❞ كتاب الشرق والغرب ❝  ⏤ ريني غينون

❞ كتاب الشرق والغرب ❝ ⏤ ريني غينون

في قلب الحضارة الغربية التي أخرجت الروح نهائيًا من الإنسان، جاءت هذه الروح المستنيرة المتمثلة في الشيخ “عبد الواحد يحي” (رينيه جينو)، لتضيء قبسًا من نور في عصر الظلمة الذى طال أوروبا المثقلة بأوهام المادة، وليعيد الاعتبار إلى الحضارة التراثية التقليدية، حضارة الروح والمقدس في زمن الأوهام والكذب والتضليل، فاتجه “عبد الواحد يحي” إلى التشخيص والعلاج، ولم يدع سعيًا جادًا إلا بذله بعد هدمه لمرتكزات الحضارة الغربية المتمثلة في وهم التقدم، ووهم العلم الحديث؛ في أن يبحث عن الحل والبديل لهذه الحضارة القابعة في أزمة روحية من خلال إعادة الوصل بين الحضارة والتراث الأصيل، ويقصد به هنا الشرق الموصول بالشرائع الربانية، التي أضاعتها الصيحات الحداثية، واللهفة وراء التطور المادي، بالإضافة إلى الغرق في متاهات العلوم المادية بدون اعتبار لأصولها العلوية، فهي حضارة مفرغة من محتواها الروحي، وكل هذا بمنهج علمي متفرّد، وهنا تكمن عبقرية رينيه جينو وتمّيزه عن الآخرين، فبهذا يعتبر من أبرز الباحثين الذين كان لهم الأثر الكبير في الفكر الغربي؛ بحيث قلب نقده للحضارة الغربية الكثير من القناعات الفكرية والعقائدية.

ألف رينيه جينو كتاب” الشرق والغرب” عام 1924، بعد الحرب العالمية الأولى، وإلغاء الخلافة الإسلامية فى تركيا، وتمكّن الاستعمار الأوروبى من الهيمنة على جُلّ بلدان العالم الإسلامي، وانتشار الإلحاد العلماني الذي اكتسح الغرب، والإلحاد الشيوعي خصوصًا بعد تأسيس الاتحاد السوفيتى عام 1922. فمن خلال هذا الكتاب يتم التعرف على وجهة نظر جينو حول الغرب وحضارته، كذلك يعد دليلا واضحا لنقد الفكر الغربي الحديث -أصولًا وفروعًا – ضرب به جينو الحضارة الغربية في أوج تفوقها الظاهر على حضارات الشرق، وقال لهم أن ما هذه الحضارة إلا أسفل ما وصل له البشر انحطاطًا! فقد فقدت هذه الحضارة كل أثر للعلم الرباني عندها، فلم يعد عندها سوى ما هو دونه.

يستهل الكتاب بمقدمتين إحداهما للمترجم والأخرى للكاتب.

وقد جاءت مقدمة المترجم الممتعة في 75 صفحة تقريبا، تعرض فيها المترجم (د. أسامة شفيع) الى قصته الشخصية مع رينيه جينو، ثم لمحات من حياة رينيه جينو، ثم انتقل الى البعد المعرفي لدى جينو بدراسة عن العلم اللدني بين جينو والشيخ محيي الدين ابن العربي ( علما بأن رسالة الماجستير للمترجم كانت حول “الفكر الفقهي عند محيي الدين ابن العربي)- ثم تعرض د. أسامة لإشكالية التعبير عن المعارف الوهبية في اللغات الغربية، ثم انتقل الى موضوع الرمزية عند جينو، وأخيرا دخل في الموضوع الرئيسي للمقدمة وهو كتاب الشرق والغرب الذي بين أيدينا، وانتقل بعد ذلك الى موضوع “التغريب” و”التحديث” بين جينو وصامويل هتنجتون.

وينقسم الكتاب -بعد المقدمة- إلى قسمين كبيرين، يضمُّ كل واحد منهما أربعة فصول، ثم خاتمة، كذلك يتشابه المؤلف في ترتيب فصوله بنهجِ الصوفية في تربيتهم؛ فيبدأ في القسم الأول أوهام غربية بتخلية العقلية الغربية مما رسخ فيها من أباطيل، ثم يُسلط الضوء في القسم الثاني على وسائل التقارب بذكر السبيل التي يراها إذا ما أُرِيدَ للغرب والشرق أن يتقاربا.

فصول الكتاب

مقدمة الترجمة: النقد الروحى للحضارة الغربية الحديثة: نظرات فى فكر رينيه جينو

مقدمة المؤلف:

القسم الأول: أباطيل غربية

الفصل الأول: الحضارة والتقدم

الفصل الثاني: خرافة العلم

الفصل الثالث: خرافة الحياة

الفصل الرابع: مخاوف وهمية وأخطار حقيقية

القسم الثاني: إمكانات التقارب

الفصل الأول: مساعٍ فاشلة

الفصل الثاني: الوفاق على المبادىء

الفصل الثالث: تكوين النخبة ودورها

الفصل الرابع: وفاق، لا اندماج

الخاتمة:

القسم الأول

أباطيل غربية

يُسلط الكاتب في هذا الفصل الضوء على أوهام الغربيين وأوثانهم، حيث يرى الغربيون أنَّه يوجد نمط واحد من البشر، وأنه لا يوجد إلا حضارة واحدة هي الحضارة الغربية، وهي في ماديتها وكبرها الزائف تُباين غيرها، وأكد على أن تلك الحضارة تقبع فى وهم المادية، كذلك لا تكاد تجاوزها، وهي إذ تحاول أن تسد احتياجًا بشريًا فهي تخلق مائة احتياج آخر مكانه، وهكذا يبقى الإنسان الذي يعيش في ظلها محتاجًا دائمًا؛ وهذا سر من أسرار تعاستها الخاصة وبؤسها العميق، كما أوضح أن أوثان الحداثة تتمثل فى اللهفة وراء التطور المادى المبتور عن كل ترق روحي، وفى تأليه الفكر المقطوع عن الوحى الرباني، وفى متاهات التكديس والتكاثر للتقنيات والعلوم المادية دون اعتبار لأصولها العلوية.

بجانب ذلك، أشار جينو إلى أنها تسعى إلى تكثير الحاجات المُصطنعة، وهي لم تزل آخذةً في خلق حاجاتٍ جديدةٍ لن تستطيع إشباعها، وهي ترى بعض الآراء، وتعتقد بعض الاعتقادات ترى فيها الحق المطلق، ولا تكتفي بالإيمان بها فحسب، ولكنها تُبشر بها وتحاول فرضها على الآخر بكل طريقة ممكنة، في هذا الصدد يقول الكاتب، وقد بدأ بعضُ الناس يدركون أن الأمور لا يمكن أن تجري على هذا النحو إلى أجل غير مُسمى، بل بدؤوا يتحدثون عن إفلاس هذه الحضارة، كما لو كان أمرًا ممكنًا، كما حذر قائلاً “ومن تأمل التطور المستمر في وسائل الدمار، والدور الذي تؤديه في الحروب العالمية، وتأمل كذلك التوقعات المُقلقة التي تبعثها في النفوس بعض المخترعات، لم يُنكر إمكانَ وقوعِ كارثة، والحق أن الحال الذي انتهينا إليه لا تُعوِزُ إلى كثير من الخيالِ لتصور الغرب وقد حل به الدمار، إما بسبب حرب هائلة، وإما بآثار غير متوقعة لمُنْتَجٍ -إذا أُسيء استعماله- لا أقول: مصنعًا ولا مدينة، ولكن قارة بأكملها”.

وعليه، حاول ” عبد الواحد يحي” حصر القسم الأول من الكتاب في أربعة فصول، يأتي في مقدماتها الحضارة والتقدم، ثم خرافة العلم، ثم خرافة الحياةـ، مخاوف خيالية وأخطار حقيقية.

وفي إطار الوقوف على جذور مفهوم الحضارة الغربية، يذكر رينيه جينو إن الحضارة هى الحضارة التى تجمع بين الجانبين المادى والروحى للإنسان والحياة؛ بمعنى آخر هى كل إنتاج وإرث مادى وروحى للشعوب، ولهذا كان عبد الواحد يحي معترضًا وقلقًا على وضع الحضارة الغربية، فلم يبال بأن وصفها “بالشذوذ” وبأنها لا تشغل فى التاريخ مكانًا مميزًا، حيث يقول فى كتابه ” فى مسار التاريخ، تظهر الحضارة الغربية كشذوذ حقيقى، فهى الوحيدة من بين كل الحضارات المعروفة التى تطورت فى اتجاه مادى بحت، وهذا التطور الشاذ، الذى تطابقت بدايته مع ما اتفق على تسميته بعصر النهضة، صاحبه ماكان حتمى الوقوع، وهو ارتداد فى الميدان العرفاني، متناسب مع ذلك التطور، غير مكافىء له، لأنهما مجالين متباينين”، فجينو يرى أن التطور المادي والمعرفة الروحية على طرفي نقيض، فمن اقترب من أحدهما ابتعد عن الآخر حتما. وإن من أشد ما يأخذه الكاتب على النموذج الحضارى الغربى هو “التحيز” التى تحرص هذه الحضارة على غرزه فى ذهنية أفرادها، وكذلك أحكامها المسبقة على باقى الحضارات الأخرى خصوصًا الشرقية منها.

ويرى رينو أن تحيز وأنانية الحضارة الغربية يتجليان بوضوح، كذلك يذكر أن المساواة عندهم لا تسمح للشعوب والأجناس الأخرى أن تكون لها عقيدتها الخاصة بها، فالشرقيون الأكثر ثقافة وحضارة، والشعوب الأكثر بربرية يعاملون تقريبًا بنفس الكيفية لأنهم خارج محيط الحضارة الوحيدة التى لها الحق فى الوجود، فمن خلال وهم الحضارة الغربية لتفردها ومركزيتها، ترسخت وتجذرت فى أذهان أفرادها خصوصًا في العصر الحديث، أحكامًا مسبقة لتفوقها وتقدمها وعدم الاعتراف بوجود حضارة أو حضارات متفوقة على حضاراتهم سواء فى الماضى أو فى الحاضر، عدا الحضارة اليونانية التى مهدت لهم، على الرغم من الكثير من الشعارات الزائفة كـ “المساواة” و”الديمقراطية” التى تتغنى بها هذه الحضارة المزهوة والمغرورة بتطورها وتقدمها، فإنها تدعى بأنها الحضارة الوحيدة المختارة لحكم الكون، كما ادعى اليهود أنهم شعب الله المختار؛ لذلك يهدم جينو فى كتابه وهم الحضارة العالمية.

وفى هذا السياق، ينتقل جينو إلى الحديث عن إهمال الحضارة الغربية الجانب الروحى مما أدى إلى شقائها، فالتقدم من المنظور الغربى لا يعنى غير التطور الحادث فى جانبه المادى فحسب، هذا الأمر الذي جعلهم ينكرون كل معنى آخر للحضارة، ومن ثم التنكُّر لمن خالفها من أصحاب الحضارات الأخرى، مؤكدًا على أن الحضارات الشرقية قد سكبت نشاطها فى الجوانب الروحية، على النقيض تمامًا من حضارة الغرب الحديث.

فى استطراد سريع أشار الكاتب إلى العلاقة بين المستشرقين ووهم التقدم الذى غرقت فيه الحضارة الغربية، حيث شحنت الأحكام المسبقة الكثير من المستشرقين، فمالوا إلى هذا الوهم العظيم وأنكروا الحقيقة التى تقول بوجود حضارات سابقة عرفت التقدم والتحضر، وأن الغرب استقى منها مبادىء بعض علومها ومعارفها، ويُؤكد هنا جينو أن بين أولئك المستشرقين ميل جارف إلى إسقاط كل الحضارات القديمة كلما أمكن، وغالبًا ما يقدمون على هذا رغم أنف أى منطق، كما لو كانوا يشعرون بالحرج من حقيقة استطاعة تلك الحضارات فى أزمانٍ غابرة أن تعيش فى أوجها. وهكذا أصبح الغربيون ينظرون إلى غيرهم نظرة دونية.

فى هذا الصدد، يؤكد جينو على إن ما تجهله الحضارة الغربية أن الحضاراتِ كثيرة ومتنوعة، وأنها تفيد بعضها بعضًا، وأن كل حضارة لها مسارها الخاص الذي تتخذه، وهي تتقدم تارة وتتراجع أخرى، بل ربما وقع لها التقدم والتراجع في زمانين مختلفين، ومن ثم يوضح جينو إن الحل الوحيد من وجهة نظره حتى يقبلَهم الناسُ، وحتى يتخلصوا من بؤس ماديتهم، أن يتخلوا عن فكرة ضرورة استيعاب الآخرين، وفرض أنفسهم على أنهم الحضارة التي لا يأتيها الباطل أبدًا، وأن يتحلوا بالمشاركة الحضارية في جميع المجالات، ويرى الكاتب أن إنجاز هذا يقتضي نوع من التغيير فى عقلية الغربيين.

وقد لاحظ الكاتب، أن الغربيين رفعوا شعار البحث الحر عاليًا، والذي يعني ضمن ما يعنيه إهدار كل مبدأ عَلِيٍّ يسمو على الآراء الشخصيّة؛ مما أدّى إلى نوع من الاضطراب الفكري، وإلى ظهور هذه الكثرة الكاثرة من المذاهب والفلسفات التي تعتمد على العقل أو الحس أو الشعور لا غير، وتتنكر لما فوق ذلك أو دونه.

ثم ينتقل جينو لتوضيح كيف يتبنى الغرب نظرية التقدم، موضحًا أن حضارة الغرب الحديث، تنظر إلى الثبات على أنه معيار للتقهقر، وإلى التغّير على أنه معيار للتقدم، الأمر الذي جعلهم مهووسين بالتجديد الدائم، ما جعلهم يفتقرون دائمًا إلى قاعدة روحية صلبة تدثّرهم من الضياع والانحلال والتلاشي، وبهذا الاعتبار رفض جينو فكرة “التقدم اللامحدود”، ومضمونها أن الإنسانية فى جملتها في تطور مستمر متصاعد خطيًا مع الزمن، وهذه رؤية تبسيطية إلى أبعد حد، تتناقض مع كل الوقائع المعروفة.

ويوضح جينو أن التاريخ يبين لنا فى كل عصر وجود حضارات مستقلة عن بعضها البعض، بل هى فى غالب الأحيان متباينة، وبعضها يولد ويتطور بينما الأخرى تهوي نحو التلاشى، وتموت أو تزول بفعل إحدى الكوارث، والحضارات الجديدة لا ترث دومًا سابقاتها، فحسب تصوره لا توجد حضارة متقدمة على شكل خطّى بحيث لاتموت ولا تتعثر؛ فالتاريخ يعطينا الكثير من الدلائل على ذلك، لذلك فالتقدم المزعوم للحضارة الغربية هو تقدم ينذر بفنائها.

يذكر الكاتب فى هذا القسم أن الحضارة الغربية لا تقوم على مبدأ يوحدها، أى أنها فاقدة للمبدأ؛ ولأنها ألفت هذا التغيير والتشتت، فإنها تعتقد أن الثبات يعنى نبذ كل تغيير، وأنه منافٍ للتطور والتقدم، بل وتعتقد أن ديمومة التغيير الذي تعيشه ضرب من ضروب التقدم، هذا الذي يراه جينو ضربًا من ضروب التخبط وعدم الاهتداء إلى سبيل سواء، لذا تراه يرى أن الثبات على مبدأ جامع لا يعنى التخلف وعدم المضي قدمًا، ولكنه يعني قصر التغير أبدًا على ما كان تكيفًا للظروف، ولا يؤثر على المبادىء العليا قط.

وفى سياق الحضارة الغربية التى تسلك المسلك المادى المحض، يقول جينو أن العقلانية الحديثة بدأت مع ديكارت، ثم انتشر أثرها فى الفلسفة الحديثة كلها، وأن الميتافيزيقا التى قال بها ديكارت ميتافيزيقا زائفة، وليست من الميتافيزيقا الحقة فى شىء؛ لأن الميتافيزيقا هى المبادىء ذات الطابع الكلى، وبغيابها ستكون المعرفة فاقدة المبدأ وستفقد العمق والمضمون. لقد انحسر ذكاء الحضارة الغربية تحت هيمنة النزعة التقدمية فى المجال المادى، وبالأخص فى مجال الاختراعات التقنية، حيث أصبح مفهوم العبقرية يقترن باختراع ما يقع مباشرةً فى نطاق الحواس، أى ما يمكن أن يحقق المنفعة المباشرة بشكل ملموس، فى هذا الصدد يشير الكاتب أنه لا ينكر التقدم المادى ولا يرفضه، لكنه يرفض التقدم بالمفهوم الحداثى الذى هيمن على الحضارة الغربية، والذى يتناقض مع العرفان الخالص بل يسحقه، من ثم يعيب الكاتب على سوء فهم الحضارة الغربية معنى “المادى” و”الروحانى”، وكأن الإنسان فى منظورهم لا يمكن أن يحصٍل الغايتين معَا فى الدنيا.

ثم ينتقل جينو فى هذا القسم الى الحديث عن العلم الحديث الذي ظلت الحضارة الغربية تفاخر به، وتستعلي به على بقية الحضارات، وتتخذه أداة للهيمنة، هو عنده عبارة عن دراية خارجية سطحية، فإن انحطاط العلم الحديث ودونيته عند الكاتب يتجليان فى الطابع التحليلي للعلوم التجريبية، حيث يقول إن العلم الغربى تحليل وتشتت، والمعرفة الشرقية تجميع وتركيز، لذلك يعتقد جينو أن “الإجلال الخرافى” للعلم الحديث، بمعنى قداسة العلم الحديث عند الغرب نابع من كونه يلبي المطالب المادية.

فالعلم الحديث لا يقيم اعتبارًا للتأمل المجرد ويحصر الحياة فى الجانب التطبيقى العملى، بالإضافة إلى أن التقنية كأكثر مظاهر العلم الحديث لم تخدم الجوانب الروحية بقدر ما زادت فى تغذية النوازع الغريزية التى تصب فى خدمة الجسد، فأصبح الجسد اليوم مصدرًا للثروة داخل منظومة الاقتصاد السلعي.

ويسترسل جينو فى تقسيم العلوم إلى ثلاثة أقسام: علم العقل، وعلم الأحوال، وعلم الأسرار. أما علم العقل؛ فهو كل علم يمكن تحصيله بالنظر في الدليل، وهو المُعبر عنه بالمنظومة العقلية، وإليها تُنسب جميع علوم المُحدثين ومذاهبهم الفلسفية والفكرية. وأما علم الأحوال؛ فهو العلمُ الذي يتحصل عن طريق الذوق، وهو ما دون علم العقل، ومجاله عالَم الطبيعة، أو جزء صغير منه. وعلم الأسرار: هو العلم الذي فوق طور العقل، وتمثله المنظومة الميتافيزيقية التي يصفها جينو بأنها جامعة وكلية. لذا لم يكن عجيبًا أن يَعُدّ جينو علمَ الأحوال أدنى مراتب العلوم، وأن يكون علمُ الأسرار أعلاها، وأن يتوسط علمُ العقل بينهما.

يختتم الكاتب هذا القسم برفضه النموذج الغربي كنموذج حضاري وحيد يفوق كل النماذج الحضارية الأخرى لما فيه من تميز للصفات المادية على حساب الصفات الروحية، ويظهر هذا فى الهجوم الشرس على الطبيعة البشرية كمفهوم مرجعى للعلوم الإنسانية، هكذا صور رينيه جينو بؤس الحضارة الغربية، وتعاستها، وهو لا يزدري من شأنها ويستخفُّ بها لمجرد الاستخفاف، ولكنه أراد أن يوقفها على أسباب بؤسها، ويحذرها من مغبة ذلك.....
ريني غينون - ريني گنون وبعد إسلامه عبد الواحد يحيى كان كاتبا ومفكرا فرنسيا، ولا يزال شخصا ذا نفوذ في مجال الميتافيزيقا والعلوم المقدسة والدراسات التقليدية والرمزية والاستهلالية ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ الشرق والغرب ❝ الناشرين : ❞ مدارات للأبحاث والنشر ❝ ❱
من الفكر والفلسفة - مكتبة المكتبة التجريبية.

نبذة عن الكتاب:
الشرق والغرب

2018م - 1445هـ
في قلب الحضارة الغربية التي أخرجت الروح نهائيًا من الإنسان، جاءت هذه الروح المستنيرة المتمثلة في الشيخ “عبد الواحد يحي” (رينيه جينو)، لتضيء قبسًا من نور في عصر الظلمة الذى طال أوروبا المثقلة بأوهام المادة، وليعيد الاعتبار إلى الحضارة التراثية التقليدية، حضارة الروح والمقدس في زمن الأوهام والكذب والتضليل، فاتجه “عبد الواحد يحي” إلى التشخيص والعلاج، ولم يدع سعيًا جادًا إلا بذله بعد هدمه لمرتكزات الحضارة الغربية المتمثلة في وهم التقدم، ووهم العلم الحديث؛ في أن يبحث عن الحل والبديل لهذه الحضارة القابعة في أزمة روحية من خلال إعادة الوصل بين الحضارة والتراث الأصيل، ويقصد به هنا الشرق الموصول بالشرائع الربانية، التي أضاعتها الصيحات الحداثية، واللهفة وراء التطور المادي، بالإضافة إلى الغرق في متاهات العلوم المادية بدون اعتبار لأصولها العلوية، فهي حضارة مفرغة من محتواها الروحي، وكل هذا بمنهج علمي متفرّد، وهنا تكمن عبقرية رينيه جينو وتمّيزه عن الآخرين، فبهذا يعتبر من أبرز الباحثين الذين كان لهم الأثر الكبير في الفكر الغربي؛ بحيث قلب نقده للحضارة الغربية الكثير من القناعات الفكرية والعقائدية.

ألف رينيه جينو كتاب” الشرق والغرب” عام 1924، بعد الحرب العالمية الأولى، وإلغاء الخلافة الإسلامية فى تركيا، وتمكّن الاستعمار الأوروبى من الهيمنة على جُلّ بلدان العالم الإسلامي، وانتشار الإلحاد العلماني الذي اكتسح الغرب، والإلحاد الشيوعي خصوصًا بعد تأسيس الاتحاد السوفيتى عام 1922. فمن خلال هذا الكتاب يتم التعرف على وجهة نظر جينو حول الغرب وحضارته، كذلك يعد دليلا واضحا لنقد الفكر الغربي الحديث -أصولًا وفروعًا – ضرب به جينو الحضارة الغربية في أوج تفوقها الظاهر على حضارات الشرق، وقال لهم أن ما هذه الحضارة إلا أسفل ما وصل له البشر انحطاطًا! فقد فقدت هذه الحضارة كل أثر للعلم الرباني عندها، فلم يعد عندها سوى ما هو دونه.

يستهل الكتاب بمقدمتين إحداهما للمترجم والأخرى للكاتب.

وقد جاءت مقدمة المترجم الممتعة في 75 صفحة تقريبا، تعرض فيها المترجم (د. أسامة شفيع) الى قصته الشخصية مع رينيه جينو، ثم لمحات من حياة رينيه جينو، ثم انتقل الى البعد المعرفي لدى جينو بدراسة عن العلم اللدني بين جينو والشيخ محيي الدين ابن العربي ( علما بأن رسالة الماجستير للمترجم كانت حول “الفكر الفقهي عند محيي الدين ابن العربي)- ثم تعرض د. أسامة لإشكالية التعبير عن المعارف الوهبية في اللغات الغربية، ثم انتقل الى موضوع الرمزية عند جينو، وأخيرا دخل في الموضوع الرئيسي للمقدمة وهو كتاب الشرق والغرب الذي بين أيدينا، وانتقل بعد ذلك الى موضوع “التغريب” و”التحديث” بين جينو وصامويل هتنجتون.

وينقسم الكتاب -بعد المقدمة- إلى قسمين كبيرين، يضمُّ كل واحد منهما أربعة فصول، ثم خاتمة، كذلك يتشابه المؤلف في ترتيب فصوله بنهجِ الصوفية في تربيتهم؛ فيبدأ في القسم الأول أوهام غربية بتخلية العقلية الغربية مما رسخ فيها من أباطيل، ثم يُسلط الضوء في القسم الثاني على وسائل التقارب بذكر السبيل التي يراها إذا ما أُرِيدَ للغرب والشرق أن يتقاربا.

فصول الكتاب

مقدمة الترجمة: النقد الروحى للحضارة الغربية الحديثة: نظرات فى فكر رينيه جينو

مقدمة المؤلف:

القسم الأول: أباطيل غربية

الفصل الأول: الحضارة والتقدم

الفصل الثاني: خرافة العلم

الفصل الثالث: خرافة الحياة

الفصل الرابع: مخاوف وهمية وأخطار حقيقية

القسم الثاني: إمكانات التقارب

الفصل الأول: مساعٍ فاشلة

الفصل الثاني: الوفاق على المبادىء

الفصل الثالث: تكوين النخبة ودورها

الفصل الرابع: وفاق، لا اندماج

الخاتمة:

القسم الأول

أباطيل غربية

يُسلط الكاتب في هذا الفصل الضوء على أوهام الغربيين وأوثانهم، حيث يرى الغربيون أنَّه يوجد نمط واحد من البشر، وأنه لا يوجد إلا حضارة واحدة هي الحضارة الغربية، وهي في ماديتها وكبرها الزائف تُباين غيرها، وأكد على أن تلك الحضارة تقبع فى وهم المادية، كذلك لا تكاد تجاوزها، وهي إذ تحاول أن تسد احتياجًا بشريًا فهي تخلق مائة احتياج آخر مكانه، وهكذا يبقى الإنسان الذي يعيش في ظلها محتاجًا دائمًا؛ وهذا سر من أسرار تعاستها الخاصة وبؤسها العميق، كما أوضح أن أوثان الحداثة تتمثل فى اللهفة وراء التطور المادى المبتور عن كل ترق روحي، وفى تأليه الفكر المقطوع عن الوحى الرباني، وفى متاهات التكديس والتكاثر للتقنيات والعلوم المادية دون اعتبار لأصولها العلوية.

بجانب ذلك، أشار جينو إلى أنها تسعى إلى تكثير الحاجات المُصطنعة، وهي لم تزل آخذةً في خلق حاجاتٍ جديدةٍ لن تستطيع إشباعها، وهي ترى بعض الآراء، وتعتقد بعض الاعتقادات ترى فيها الحق المطلق، ولا تكتفي بالإيمان بها فحسب، ولكنها تُبشر بها وتحاول فرضها على الآخر بكل طريقة ممكنة، في هذا الصدد يقول الكاتب، وقد بدأ بعضُ الناس يدركون أن الأمور لا يمكن أن تجري على هذا النحو إلى أجل غير مُسمى، بل بدؤوا يتحدثون عن إفلاس هذه الحضارة، كما لو كان أمرًا ممكنًا، كما حذر قائلاً “ومن تأمل التطور المستمر في وسائل الدمار، والدور الذي تؤديه في الحروب العالمية، وتأمل كذلك التوقعات المُقلقة التي تبعثها في النفوس بعض المخترعات، لم يُنكر إمكانَ وقوعِ كارثة، والحق أن الحال الذي انتهينا إليه لا تُعوِزُ إلى كثير من الخيالِ لتصور الغرب وقد حل به الدمار، إما بسبب حرب هائلة، وإما بآثار غير متوقعة لمُنْتَجٍ -إذا أُسيء استعماله- لا أقول: مصنعًا ولا مدينة، ولكن قارة بأكملها”.

وعليه، حاول ” عبد الواحد يحي” حصر القسم الأول من الكتاب في أربعة فصول، يأتي في مقدماتها الحضارة والتقدم، ثم خرافة العلم، ثم خرافة الحياةـ، مخاوف خيالية وأخطار حقيقية.

وفي إطار الوقوف على جذور مفهوم الحضارة الغربية، يذكر رينيه جينو إن الحضارة هى الحضارة التى تجمع بين الجانبين المادى والروحى للإنسان والحياة؛ بمعنى آخر هى كل إنتاج وإرث مادى وروحى للشعوب، ولهذا كان عبد الواحد يحي معترضًا وقلقًا على وضع الحضارة الغربية، فلم يبال بأن وصفها “بالشذوذ” وبأنها لا تشغل فى التاريخ مكانًا مميزًا، حيث يقول فى كتابه ” فى مسار التاريخ، تظهر الحضارة الغربية كشذوذ حقيقى، فهى الوحيدة من بين كل الحضارات المعروفة التى تطورت فى اتجاه مادى بحت، وهذا التطور الشاذ، الذى تطابقت بدايته مع ما اتفق على تسميته بعصر النهضة، صاحبه ماكان حتمى الوقوع، وهو ارتداد فى الميدان العرفاني، متناسب مع ذلك التطور، غير مكافىء له، لأنهما مجالين متباينين”، فجينو يرى أن التطور المادي والمعرفة الروحية على طرفي نقيض، فمن اقترب من أحدهما ابتعد عن الآخر حتما. وإن من أشد ما يأخذه الكاتب على النموذج الحضارى الغربى هو “التحيز” التى تحرص هذه الحضارة على غرزه فى ذهنية أفرادها، وكذلك أحكامها المسبقة على باقى الحضارات الأخرى خصوصًا الشرقية منها.

ويرى رينو أن تحيز وأنانية الحضارة الغربية يتجليان بوضوح، كذلك يذكر أن المساواة عندهم لا تسمح للشعوب والأجناس الأخرى أن تكون لها عقيدتها الخاصة بها، فالشرقيون الأكثر ثقافة وحضارة، والشعوب الأكثر بربرية يعاملون تقريبًا بنفس الكيفية لأنهم خارج محيط الحضارة الوحيدة التى لها الحق فى الوجود، فمن خلال وهم الحضارة الغربية لتفردها ومركزيتها، ترسخت وتجذرت فى أذهان أفرادها خصوصًا في العصر الحديث، أحكامًا مسبقة لتفوقها وتقدمها وعدم الاعتراف بوجود حضارة أو حضارات متفوقة على حضاراتهم سواء فى الماضى أو فى الحاضر، عدا الحضارة اليونانية التى مهدت لهم، على الرغم من الكثير من الشعارات الزائفة كـ “المساواة” و”الديمقراطية” التى تتغنى بها هذه الحضارة المزهوة والمغرورة بتطورها وتقدمها، فإنها تدعى بأنها الحضارة الوحيدة المختارة لحكم الكون، كما ادعى اليهود أنهم شعب الله المختار؛ لذلك يهدم جينو فى كتابه وهم الحضارة العالمية.

وفى هذا السياق، ينتقل جينو إلى الحديث عن إهمال الحضارة الغربية الجانب الروحى مما أدى إلى شقائها، فالتقدم من المنظور الغربى لا يعنى غير التطور الحادث فى جانبه المادى فحسب، هذا الأمر الذي جعلهم ينكرون كل معنى آخر للحضارة، ومن ثم التنكُّر لمن خالفها من أصحاب الحضارات الأخرى، مؤكدًا على أن الحضارات الشرقية قد سكبت نشاطها فى الجوانب الروحية، على النقيض تمامًا من حضارة الغرب الحديث.

فى استطراد سريع أشار الكاتب إلى العلاقة بين المستشرقين ووهم التقدم الذى غرقت فيه الحضارة الغربية، حيث شحنت الأحكام المسبقة الكثير من المستشرقين، فمالوا إلى هذا الوهم العظيم وأنكروا الحقيقة التى تقول بوجود حضارات سابقة عرفت التقدم والتحضر، وأن الغرب استقى منها مبادىء بعض علومها ومعارفها، ويُؤكد هنا جينو أن بين أولئك المستشرقين ميل جارف إلى إسقاط كل الحضارات القديمة كلما أمكن، وغالبًا ما يقدمون على هذا رغم أنف أى منطق، كما لو كانوا يشعرون بالحرج من حقيقة استطاعة تلك الحضارات فى أزمانٍ غابرة أن تعيش فى أوجها. وهكذا أصبح الغربيون ينظرون إلى غيرهم نظرة دونية.

فى هذا الصدد، يؤكد جينو على إن ما تجهله الحضارة الغربية أن الحضاراتِ كثيرة ومتنوعة، وأنها تفيد بعضها بعضًا، وأن كل حضارة لها مسارها الخاص الذي تتخذه، وهي تتقدم تارة وتتراجع أخرى، بل ربما وقع لها التقدم والتراجع في زمانين مختلفين، ومن ثم يوضح جينو إن الحل الوحيد من وجهة نظره حتى يقبلَهم الناسُ، وحتى يتخلصوا من بؤس ماديتهم، أن يتخلوا عن فكرة ضرورة استيعاب الآخرين، وفرض أنفسهم على أنهم الحضارة التي لا يأتيها الباطل أبدًا، وأن يتحلوا بالمشاركة الحضارية في جميع المجالات، ويرى الكاتب أن إنجاز هذا يقتضي نوع من التغيير فى عقلية الغربيين.

وقد لاحظ الكاتب، أن الغربيين رفعوا شعار البحث الحر عاليًا، والذي يعني ضمن ما يعنيه إهدار كل مبدأ عَلِيٍّ يسمو على الآراء الشخصيّة؛ مما أدّى إلى نوع من الاضطراب الفكري، وإلى ظهور هذه الكثرة الكاثرة من المذاهب والفلسفات التي تعتمد على العقل أو الحس أو الشعور لا غير، وتتنكر لما فوق ذلك أو دونه.

ثم ينتقل جينو لتوضيح كيف يتبنى الغرب نظرية التقدم، موضحًا أن حضارة الغرب الحديث، تنظر إلى الثبات على أنه معيار للتقهقر، وإلى التغّير على أنه معيار للتقدم، الأمر الذي جعلهم مهووسين بالتجديد الدائم، ما جعلهم يفتقرون دائمًا إلى قاعدة روحية صلبة تدثّرهم من الضياع والانحلال والتلاشي، وبهذا الاعتبار رفض جينو فكرة “التقدم اللامحدود”، ومضمونها أن الإنسانية فى جملتها في تطور مستمر متصاعد خطيًا مع الزمن، وهذه رؤية تبسيطية إلى أبعد حد، تتناقض مع كل الوقائع المعروفة.

ويوضح جينو أن التاريخ يبين لنا فى كل عصر وجود حضارات مستقلة عن بعضها البعض، بل هى فى غالب الأحيان متباينة، وبعضها يولد ويتطور بينما الأخرى تهوي نحو التلاشى، وتموت أو تزول بفعل إحدى الكوارث، والحضارات الجديدة لا ترث دومًا سابقاتها، فحسب تصوره لا توجد حضارة متقدمة على شكل خطّى بحيث لاتموت ولا تتعثر؛ فالتاريخ يعطينا الكثير من الدلائل على ذلك، لذلك فالتقدم المزعوم للحضارة الغربية هو تقدم ينذر بفنائها.

يذكر الكاتب فى هذا القسم أن الحضارة الغربية لا تقوم على مبدأ يوحدها، أى أنها فاقدة للمبدأ؛ ولأنها ألفت هذا التغيير والتشتت، فإنها تعتقد أن الثبات يعنى نبذ كل تغيير، وأنه منافٍ للتطور والتقدم، بل وتعتقد أن ديمومة التغيير الذي تعيشه ضرب من ضروب التقدم، هذا الذي يراه جينو ضربًا من ضروب التخبط وعدم الاهتداء إلى سبيل سواء، لذا تراه يرى أن الثبات على مبدأ جامع لا يعنى التخلف وعدم المضي قدمًا، ولكنه يعني قصر التغير أبدًا على ما كان تكيفًا للظروف، ولا يؤثر على المبادىء العليا قط.

وفى سياق الحضارة الغربية التى تسلك المسلك المادى المحض، يقول جينو أن العقلانية الحديثة بدأت مع ديكارت، ثم انتشر أثرها فى الفلسفة الحديثة كلها، وأن الميتافيزيقا التى قال بها ديكارت ميتافيزيقا زائفة، وليست من الميتافيزيقا الحقة فى شىء؛ لأن الميتافيزيقا هى المبادىء ذات الطابع الكلى، وبغيابها ستكون المعرفة فاقدة المبدأ وستفقد العمق والمضمون. لقد انحسر ذكاء الحضارة الغربية تحت هيمنة النزعة التقدمية فى المجال المادى، وبالأخص فى مجال الاختراعات التقنية، حيث أصبح مفهوم العبقرية يقترن باختراع ما يقع مباشرةً فى نطاق الحواس، أى ما يمكن أن يحقق المنفعة المباشرة بشكل ملموس، فى هذا الصدد يشير الكاتب أنه لا ينكر التقدم المادى ولا يرفضه، لكنه يرفض التقدم بالمفهوم الحداثى الذى هيمن على الحضارة الغربية، والذى يتناقض مع العرفان الخالص بل يسحقه، من ثم يعيب الكاتب على سوء فهم الحضارة الغربية معنى “المادى” و”الروحانى”، وكأن الإنسان فى منظورهم لا يمكن أن يحصٍل الغايتين معَا فى الدنيا.

ثم ينتقل جينو فى هذا القسم الى الحديث عن العلم الحديث الذي ظلت الحضارة الغربية تفاخر به، وتستعلي به على بقية الحضارات، وتتخذه أداة للهيمنة، هو عنده عبارة عن دراية خارجية سطحية، فإن انحطاط العلم الحديث ودونيته عند الكاتب يتجليان فى الطابع التحليلي للعلوم التجريبية، حيث يقول إن العلم الغربى تحليل وتشتت، والمعرفة الشرقية تجميع وتركيز، لذلك يعتقد جينو أن “الإجلال الخرافى” للعلم الحديث، بمعنى قداسة العلم الحديث عند الغرب نابع من كونه يلبي المطالب المادية.

فالعلم الحديث لا يقيم اعتبارًا للتأمل المجرد ويحصر الحياة فى الجانب التطبيقى العملى، بالإضافة إلى أن التقنية كأكثر مظاهر العلم الحديث لم تخدم الجوانب الروحية بقدر ما زادت فى تغذية النوازع الغريزية التى تصب فى خدمة الجسد، فأصبح الجسد اليوم مصدرًا للثروة داخل منظومة الاقتصاد السلعي.

ويسترسل جينو فى تقسيم العلوم إلى ثلاثة أقسام: علم العقل، وعلم الأحوال، وعلم الأسرار. أما علم العقل؛ فهو كل علم يمكن تحصيله بالنظر في الدليل، وهو المُعبر عنه بالمنظومة العقلية، وإليها تُنسب جميع علوم المُحدثين ومذاهبهم الفلسفية والفكرية. وأما علم الأحوال؛ فهو العلمُ الذي يتحصل عن طريق الذوق، وهو ما دون علم العقل، ومجاله عالَم الطبيعة، أو جزء صغير منه. وعلم الأسرار: هو العلم الذي فوق طور العقل، وتمثله المنظومة الميتافيزيقية التي يصفها جينو بأنها جامعة وكلية. لذا لم يكن عجيبًا أن يَعُدّ جينو علمَ الأحوال أدنى مراتب العلوم، وأن يكون علمُ الأسرار أعلاها، وأن يتوسط علمُ العقل بينهما.

يختتم الكاتب هذا القسم برفضه النموذج الغربي كنموذج حضاري وحيد يفوق كل النماذج الحضارية الأخرى لما فيه من تميز للصفات المادية على حساب الصفات الروحية، ويظهر هذا فى الهجوم الشرس على الطبيعة البشرية كمفهوم مرجعى للعلوم الإنسانية، هكذا صور رينيه جينو بؤس الحضارة الغربية، وتعاستها، وهو لا يزدري من شأنها ويستخفُّ بها لمجرد الاستخفاف، ولكنه أراد أن يوقفها على أسباب بؤسها، ويحذرها من مغبة ذلك..... .
المزيد..

تعليقات القرّاء:

في قلب الحضارة الغربية التي أخرجت الروح نهائيًا من الإنسان، جاءت هذه الروح المستنيرة المتمثلة في الشيخ “عبد الواحد يحي” (رينيه جينو)، لتضيء قبسًا من نور في عصر الظلمة الذى طال أوروبا المثقلة بأوهام المادة، وليعيد الاعتبار إلى الحضارة التراثية التقليدية، حضارة الروح والمقدس في زمن الأوهام والكذب والتضليل، فاتجه “عبد الواحد يحي” إلى التشخيص والعلاج، ولم يدع سعيًا جادًا إلا بذله بعد هدمه لمرتكزات الحضارة الغربية المتمثلة في وهم التقدم، ووهم العلم الحديث؛ في أن يبحث عن الحل والبديل لهذه الحضارة القابعة في أزمة روحية من خلال إعادة الوصل بين الحضارة والتراث الأصيل، ويقصد به هنا الشرق الموصول بالشرائع الربانية، التي أضاعتها الصيحات الحداثية، واللهفة وراء التطور المادي، بالإضافة إلى الغرق في متاهات العلوم المادية بدون اعتبار لأصولها العلوية، فهي حضارة مفرغة من محتواها الروحي، وكل هذا بمنهج علمي متفرّد، وهنا تكمن عبقرية رينيه جينو وتمّيزه عن الآخرين، فبهذا يعتبر من أبرز الباحثين الذين كان لهم الأثر الكبير في الفكر الغربي؛ بحيث قلب نقده للحضارة الغربية الكثير من القناعات الفكرية والعقائدية.

ألف رينيه جينو كتاب” الشرق والغرب” عام 1924، بعد الحرب العالمية الأولى، وإلغاء الخلافة الإسلامية فى تركيا، وتمكّن الاستعمار الأوروبى من الهيمنة على جُلّ بلدان العالم الإسلامي، وانتشار الإلحاد العلماني الذي اكتسح الغرب، والإلحاد الشيوعي خصوصًا بعد تأسيس الاتحاد السوفيتى عام 1922. فمن خلال هذا الكتاب يتم التعرف على وجهة نظر جينو حول الغرب وحضارته، كذلك يعد دليلا واضحا لنقد الفكر الغربي الحديث -أصولًا وفروعًا – ضرب به جينو الحضارة الغربية في أوج تفوقها الظاهر على حضارات الشرق، وقال لهم أن ما هذه الحضارة إلا أسفل ما وصل له البشر انحطاطًا! فقد فقدت هذه الحضارة كل أثر للعلم الرباني عندها، فلم يعد عندها سوى ما هو دونه.

يستهل الكتاب بمقدمتين إحداهما للمترجم والأخرى للكاتب.

وقد جاءت مقدمة المترجم الممتعة في 75 صفحة تقريبا، تعرض فيها المترجم (د. أسامة شفيع) الى قصته الشخصية مع رينيه جينو، ثم لمحات من حياة رينيه جينو، ثم انتقل الى البعد المعرفي لدى جينو بدراسة عن العلم اللدني بين جينو والشيخ محيي الدين ابن العربي ( علما بأن رسالة الماجستير للمترجم كانت حول “الفكر الفقهي عند محيي الدين ابن العربي)- ثم تعرض د. أسامة لإشكالية التعبير عن المعارف الوهبية في اللغات الغربية، ثم انتقل الى موضوع الرمزية عند جينو، وأخيرا دخل في الموضوع الرئيسي للمقدمة وهو كتاب الشرق والغرب الذي بين أيدينا، وانتقل بعد ذلك الى موضوع “التغريب” و”التحديث” بين جينو وصامويل هتنجتون.

وينقسم الكتاب -بعد المقدمة- إلى قسمين كبيرين، يضمُّ كل واحد منهما أربعة فصول، ثم خاتمة، كذلك يتشابه المؤلف في ترتيب فصوله بنهجِ الصوفية في تربيتهم؛ فيبدأ في القسم الأول أوهام غربية بتخلية العقلية الغربية مما رسخ فيها من أباطيل، ثم يُسلط الضوء في القسم الثاني على وسائل التقارب بذكر السبيل التي يراها إذا ما أُرِيدَ للغرب والشرق أن يتقاربا.

فصول الكتاب

مقدمة الترجمة: النقد الروحى للحضارة الغربية الحديثة: نظرات فى فكر رينيه جينو

مقدمة المؤلف:

القسم الأول: أباطيل غربية

الفصل الأول: الحضارة والتقدم

الفصل الثاني: خرافة العلم

الفصل الثالث: خرافة الحياة

الفصل الرابع: مخاوف وهمية وأخطار حقيقية

القسم الثاني: إمكانات التقارب

الفصل الأول: مساعٍ فاشلة

الفصل الثاني: الوفاق على المبادىء

الفصل الثالث: تكوين النخبة ودورها

الفصل الرابع: وفاق، لا اندماج

الخاتمة:

القسم الأول

أباطيل غربية

يُسلط الكاتب في هذا الفصل الضوء على أوهام الغربيين وأوثانهم، حيث يرى الغربيون أنَّه يوجد نمط واحد من البشر، وأنه لا يوجد إلا حضارة واحدة هي الحضارة الغربية، وهي في ماديتها وكبرها الزائف تُباين غيرها، وأكد على أن تلك الحضارة تقبع فى وهم المادية، كذلك لا تكاد تجاوزها، وهي إذ تحاول أن تسد احتياجًا بشريًا فهي تخلق مائة احتياج آخر مكانه، وهكذا يبقى الإنسان الذي يعيش في ظلها محتاجًا دائمًا؛ وهذا سر من أسرار تعاستها الخاصة وبؤسها العميق، كما أوضح أن أوثان الحداثة تتمثل فى اللهفة وراء التطور المادى المبتور عن كل ترق روحي، وفى تأليه الفكر المقطوع عن الوحى الرباني، وفى متاهات التكديس والتكاثر للتقنيات والعلوم المادية دون اعتبار لأصولها العلوية.

بجانب ذلك، أشار جينو إلى أنها تسعى إلى تكثير الحاجات المُصطنعة، وهي لم تزل آخذةً في خلق حاجاتٍ جديدةٍ لن تستطيع إشباعها، وهي ترى بعض الآراء، وتعتقد بعض الاعتقادات ترى فيها الحق المطلق، ولا تكتفي بالإيمان بها فحسب، ولكنها تُبشر بها وتحاول فرضها على الآخر بكل طريقة ممكنة، في هذا الصدد يقول الكاتب، وقد بدأ بعضُ الناس يدركون أن الأمور لا يمكن أن تجري على هذا النحو إلى أجل غير مُسمى، بل بدؤوا يتحدثون عن إفلاس هذه الحضارة، كما لو كان أمرًا ممكنًا، كما حذر قائلاً “ومن تأمل التطور المستمر في وسائل الدمار، والدور الذي تؤديه في الحروب العالمية، وتأمل كذلك التوقعات المُقلقة التي تبعثها في النفوس بعض المخترعات، لم يُنكر إمكانَ وقوعِ كارثة، والحق أن الحال الذي انتهينا إليه لا تُعوِزُ إلى كثير من الخيالِ لتصور الغرب وقد حل به الدمار، إما بسبب حرب هائلة، وإما بآثار غير متوقعة لمُنْتَجٍ -إذا أُسيء استعماله- لا أقول: مصنعًا ولا مدينة، ولكن قارة بأكملها”.

وعليه، حاول ” عبد الواحد يحي” حصر القسم الأول من الكتاب في أربعة فصول، يأتي في مقدماتها الحضارة والتقدم، ثم خرافة العلم، ثم خرافة الحياةـ، مخاوف خيالية وأخطار حقيقية.

وفي إطار الوقوف على جذور مفهوم الحضارة الغربية، يذكر رينيه جينو إن الحضارة هى الحضارة التى تجمع بين الجانبين المادى والروحى للإنسان والحياة؛ بمعنى آخر هى كل إنتاج وإرث مادى وروحى للشعوب، ولهذا كان عبد الواحد يحي معترضًا وقلقًا على وضع الحضارة الغربية، فلم يبال بأن وصفها “بالشذوذ” وبأنها لا تشغل فى التاريخ مكانًا مميزًا، حيث يقول فى كتابه ” فى مسار التاريخ، تظهر الحضارة الغربية كشذوذ حقيقى، فهى الوحيدة من بين كل الحضارات المعروفة التى تطورت فى اتجاه مادى بحت، وهذا التطور الشاذ، الذى تطابقت بدايته مع ما اتفق على تسميته بعصر النهضة، صاحبه ماكان حتمى الوقوع، وهو ارتداد فى الميدان العرفاني، متناسب مع ذلك التطور، غير مكافىء له، لأنهما مجالين متباينين”، فجينو يرى أن التطور المادي والمعرفة الروحية على طرفي نقيض، فمن اقترب من أحدهما ابتعد عن الآخر حتما. وإن من أشد ما يأخذه الكاتب على النموذج الحضارى الغربى هو “التحيز” التى تحرص هذه الحضارة على غرزه فى ذهنية أفرادها، وكذلك أحكامها المسبقة على باقى الحضارات الأخرى خصوصًا الشرقية منها.

ويرى رينو أن تحيز وأنانية الحضارة الغربية يتجليان بوضوح، كذلك يذكر أن المساواة عندهم لا تسمح للشعوب والأجناس الأخرى أن تكون لها عقيدتها الخاصة بها، فالشرقيون الأكثر ثقافة وحضارة، والشعوب الأكثر بربرية يعاملون تقريبًا بنفس الكيفية لأنهم خارج محيط الحضارة الوحيدة التى لها الحق فى الوجود، فمن خلال وهم الحضارة الغربية لتفردها ومركزيتها، ترسخت وتجذرت فى أذهان أفرادها خصوصًا في العصر الحديث، أحكامًا مسبقة لتفوقها وتقدمها وعدم الاعتراف بوجود حضارة أو حضارات متفوقة على حضاراتهم سواء فى الماضى أو فى الحاضر، عدا الحضارة اليونانية التى مهدت لهم، على الرغم من الكثير من الشعارات الزائفة كـ “المساواة” و”الديمقراطية” التى تتغنى بها هذه الحضارة المزهوة والمغرورة بتطورها وتقدمها، فإنها تدعى بأنها الحضارة الوحيدة المختارة لحكم الكون، كما ادعى اليهود أنهم شعب الله المختار؛ لذلك يهدم جينو فى كتابه وهم الحضارة العالمية.

وفى هذا السياق، ينتقل جينو إلى الحديث عن إهمال الحضارة الغربية الجانب الروحى مما أدى إلى شقائها، فالتقدم من المنظور الغربى لا يعنى غير التطور الحادث فى جانبه المادى فحسب، هذا الأمر الذي جعلهم ينكرون كل معنى آخر للحضارة، ومن ثم التنكُّر لمن خالفها من أصحاب الحضارات الأخرى، مؤكدًا على أن الحضارات الشرقية قد سكبت نشاطها فى الجوانب الروحية، على النقيض تمامًا من حضارة الغرب الحديث.

فى استطراد سريع أشار الكاتب إلى العلاقة بين المستشرقين ووهم التقدم الذى غرقت فيه الحضارة الغربية، حيث شحنت الأحكام المسبقة الكثير من المستشرقين، فمالوا إلى هذا الوهم العظيم وأنكروا الحقيقة التى تقول بوجود حضارات سابقة عرفت التقدم والتحضر، وأن الغرب استقى منها مبادىء بعض علومها ومعارفها، ويُؤكد هنا جينو أن بين أولئك المستشرقين ميل جارف إلى إسقاط كل الحضارات القديمة كلما أمكن، وغالبًا ما يقدمون على هذا رغم أنف أى منطق، كما لو كانوا يشعرون بالحرج من حقيقة استطاعة تلك الحضارات فى أزمانٍ غابرة أن تعيش فى أوجها. وهكذا أصبح الغربيون ينظرون إلى غيرهم نظرة دونية.

فى هذا الصدد، يؤكد جينو على إن ما تجهله الحضارة الغربية أن الحضاراتِ كثيرة ومتنوعة، وأنها تفيد بعضها بعضًا، وأن كل حضارة لها مسارها الخاص الذي تتخذه، وهي تتقدم تارة وتتراجع أخرى، بل ربما وقع لها التقدم والتراجع في زمانين مختلفين، ومن ثم يوضح جينو إن الحل الوحيد من وجهة نظره حتى يقبلَهم الناسُ، وحتى يتخلصوا من بؤس ماديتهم، أن يتخلوا عن فكرة ضرورة استيعاب الآخرين، وفرض أنفسهم على أنهم الحضارة التي لا يأتيها الباطل أبدًا، وأن يتحلوا بالمشاركة الحضارية في جميع المجالات، ويرى الكاتب أن إنجاز هذا يقتضي نوع من التغيير فى عقلية الغربيين.

وقد لاحظ الكاتب، أن الغربيين رفعوا شعار البحث الحر عاليًا، والذي يعني ضمن ما يعنيه إهدار كل مبدأ عَلِيٍّ يسمو على الآراء الشخصيّة؛ مما أدّى إلى نوع من الاضطراب الفكري، وإلى ظهور هذه الكثرة الكاثرة من المذاهب والفلسفات التي تعتمد على العقل أو الحس أو الشعور لا غير، وتتنكر لما فوق ذلك أو دونه.

ثم ينتقل جينو لتوضيح كيف يتبنى الغرب نظرية التقدم، موضحًا أن حضارة الغرب الحديث، تنظر إلى الثبات على أنه معيار للتقهقر، وإلى التغّير على أنه معيار للتقدم، الأمر الذي جعلهم مهووسين بالتجديد الدائم، ما جعلهم يفتقرون دائمًا إلى قاعدة روحية صلبة تدثّرهم من الضياع والانحلال والتلاشي، وبهذا الاعتبار رفض جينو فكرة “التقدم اللامحدود”، ومضمونها أن الإنسانية فى جملتها في تطور مستمر متصاعد خطيًا مع الزمن، وهذه رؤية تبسيطية إلى أبعد حد، تتناقض مع كل الوقائع المعروفة.

ويوضح جينو أن التاريخ يبين لنا فى كل عصر وجود حضارات مستقلة عن بعضها البعض، بل هى فى غالب الأحيان متباينة، وبعضها يولد ويتطور بينما الأخرى تهوي نحو التلاشى، وتموت أو تزول بفعل إحدى الكوارث، والحضارات الجديدة لا ترث دومًا سابقاتها، فحسب تصوره لا توجد حضارة متقدمة على شكل خطّى بحيث لاتموت ولا تتعثر؛ فالتاريخ يعطينا الكثير من الدلائل على ذلك، لذلك فالتقدم المزعوم للحضارة الغربية هو تقدم ينذر بفنائها.

يذكر الكاتب فى هذا القسم أن الحضارة الغربية لا تقوم على مبدأ يوحدها، أى أنها فاقدة للمبدأ؛ ولأنها ألفت هذا التغيير والتشتت، فإنها تعتقد أن الثبات يعنى نبذ كل تغيير، وأنه منافٍ للتطور والتقدم، بل وتعتقد أن ديمومة التغيير الذي تعيشه ضرب من ضروب التقدم، هذا الذي يراه جينو ضربًا من ضروب التخبط وعدم الاهتداء إلى سبيل سواء، لذا تراه يرى أن الثبات على مبدأ جامع لا يعنى التخلف وعدم المضي قدمًا، ولكنه يعني قصر التغير أبدًا على ما كان تكيفًا للظروف، ولا يؤثر على المبادىء العليا قط.

وفى سياق الحضارة الغربية التى تسلك المسلك المادى المحض، يقول جينو أن العقلانية الحديثة بدأت مع ديكارت، ثم انتشر أثرها فى الفلسفة الحديثة كلها، وأن الميتافيزيقا التى قال بها ديكارت ميتافيزيقا زائفة، وليست من الميتافيزيقا الحقة فى شىء؛ لأن الميتافيزيقا هى المبادىء ذات الطابع الكلى، وبغيابها ستكون المعرفة فاقدة المبدأ وستفقد العمق والمضمون. لقد انحسر ذكاء الحضارة الغربية تحت هيمنة النزعة التقدمية فى المجال المادى، وبالأخص فى مجال الاختراعات التقنية، حيث أصبح مفهوم العبقرية يقترن باختراع ما يقع مباشرةً فى نطاق الحواس، أى ما يمكن أن يحقق المنفعة المباشرة بشكل ملموس، فى هذا الصدد يشير الكاتب أنه لا ينكر التقدم المادى ولا يرفضه، لكنه يرفض التقدم بالمفهوم الحداثى الذى هيمن على الحضارة الغربية، والذى يتناقض مع العرفان الخالص بل يسحقه، من ثم يعيب الكاتب على سوء فهم الحضارة الغربية معنى “المادى” و”الروحانى”، وكأن الإنسان فى منظورهم لا يمكن أن يحصٍل الغايتين معَا فى الدنيا.

ثم ينتقل جينو فى هذا القسم الى الحديث عن العلم الحديث الذي ظلت الحضارة الغربية تفاخر به، وتستعلي به على بقية الحضارات، وتتخذه أداة للهيمنة، هو عنده عبارة عن دراية خارجية سطحية، فإن انحطاط العلم الحديث ودونيته عند الكاتب يتجليان فى الطابع التحليلي للعلوم التجريبية، حيث يقول إن العلم الغربى تحليل وتشتت، والمعرفة الشرقية تجميع وتركيز، لذلك يعتقد جينو أن “الإجلال الخرافى” للعلم الحديث، بمعنى قداسة العلم الحديث عند الغرب نابع من كونه يلبي المطالب المادية.

فالعلم الحديث لا يقيم اعتبارًا للتأمل المجرد ويحصر الحياة فى الجانب التطبيقى العملى، بالإضافة إلى أن التقنية كأكثر مظاهر العلم الحديث لم تخدم الجوانب الروحية بقدر ما زادت فى تغذية النوازع الغريزية التى تصب فى خدمة الجسد، فأصبح الجسد اليوم مصدرًا للثروة داخل منظومة الاقتصاد السلعي.

ويسترسل جينو فى تقسيم العلوم إلى ثلاثة أقسام: علم العقل، وعلم الأحوال، وعلم الأسرار. أما علم العقل؛ فهو كل علم يمكن تحصيله بالنظر في الدليل، وهو المُعبر عنه بالمنظومة العقلية، وإليها تُنسب جميع علوم المُحدثين ومذاهبهم الفلسفية والفكرية. وأما علم الأحوال؛ فهو العلمُ الذي يتحصل عن طريق الذوق، وهو ما دون علم العقل، ومجاله عالَم الطبيعة، أو جزء صغير منه. وعلم الأسرار: هو العلم الذي فوق طور العقل، وتمثله المنظومة الميتافيزيقية التي يصفها جينو بأنها جامعة وكلية. لذا لم يكن عجيبًا أن يَعُدّ جينو علمَ الأحوال أدنى مراتب العلوم، وأن يكون علمُ الأسرار أعلاها، وأن يتوسط علمُ العقل بينهما.

يختتم الكاتب هذا القسم برفضه النموذج الغربي كنموذج حضاري وحيد يفوق كل النماذج الحضارية الأخرى لما فيه من تميز للصفات المادية على حساب الصفات الروحية، ويظهر هذا فى الهجوم الشرس على الطبيعة البشرية كمفهوم مرجعى للعلوم الإنسانية، هكذا صور رينيه جينو بؤس الحضارة الغربية، وتعاستها، وهو لا يزدري من شأنها ويستخفُّ بها لمجرد الاستخفاف، ولكنه أراد أن يوقفها على أسباب بؤسها، ويحذرها من مغبة ذلك.



سنة النشر : 2018م / 1439هـ .
عداد القراءة: عدد قراءة الشرق والغرب

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:


شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

المؤلف:
ريني غينون - René Guénon

كتب ريني غينون ريني گنون وبعد إسلامه عبد الواحد يحيى كان كاتبا ومفكرا فرنسيا، ولا يزال شخصا ذا نفوذ في مجال الميتافيزيقا والعلوم المقدسة والدراسات التقليدية والرمزية والاستهلالية❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ الشرق والغرب ❝ الناشرين : ❞ مدارات للأبحاث والنشر ❝ ❱. المزيد..

كتب ريني غينون
الناشر:
مدارات للأبحاث والنشر
كتب مدارات للأبحاث والنشر ❰ ناشرين لمجموعة من المؤلفات أبرزها ❞ حالة الاستثناء الإنسان الحرام لـ جورجو أغامبين ❝ ❞ معذبو الأرض ❝ ❞ الجذور الاجتماعية للنكبة : فلسطين 1858-1948 ❝ ❞ الشرق الأوسط الحديث جزئين لـ ألبرت حوراني وفيليب خوري وماري ويلسون ❝ ❞ ساري نامه ❝ ❞ من مكة إلى لاس ڨيجاس ❝ ❞ دراسات في السلفية الجهادية ❝ ❞ الدولتان : السلطة والمجتمع في الغرب وبلاد الإسلام ❝ ❞ الأصوليات ❝ ❞ التوحيد مضامينه على الفكر والحياة ❝ ومن أبرز المؤلفين : ❞ أكرم حجازي ❝ ❞ ميشيل فوكو ❝ ❞ إسماعيل راجي الفاروقي ❝ ❞ زيجمونت باومان ❝ ❞ أحمد ضحية ❝ ❞ فرانز فانون ❝ ❞ أندريه ريمون ❝ ❞ محمد عبد القهار ❝ ❞ إبراهيم البيومي غانم ❝ ❞ برتران بادي ❝ ❞ جورج أبراهام مقدسي ❝ ❞ محمد صفار ❝ ❞ علي عبد الرءوف ❝ ❞ ريني غينون ❝ ❞ باتريك هايني ❝ ❞ شريف مجدى ❝ ❱.المزيد.. كتب مدارات للأبحاث والنشر