو أن محرك الحرب بيولوجي وإنما ثقافي صرف، وهو ما يُصَعِّبُ من أمر “تفاديها عمليا”.([8])

بناء على ذلك، يرى دوبريه أن العودة إلى قاموس المفردات القديمة من شأنها أن توقفنا على تمييز في غاية الأهمية، بين كلمة حضارة – “بما هي مفهوم يدل على مجموعة من الاستعدادات العامة الكونية القابلة للنقل”- وكلمة ثقافة – التي تعني أسلوبا خاصا في الحياة لا يقبل النقل إلى الجميع”، أو “هي مجموعة من السمات المميزة، أو السلوكات أو القيم التي تَسِمُ شعبا معينا” – وبموجب هذا التمييز فإن الديني يدخل في خانة “الثقافة”، وهذا من شأنه أن ينسف الحلم المُطَمْئِن بحضارة بلا ثقافات، أو بحضارةٍ تحضنها جميعا. ومثلما تتحطم سفينة الحب على صخرة الواقع اليومي، يتحطم هذا الحلم الجميل على صخرة الأديان. وكما تتوحد الشعوب في معادلاتها وأدواتها، فهي تتفرق في أذواقها وصلواتها؛ فتصير طرُقها في الحساب وصنع الآلات – العلم والتقنية – قابلة للتبادل، أما الأصوات التي تخرج من أفواهها وأحلامها – اللغة والتدين- فلا يحدث أن تتوافق([9])، لأن الثقافة، في معناها الإثنولوجي، لا توجد إلا حيث يرتسم حد معين، والحد عزلة كما لا يخفى، والعزلة تقديس للذات وإعلاء من شأنها، وربما انطوت على قدر قليل أو كثير من ازدراء الآخر، ولذلك كان مصير كل منعزل أن يكون مكروها ومعشوقا في الآن ذاته، وتلك أيضا طبيعة المقدس الذي يتماهى مع الثقافة بما هي وجه يحمل خلفه قفًا اسمها الوحشية. ففي النهاية لم يتسبب في شقاء الإنسان سوى الإنسان، وتلك نتيجة ثابتة ومحسومة مهما حاولنا تبريرها وتسويغها بالصورة التي تخدم مآربنا أو أحلامنا أو أوهامنا؛ فليست كائنات خارقة للطبيعة هي من أضفت صفة الألوهية على أبطال ميتين، وألّهت الوطن، وخلّدت الجنود الذين قضوا دفاعا عن القضية التي أُطلق عليها هنا وهناك اسم “الحرب المقدسة” (من أجل الوطن، من أجل ستالين…)، وليست حقوق الإنسان، التي تمثل المُطلق بالنسبة للنسبيين، بمنأى عن المساءلة مثلما أنها ليست خيرا مطلقا كما يتوهم البعض، فعلاوة على أنها لم تفلح أبدا في الحيلولة دون قصف رياض الأطفال والعُزل والنساء والعجزة وغيرهم، فقد اتُّخذت مطية لانتهاك حقوق الإنسان، وباسم النزعة الإنسانية أُبيد الإنسان. ولهذا ما من ديانة خيّرة بالفطرة، أو سيئة بالمطلق؛ جميعها تمنح بعض الفوائد لأعضائها مع بعض الإجحاف الذي تبدو قيمته متساوية بينها تقريبا. .
المزيد..

تعليقات القرّاء:

انهجس الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه منذ بداياته الأولى في التأليف، بالتنظير والتقعيد للوسائطيات، باعتبارها دراسة لمختلف أشكال الوسائط التي يعتمدها البشر في تعاملاتهم واتصالاتهم الحياتية، وقد بذل في ذلك جهدا جهيدا نصَّبه رائدَ هذا المبحث ومؤسسَه الرئيس بإجماع الباحثين. واللافت في الأمر أن دوبريه لم يكتفِ بالتصدي للوسائطية في العالم المنظور وحده بل جعلها تمتد لتشمل العالم غير المنظور، العالم الآخر بكل عناصره ومقوماته، كاشفا النقاب عن صلة الإنسان بالإلهي وتجلياتها في الديانات التوحيدية كما في غيرها من أشكال التدين والتعبد الأخرى، معتبرا إياها جميعا ظواهر في حاجة ماسة إلى تحليل “ميديولوجي”، يفحص الأفكار الدينية، والأسناد التقنية التي توظفها لبث رسائلها، فضلا عن المؤسسات التي تُنَصِّب نفسها قَيِّمَة على الشأن الديني.

هكذا وبعد كتابه “الإله. خط سير”، وسّع دوبريه مجال بحثه دافعا بمنهجه إلى أقصى مداه ليتأتى له الكشف عن أساسيات الإنسان المتدين في الغرب كما في مناطق أخرى، بصرف النظر عما إذا كان هذا الإنسان يعبد إلها واحدا، أو ألْفًا، أو لا أحد.

وهو في هذا السِّفر يرصد تجليات وتبعات “النار المقدسة” التي كانت ولا تزال وستظل باقية، بتقلباتها وتناقضاتها، في قلب المدينة ما بقي الإنسان في الوجود، كما يقف بدقة على مجمل الاختلافات القائمة بين الجانب الديني ووظائفه والجانب الروحي وتجسداته.

فما الجدوى من الأديان؟ وما عسانا نفعل بها؟ وكيف نفكر فيها؟

حجر الأرض إمتاع عابر للحقول

بطل الجبل

أول ما يستوقفنا في هذه الأسئلة أنها لا تسائل الدين بل الأديان، وهي مسألة يقصدها دوبريه وينافح عنها لاقتناعه بأن الدين على وجه الإجمال لا وجود له؛ ويجب ألا نستخدم اللفظ الدال عليه إلا بصيغة الجمع. وليس مردّ ذلك في اعتقاده إلى تشتت الظاهرة الدينية، ولا تجانس مكوناتها، وصعوبة التعامل بنفس الكيفية مع ديانة سماوية وديانة ملحدة وغيرهما من ضروب التدين الأخرى، فحسب، ولكن لأن مبرر وجود الأديان جميعا هو أن تتميز بعضها عن بعض، لأن حياتها في تميزها واختلافها لا في توحدها كما يعتقد الحالمون.

ومع ذلك، يحذرنا دوبريه من مغبة تقديم أجوبة عجلى على أسئلة من هذا القبيل، لأنها ببساطة من نوع الأسئلة الملغومة التي تحمل معها إرثا تاريخيا مديدا يستوجب أخذ الوقت الكافي والتزام الهدوء والتريث في التعامل معه. كما يقتضي أن نفحص، دونما غشاوة ودون أحكام مسبقة جاهزة، الوظائف الحيوية والاجتماعية والنفسية التي نهضت بها، وما زالت، قلوبنا وأرواحنا عبر التاريخ. وهذا بالفعل ما يقوم به دوبريه هنا، دون تعصب ولا تبشير، مستندا في ذلك إلى مستندات ووثائق وبنية حجاجية قوية، أراد من خلالها أن يُلفت انتباه المؤمنين كما “غير المؤمنين” إلى أمر غريب، أو غير مألوف لديهم، بتعبير أخفّ، يتمثل في جعلهم يرون المقدسَ كطريق للوصول إلى الدنيوي (المدنَّس)، والمتخيَّل كبوابة للولوج إلى الواقعي، وتمكينهم بالتالي من أن يفهموا دون غموض أو تفخيم في الكلام ما الذي تعنيه بالتدقيق مفاهيم: الأخُوة، والكراهية، والحرب، والهوية، والوحدة والسلام، وأن يدركوا كذلك أن الإنسان مجبول على الإيمان لأنه يضمن له توازنا يُمَكِّنه من عبور الحياة بشقاء أقل، وأن هشاشته النفسية لا تُخَوّله العيش دون قناعات أو معتقدات يُسنِد إليها رأسه ويشد بها عضده حتى لا ينهار في نقطة ما من رحلة العبور؛ فهو إذا “لم يؤمن بالله منذ حداثة سنه، فإنه سيؤمن لا محالة بلينين، أو بهتلر، أو بالدلاي لاما، أو بلاكان، أو بالبروليتاريا، أو ببُرْجه، أو بالجمهورية، أو بصهيون، أو بماو تسي تونغ، أو بالأمة، أو بزيدان، أو بنايكي أو بديزني”([1])، بل أحيانا كثيرة يجبره الاقتراب من خط نهاية عمره القصير على إسقاط قناعاته السابقة وتجديد إيمانه بالسماء إما خوفا من عقاب ممكن أو طمعا في ثواب محتمل أو عن تعلق خالص بالله على طريقة العشق الصوفي.

ربما لا نجانب الصواب إذا قلنا إن تزايد اهتمام الباحثين بالديني وبوظائفه في العقود الأخيرة يرجع في المقام الأول إلى ارتفاع منسوب الحقد والكراهية اللذين عبَّرت عنهما، قولا أو فعلا، بعض الطوائف الدينية المتعصبة، إلى جانب تصاعد أعمال العنف والقتل التي اكتوى بنارها عددٌ لا يستهان به من ساكنة العالم، في إطار ما عُرف بـ”انتقام الإله”([2]). على أن هذه الأعمال التي تم تصنيفها في خانة “الأعمال الإرهابية” لا ينبغي في نظر دوبريه أن نربطها رأسا بما بات يعرف بالنزعة الإسلاموية([3]) ونجعل منها كبش فداء، فقد خرجت، خلال القرن الماضي، حربان عالميتان من داخل القارة الأكثر إيمانا بالإنجيل بين القارات الخمس، ومع ذلك لا يحق لنا أن ندين المسيحية، لأن الإحصاءات تكشف أن الهند الإسلامية-الهندوسية تعرف معدلا إجراميا يضاهي في ارتفاعه ما نجده في الولايات المتحدة اليهودية-المسيحية. فهل نكون مخطئين حين نقحم السماء في شؤوننا الأرضية؟ لا يبدو الأمر كذلك، لأننا عندما نعود بالزمان إلى الوراء، ندرك أن الحرب في أثينا كما في روما كانت أيضا ذات مَنزع ديني، مع أنه ما ثبت يوما عبر التاريخ أن إله الجيوش قد صنع أسلحة أو أطلق نيرانا([4]) إلا ما كان مما تضمنته بعض كتب الأساطير. فأن يُلقي رجال الدين، في الديانات الرسالية الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام، بمسؤولية جرائمهم على السماء، فذلك في اعتقاد دوبريه ليس له سوى مبرر واحد، هو محاولتهم التملص من العقاب وتبرئة أنفسهم من أفعال ينسبونها إلى الإله بغير وجه حق، لأنهم يعلمون علم اليقين أنه لو أمكن “إخراج الديانات من الصراعات الكبرى التي تلهب الأرض حاليا، فإن جذوتها ستنطفئ لا محالة لغياب الوقود. ووقود هذه النيران المستعرة هو الإله الذي يُعد برميل البارود الذي ينبغي إخماده…”.([5]) لكنْ أليس الصواب أن يطردوا الخطيئة من صدورهم، بدل أن يعزوها إلى متعالٍ لا دخل له في ما يُنسب إليه إلا ما كان مِن اتخاذه مِشجبا تُعَلَّق عليه التُّهم من أجل التنصل من المسؤولية وإضفاء القداسة على حروب مدنّسَة؟

ينظر دوبريه إلى تداخل الإلهي بالدموي باعتباره أمرا ضاربا في القِدم، وحتى لو كان اللاهوت المتعالي يمارس تهديدا بسياسته المطلقة، فلا شيء من ذلك يدفع المرء إلى إدانة المطلق (=الإله) وتجريمه، لأن البشر هم من يشنون حروب الآلهة. وإذا كانت الديانات التوحيدية قد تمكنت من تغذية النار المقدسة هنا وهناك، فإنه لا يحق لنا أن نشير بالأصابع إلى دين مخصوص ونعتبره هو من أضرمها، مثلما أن الإلحاد لم يكن يوما مرادفا للسلام. ولْنجرؤ على الاعتراف بأن “الوحشية” ذات صلة بطبيعة الإنسان ذاته بوصفه حيوانا مُحرَّفا، مصابا بهذا المرض العضال الذي يحمل إسما مُبهِجا هو الثقافة.([6])

فهل تعد الثقافة هي السبب في الوحشية التي أبداها الإنسان على مدار تاريخه؟

يطلعنا دوبريه على أن ذلك ما حاول فرويد أن يوضحه لعدد من العلماء الذين كانوا مشدودين إلى ضرب من اليوتوبيا يقضي بأن “الحرب موافِقة للطبيعة، وأنها تستند إلى ما هو بيولوجي في الإنسان ولذلك بالكاد يمكن تجنبها عمليا”([7]). وقد حاول فرويد أن يوضح لهم بأن مفهوم الطبيعة قد التبس عليهم ولم يتمكنوا من إدراك ماهيته الحقيقية؛ لأن الطبيعة في مدلولها العام لا تمثل بالنسبة للطبيعة البشرية، في نظره، إلا ما يمثله القتل بالنسبة لطقس القربان، أو ما يمثله القتل دفاعا عن النفس بالنسبة للقتل الذي نعاينه في هيئات مختلفة للكائن البشري لدوافع متباينة. فأبناء جنسنا لا يتقاتلون فيما بينهم ليأكل بعضهم بعضا، مثلما هو حاصل لدى الحيوانات التي تحركها غريزة البقاء، ولذلك لا دخل للطبيعة والحياة في حروب البشر، ولا يبدو أن محرك الحرب بيولوجي وإنما ثقافي صرف، وهو ما يُصَعِّبُ من أمر “تفاديها عمليا”.([8])

بناء على ذلك، يرى دوبريه أن العودة إلى قاموس المفردات القديمة من شأنها أن توقفنا على تمييز في غاية الأهمية، بين كلمة حضارة – “بما هي مفهوم يدل على مجموعة من الاستعدادات العامة الكونية القابلة للنقل”- وكلمة ثقافة – التي تعني أسلوبا خاصا في الحياة لا يقبل النقل إلى الجميع”، أو “هي مجموعة من السمات المميزة، أو السلوكات أو القيم التي تَسِمُ شعبا معينا” – وبموجب هذا التمييز فإن الديني يدخل في خانة “الثقافة”، وهذا من شأنه أن ينسف الحلم المُطَمْئِن بحضارة بلا ثقافات، أو بحضارةٍ تحضنها جميعا. ومثلما تتحطم سفينة الحب على صخرة الواقع اليومي، يتحطم هذا الحلم الجميل على صخرة الأديان. وكما تتوحد الشعوب في معادلاتها وأدواتها، فهي تتفرق في أذواقها وصلواتها؛ فتصير طرُقها في الحساب وصنع الآلات – العلم والتقنية – قابلة للتبادل، أما الأصوات التي تخرج من أفواهها وأحلامها – اللغة والتدين- فلا يحدث أن تتوافق([9])، لأن الثقافة، في معناها الإثنولوجي، لا توجد إلا حيث يرتسم حد معين، والحد عزلة كما لا يخفى، والعزلة تقديس للذات وإعلاء من شأنها، وربما انطوت على قدر قليل أو كثير من ازدراء الآخر، ولذلك كان مصير كل منعزل أن يكون مكروها ومعشوقا في الآن ذاته، وتلك أيضا طبيعة المقدس الذي يتماهى مع الثقافة بما هي وجه يحمل خلفه قفًا اسمها الوحشية. ففي النهاية لم يتسبب في شقاء الإنسان سوى الإنسان، وتلك نتيجة ثابتة ومحسومة مهما حاولنا تبريرها وتسويغها بالصورة التي تخدم مآربنا أو أحلامنا أو أوهامنا؛ فليست كائنات خارقة للطبيعة هي من أضفت صفة الألوهية على أبطال ميتين، وألّهت الوطن، وخلّدت الجنود الذين قضوا دفاعا عن القضية التي أُطلق عليها هنا وهناك اسم “الحرب المقدسة” (من أجل الوطن، من أجل ستالين…)، وليست حقوق الإنسان، التي تمثل المُطلق بالنسبة للنسبيين، بمنأى عن المساءلة مثلما أنها ليست خيرا مطلقا كما يتوهم البعض، فعلاوة على أنها لم تفلح أبدا في الحيلولة دون قصف رياض الأطفال والعُزل والنساء والعجزة وغيرهم، فقد اتُّخذت مطية لانتهاك حقوق الإنسان، وباسم النزعة الإنسانية أُبيد الإنسان. ولهذا ما من ديانة خيّرة بالفطرة، أو سيئة بالمطلق؛ جميعها تمنح بعض الفوائد لأعضائها مع بعض الإجحاف الذي تبدو قيمته متساوية بينها تقريبا.



سنة النشر : 2018م / 1439هـ .
عداد القراءة: عدد قراءة النار المقدسة - وظائف الديني

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:


شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

المؤلف:
ريجيس دوبريه - Debray Debray

كتب ريجيس دوبريه ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ حياة الصورة وموتها ❝ ❞ نقد العقل السياسي ❝ ❞ كى لانستسلم ❝ ❞ النار المقدسة - وظائف الديني ❝ الناشرين : ❞ المركز الثقافي العربي ❝ ❞ دار دال للنشر والتوزيع ❝ ❞ إفريقيا الشرق ❝ ❱. المزيد..

كتب ريجيس دوبريه
الناشر:
دار دال للنشر والتوزيع
كتب دار دال للنشر والتوزيع ❰ ناشرين لمجموعة من المؤلفات أبرزها ❞ ألف شمس ساطعة ❝ ❞ عداء الطائرة الورقية ❝ ❞ كم تأخر الزمن ❝ ❞ هوس العمق وروايات أخرى ❝ ❞ أبناء الأيام ❝ ❞ ناتالي.. والبحث عن الرقة ❝ ❞ ألف شمس مشرقة ❝ ❞ الاسم على طرف اللسان ❝ ❞ أفيون ❝ ❞ أبناء الأيام رواية لـ إدواردو غليانو ❝ ومن أبرز المؤلفين : ❞ خالد حسيني ❝ ❞ إدواردو غاليانو ❝ ❞ باتريك زوسكيند ❝ ❞ إيزابيل ألليندي ❝ ❞ إدواردو غليانو ❝ ❞ غونتر غراس ❝ ❞ ريجيس دوبريه ❝ ❞ ديفيد فوينيكوس ❝ ❞ جيمس كيلمان ❝ ❞ باسكال كينيارد ❝ ❞ ماكزانس فيرمين ❝ ❱.المزيد.. كتب دار دال للنشر والتوزيع