❞ كتاب ختم النبوة ❝  ⏤ مرتضى مطهري

❞ كتاب ختم النبوة ❝ ⏤ مرتضى مطهري

فلسفة ختم النبوة من الأبحاث الكلامية التي ليس لها ذلك القدم التاريخي بين المتكلمين وعلماء المسلمين، وإن كانت هناك إشارات حولها في عبارات المتكلمين والعرفاء، بل وفي روايات المعصومين^، إلا أنّ هذه المسألة لم تطرح بنحو مستقل وصريح إلاّ في العقود الأخيرة، ومن قبل بعض المتنورين المتدينين في الأغلب، ولعل الشهيد مرتضى المطهري أكثر من تكلم وكتب في هذا الموضوع، فقد تعرض المطهري في ثلاثة من مؤلفاته بنحو مفصَّل إلى بحث فلسفة ختم النبوة، وأول وأكثر الآثار تفصيلاً في هذا المجال هو سلسة محاضراته في حسينية الإرشاد سنة 1347(هجري شمسي)، وكانت عشر محاضرات حول موضوع ختم النبوة، وقد كُتبت من الأشرطة وطُبعت بدون أي تصرّف بعنوان <الخاتمية>، والأثر الثاني له مقالة بعنوان <ختم النبوة>، والتي طبعت منذ سنوات في مجموعة بعنوان <محمد خاتم الأنبياء>، ثم طُبعت تلك المقالة بمفردها في رسالة صغيرة، والأثر الثالث للشهيد المطهري هو الجزء الثالث من مجموعته <مقدمة في الرؤية الكونية الإسلامية>، والذي يحمل عنوان <الوحي والنبوة>، والتي تعرض في بعضها إلى مسألة <فلسفة الخاتمية>. وتوجد إشارات في مصنفاته الأخرى، مثل: «الإسلام ومتطلبات العصر» و<معرفة القرآن> و<نقد الماركسية>.

وقد أخذت هذه المقالة على عاتقها دراسة ونقد مسألة فلسفة الخاتمية من وجهة نظره؛ إذ يطرح الأستاذ الشهيد في أول وهلة سؤالين في ذهن مخاطبه، أولاً: بسؤال عن عليّة انتهاء ظهور الشرائع الجديدة بمجيء الشريعة الإسلامية، وعرض الإسلام على أنّه دين خالد للبشرية؟

والسؤال الثاني عن عِلّة انتهاء سلسلة الأنبياء، لأنّه ليس من الضروري اقتران النبوة بالشريعة، بل إنّ أكثر الأنبياء كانوا مبلغين لشرائع سابقة عليهم، فمع فرض خاتمية الدين الإسلامي يبقى السؤال مطروحاً عن خاتمية نبي الإسلام.

نظرية المطهري في ختم النبوّة ـــــــ
وبعبارة أخرى: إنّ الشهيد المطهري يُفرِّق في مؤلفاته بين النبوة التبليغية والنبوّة التشريعية، ويقسِّم الأنبياء إلى أنبياء ذوي شرائع؛ وأنبياء مبلغين لشرائع سابقة، ويعتبر فلسفة وحكمة ختم النبوة مختلفة في كل واحد من نوعي النبوة هاتين عن الآخر.

ويقسِّم الفترات التاريخية للحياة البشرية ـ تبعاً للعلامة إقبال اللاهوري ـ إلى فترتين: الأولى: فترة الطفولة، والثانية: فترة البلوغ والرشد العقلي، ويعتبر ظهور الإسلام في الحد الفاصل بين هذين الفترتين.

ولذا فإنّه يبيّن فلسفة ختم النبوة التشريعية أو فلسفة ختم الشرائع في بعدين: الأول: أهلية البشر لتقبل الشريعة الخاتمة؛ والثاني: قدرتهم على حفظ تلك الشريعة، فيقول: <في الفترات السابقة للشرائع لم يكن الناس قادرين ـ بسبب عدم البلوغ والرشد العقلي ـ على استيعاب المخطط الكامل لمسيرتهم والاستمرار في طريقهم بمساعدته؛ ولذا كان من اللازم إرشادهم مرحلة بعد مرحلة ومنزلاً ثم منزلٍ، ويرافقهم المرشدون على الدوام، أما في عصر الرسالة الخاتمة فما بعدها فقد تحققت تلك القدرة على استيعاب المخطط الكامل، وتوقف العمل بطريقة الإرشاد منزلاً منزلاً ومرحلة مرحلة، فالسبب في تجدد الشرائع أن البشر لم يكن قادراً على استيعاب المخطط الكامل والجامع، وعند توفر تلك القابلية منحتهم السماء البرنامج الكامل والجامع؛ ولهذا انتفت علة تجديد النبوات والشرائع([1]).

ويشير الأستاذ الشهيد في آثاره بصورة عابرة إلى كلام العرفاء حول فلسفة ختم النبوة.

حيث يؤكد عرفاء المسلمين على علو درجة النبي الأكرم’، وأهليته لطي آخر مراحل الكمال الإنساني وأكمل المكاشفات لاستلام الشريعة والمعارف الإلهية.

فيقول: <لقد أدرك العرفاء أن النبوة ختمت لأنَّ جميع المراحل والمقامات الفردية والاجتماعية والطريق الذي يجب سلوكه كلها كشفت، وكلّ ما يتلقاه أي إنسان سوف لن يكون أكمل من ذلك، ولذلك كان مضطراً لاتّباع الخاتم، مَنْ ختم المراتب بأسرها>([2]).

فقد ربط & كلام العرفاء هذا بختم النبوة التشريعية، قائلاً: <…في هذا التعريف للخاتمية لم يُكتف بملاحظة عدم بعثة نبي بعده، بل ذكرت أيضاً علة هذه المسألة، وهي عدم مجيء نبي صاحب شريعة؛ لأنه لا يوجد ما يأتي به عن طريق النبوة، أي ما يدركه الإنسان بواسطة الوحي والإلهام، لا ما يحصّله عن طريق العلم والعقل، وهو طريق آخر مقدور للبشر، لم يبقَ ما يمكن إلقاءه إلى الإنسان، ولم يبق كلام لم يُقلْ>([3]).

وهذا الادعاء من العرفاء مبني على أصل أنّ الكمال الإنساني متناه وهناك حد نهائي لكماله، وفي كتاب <نظر الماركسية> وبعد أن ينقل الأستاذ المطهري عبارة الشيخ محيي الدين بن عربي حول الخاتمية؛ إذ يقول: <الخاتم من ختم المراتب بأسرها> يوضِّحها كالآتي: <… وعلى أية حال فإن هذه المسألة لابد أن تطرح بالنحو الآتي، وهو هل أن للإنسان كمالاً نهائياً، بحيث إذا وصل إليه فلا يمكن أن يفرض له كمال أعلى حينئذ، وإن الأعلى منه وجوب الوجود، أم لا، بأن الإنسان مهما تكامل فإنّ الطريق مفتوح أمامه؟ وقد ذكر السيد علي خان المدني هذه المسألة في شرح الصحيفة السجادية، بأن الصلاة على النبي’ هل لها أثر عليه أم لا؟ بأنْ تكون مفيدة للمصلي عليه أما النبي صلوات الله عليه فقد وصل إلى مرتبة بحيث ليس للصلاة أثر عليه؟ وأوّل بعضهم يثرب في الآية الشريفة <يا أهل يثرب لا مقام لكم> بالإنسانية، وقالوا: إن الإنسان ليس له كمال نهائي، ليس له حدّ نهائي وإن الرسول الأكرم’ في حال تكامل دائم>([4]).

وفي توضيح البعد الآخر لفلسفة ختم النبوة التشريعية، وهو أنّ البشرية بلغت مرتبة حفظ شريعتها وكتابها السماوي، يقول الشهيد المطهري: <لم تكن البشرية في السابق قادرة على حفظ كتابها السماوي؛ بسبب عدم الرشد والبلوغ الفكري، وعادة ما كانت الكتب السماوية تُحرّف وتُبدّل أو تفقد بالمرّة، ولهذا كان من الضروري استئناف رسالة جديدة، أما عصر نزول القرآن قبل أربعة عشر قرناً فقد اقترن بعبور البشرية من مرحلة الطفولة، وكانت قادرة على حفظ ميراثها العلمي والديني، ولهذا لم يقع تحريف في آخر الكتب السماوية المقدسة، يعني القرآن الكريم. وكان المسلمون يحفظون كل آية ساعة نزولها بالقلوب والقراطيس، بحيث انتفى احتمال أي تبديل وتحريف وحذف وإضافة، ولهذا لم يحدث التحريف والنقصان في هذا الكتاب السماوي، وهذا أحد أسباب انتفاء الداعي لاستئناف النبوة([5]).

<لقد كان تدوين العلوم المختلفة للغة العربية، مثل: علم المفردات، الصرف والنحو، علم المعاني، البيان، والبديع، بهدف سعي البشرية لحفظ كتابها السماوي، ولا سيما أنَّ أكثر المؤلفين لهذه العلوم كانوا من غير العرب، وإن نشوء علم التفسير وعلم الحديث منذ القرن الأول الهجري كلها دلائل رشد وبلوغ البشرية في فترة ظهور الإسلام، وعلامة على ختم النبوة>([6]).

<بل يمكن القول: إنّ تاريخ البشرية ـ على أحد المعاني ـ بدأ من عصر ظهور الإسلام، فإذا كان المقصود من عصر التاريخ ـ في مقابل عصر ما قبل التاريخ ـ تلك الفترة التي حفظت فيها البشرية تاريخها متسلسلاً فهذه تبدأ من عصر ظهور الإسلام، وقد حفظت آثار اليونانيين والهنود والإيرانيين من قبل المسلمين، ولم تكن البشرية قبل الإسلام تحفظ مواريثها السابقة، بل كان الفاتحون يعملون على محو وإبادة آثار الأمم المغلوبة، وكان هذا بعينه علامة على عدم الرشد والبلوغ الفكري للبشرية قبل الإسلام، تلك الفترة التي يعبر عنها الإسلام بـ<الجاهلية>، ويشير هذا التقسيم إلى أن فترة ما بعد ظهور الإسلام فترة مقابل الجاهلية، أي عصر العلم والعقلانية>([7]).

ما تقدم حتى الآن كان عبارة عن بيان آراء الشهيد المطهري حول فلسفة ختم النبوة التشريعية، لكن لا يمكن استبعاد تلك الحقيقة، وهي أن الأنبياء الإلهيين لم يكونوا أصحاب شريعة، بل كانوا مبلغين وناشرين لشريعة النبي السابق لهم، ومع قبول أن الإسلام آخر شريعة إلهية، وأن نبي الإسلام صاحب شريعة، لا زال هذا السؤال قائماً، وهو: لماذا لم يبعث نبي تبليغي بعد نبي الإسلام لكي يكون ناشراً ومبلغاً لشريعته؟

وقد أدت تلك المسألة إلى أن يُفرِّق الشهيد المطهري بين النبوة التبليغية والنبوة التشريعية، ويتصدّى لتحليل كل منهما على حدة عند بيانه لفلسفة ختم النبوة. فقد اعتبر & وظيفة الأنبياء المبلغين هي نشر وتبيين الشريعة، وأيضاً تطبيق الأصول العامة للشريعة على مصاديقها بمرور الأيام، وقد أُوكلت هاتان المسؤوليتان الخطيرتان في فترة الرسالة الخاتمة إلى أناس تحملوهما نظراً لبلوغهم العقلي ورشدهم الفكري، يقول&: <…لقد سمح له بلوغه الفكري ورشده الاجتماعي أن يتصدى لتبليغ الدين وإقامته والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذلك انتفت الحاجة إلى الأنبياء المبلغين الذين كانوا دعاة ومبلغين لشرائع الأنبياء من أصحاب الشرائع. أما في الإسلام فإنَّ علماء الأمة وصلحاؤها هم الذين يقومون بذلك، وقد بلغوا من الرشد الفكري بحيث تمكنوا في ضوء الاجتهاد من تفسير الوحي وتبيينه، وإرجاع كل مورد إلى الأصل الخاص به في الظروف المكانية والزمانية المختلفة، لقد قام علماء الأمة بهذه المهمة>([8]).

إنَّ الوحي هو أعلى وأرقى مظاهر ودرجات الهداية، توجد في الوحي إرشادات لا يصل إليها الحس والخيال والعقل والعلم والفلسفة، ولا يستطيع أي منها أن يحلَّ محله، لكن الوحي الذي له تلك الميزة هو الوحي التشريعي، لا الوحي التبليغي، الوحي التبليغي على عكس ذلك. ما دام البشر بحاجة إلى الوحي التبليغي فإنّ العقل والعلم والحضارة لم تصل بعدُ إلى درجة بحيث يعتمد الناس على أنفسهم في الدعوة والتعليم والتبليغ والاجتهاد في دينهم. إنّ ظهور العلم والعقل، وبعبارة أخرى: الرشد والبلوغ الإنساني، يؤدي بذاته إلى انتفاء الحاجة للوحي التبليغي، ويصبح العلماء خلفاء الأنبياء>([9]).

وكما يظهر من هذا النص من كلام الأستاذ الشهيد وغيره من النصوص فإنه يعتبر ـ علناً ـ الاجتهاد القوة المحركة للإسلام في فترة ختم الرسالة وخلافة النبوة التبليغية.

ويعتقد أن الاجتهاد إذا اقترن بحسن التقدير وجودة الاستنباط فإنه سيكون قادراً على إرشاد البشرية في جميع تحولاتها الاجتماعية([10]).
مرتضى مطهري - (1919 - 1979) عالم دين وفيلسوف إسلامي ومفكر وكاتب شيعي إيراني، العضو المؤسس في شورى الثورة الإسلامية في إيران إبان الأيام الأخيرة من سقوط نظام الشاه، ومن المنظرين جمهورية الإسلامية الإيرانية. هوأحد أبرز تلامذة المفسر والفيلسوف الإسلامي محمد حسين الطباطبائي وروح الله الخميني. صاحب الشبكة الواسعة من المؤلفات التأصيلية والعقائدية والفلسفية الإسلامية، من أهم مميزاته بيان تعاليم الإسلام والتشيع بعبارات سهلة، وواضحة وسهلة، للجيل الصاعد في ذلك الوقت ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ ختم النبوة ❝ الناشرين : ❞ دار المحجة البيضاء ❝ ❱
من كتب التوحيد والعقيدة التوحيد والعقيدة - مكتبة كتب إسلامية.

نبذة عن الكتاب:
ختم النبوة

فلسفة ختم النبوة من الأبحاث الكلامية التي ليس لها ذلك القدم التاريخي بين المتكلمين وعلماء المسلمين، وإن كانت هناك إشارات حولها في عبارات المتكلمين والعرفاء، بل وفي روايات المعصومين^، إلا أنّ هذه المسألة لم تطرح بنحو مستقل وصريح إلاّ في العقود الأخيرة، ومن قبل بعض المتنورين المتدينين في الأغلب، ولعل الشهيد مرتضى المطهري أكثر من تكلم وكتب في هذا الموضوع، فقد تعرض المطهري في ثلاثة من مؤلفاته بنحو مفصَّل إلى بحث فلسفة ختم النبوة، وأول وأكثر الآثار تفصيلاً في هذا المجال هو سلسة محاضراته في حسينية الإرشاد سنة 1347(هجري شمسي)، وكانت عشر محاضرات حول موضوع ختم النبوة، وقد كُتبت من الأشرطة وطُبعت بدون أي تصرّف بعنوان <الخاتمية>، والأثر الثاني له مقالة بعنوان <ختم النبوة>، والتي طبعت منذ سنوات في مجموعة بعنوان <محمد خاتم الأنبياء>، ثم طُبعت تلك المقالة بمفردها في رسالة صغيرة، والأثر الثالث للشهيد المطهري هو الجزء الثالث من مجموعته <مقدمة في الرؤية الكونية الإسلامية>، والذي يحمل عنوان <الوحي والنبوة>، والتي تعرض في بعضها إلى مسألة <فلسفة الخاتمية>. وتوجد إشارات في مصنفاته الأخرى، مثل: «الإسلام ومتطلبات العصر» و<معرفة القرآن> و<نقد الماركسية>.

وقد أخذت هذه المقالة على عاتقها دراسة ونقد مسألة فلسفة الخاتمية من وجهة نظره؛ إذ يطرح الأستاذ الشهيد في أول وهلة سؤالين في ذهن مخاطبه، أولاً: بسؤال عن عليّة انتهاء ظهور الشرائع الجديدة بمجيء الشريعة الإسلامية، وعرض الإسلام على أنّه دين خالد للبشرية؟

والسؤال الثاني عن عِلّة انتهاء سلسلة الأنبياء، لأنّه ليس من الضروري اقتران النبوة بالشريعة، بل إنّ أكثر الأنبياء كانوا مبلغين لشرائع سابقة عليهم، فمع فرض خاتمية الدين الإسلامي يبقى السؤال مطروحاً عن خاتمية نبي الإسلام.

نظرية المطهري في ختم النبوّة ـــــــ
وبعبارة أخرى: إنّ الشهيد المطهري يُفرِّق في مؤلفاته بين النبوة التبليغية والنبوّة التشريعية، ويقسِّم الأنبياء إلى أنبياء ذوي شرائع؛ وأنبياء مبلغين لشرائع سابقة، ويعتبر فلسفة وحكمة ختم النبوة مختلفة في كل واحد من نوعي النبوة هاتين عن الآخر.

ويقسِّم الفترات التاريخية للحياة البشرية ـ تبعاً للعلامة إقبال اللاهوري ـ إلى فترتين: الأولى: فترة الطفولة، والثانية: فترة البلوغ والرشد العقلي، ويعتبر ظهور الإسلام في الحد الفاصل بين هذين الفترتين.

ولذا فإنّه يبيّن فلسفة ختم النبوة التشريعية أو فلسفة ختم الشرائع في بعدين: الأول: أهلية البشر لتقبل الشريعة الخاتمة؛ والثاني: قدرتهم على حفظ تلك الشريعة، فيقول: <في الفترات السابقة للشرائع لم يكن الناس قادرين ـ بسبب عدم البلوغ والرشد العقلي ـ على استيعاب المخطط الكامل لمسيرتهم والاستمرار في طريقهم بمساعدته؛ ولذا كان من اللازم إرشادهم مرحلة بعد مرحلة ومنزلاً ثم منزلٍ، ويرافقهم المرشدون على الدوام، أما في عصر الرسالة الخاتمة فما بعدها فقد تحققت تلك القدرة على استيعاب المخطط الكامل، وتوقف العمل بطريقة الإرشاد منزلاً منزلاً ومرحلة مرحلة، فالسبب في تجدد الشرائع أن البشر لم يكن قادراً على استيعاب المخطط الكامل والجامع، وعند توفر تلك القابلية منحتهم السماء البرنامج الكامل والجامع؛ ولهذا انتفت علة تجديد النبوات والشرائع([1]).

ويشير الأستاذ الشهيد في آثاره بصورة عابرة إلى كلام العرفاء حول فلسفة ختم النبوة.

حيث يؤكد عرفاء المسلمين على علو درجة النبي الأكرم’، وأهليته لطي آخر مراحل الكمال الإنساني وأكمل المكاشفات لاستلام الشريعة والمعارف الإلهية.

فيقول: <لقد أدرك العرفاء أن النبوة ختمت لأنَّ جميع المراحل والمقامات الفردية والاجتماعية والطريق الذي يجب سلوكه كلها كشفت، وكلّ ما يتلقاه أي إنسان سوف لن يكون أكمل من ذلك، ولذلك كان مضطراً لاتّباع الخاتم، مَنْ ختم المراتب بأسرها>([2]).

فقد ربط & كلام العرفاء هذا بختم النبوة التشريعية، قائلاً: <…في هذا التعريف للخاتمية لم يُكتف بملاحظة عدم بعثة نبي بعده، بل ذكرت أيضاً علة هذه المسألة، وهي عدم مجيء نبي صاحب شريعة؛ لأنه لا يوجد ما يأتي به عن طريق النبوة، أي ما يدركه الإنسان بواسطة الوحي والإلهام، لا ما يحصّله عن طريق العلم والعقل، وهو طريق آخر مقدور للبشر، لم يبقَ ما يمكن إلقاءه إلى الإنسان، ولم يبق كلام لم يُقلْ>([3]).

وهذا الادعاء من العرفاء مبني على أصل أنّ الكمال الإنساني متناه وهناك حد نهائي لكماله، وفي كتاب <نظر الماركسية> وبعد أن ينقل الأستاذ المطهري عبارة الشيخ محيي الدين بن عربي حول الخاتمية؛ إذ يقول: <الخاتم من ختم المراتب بأسرها> يوضِّحها كالآتي: <… وعلى أية حال فإن هذه المسألة لابد أن تطرح بالنحو الآتي، وهو هل أن للإنسان كمالاً نهائياً، بحيث إذا وصل إليه فلا يمكن أن يفرض له كمال أعلى حينئذ، وإن الأعلى منه وجوب الوجود، أم لا، بأن الإنسان مهما تكامل فإنّ الطريق مفتوح أمامه؟ وقد ذكر السيد علي خان المدني هذه المسألة في شرح الصحيفة السجادية، بأن الصلاة على النبي’ هل لها أثر عليه أم لا؟ بأنْ تكون مفيدة للمصلي عليه أما النبي صلوات الله عليه فقد وصل إلى مرتبة بحيث ليس للصلاة أثر عليه؟ وأوّل بعضهم يثرب في الآية الشريفة <يا أهل يثرب لا مقام لكم> بالإنسانية، وقالوا: إن الإنسان ليس له كمال نهائي، ليس له حدّ نهائي وإن الرسول الأكرم’ في حال تكامل دائم>([4]).

وفي توضيح البعد الآخر لفلسفة ختم النبوة التشريعية، وهو أنّ البشرية بلغت مرتبة حفظ شريعتها وكتابها السماوي، يقول الشهيد المطهري: <لم تكن البشرية في السابق قادرة على حفظ كتابها السماوي؛ بسبب عدم الرشد والبلوغ الفكري، وعادة ما كانت الكتب السماوية تُحرّف وتُبدّل أو تفقد بالمرّة، ولهذا كان من الضروري استئناف رسالة جديدة، أما عصر نزول القرآن قبل أربعة عشر قرناً فقد اقترن بعبور البشرية من مرحلة الطفولة، وكانت قادرة على حفظ ميراثها العلمي والديني، ولهذا لم يقع تحريف في آخر الكتب السماوية المقدسة، يعني القرآن الكريم. وكان المسلمون يحفظون كل آية ساعة نزولها بالقلوب والقراطيس، بحيث انتفى احتمال أي تبديل وتحريف وحذف وإضافة، ولهذا لم يحدث التحريف والنقصان في هذا الكتاب السماوي، وهذا أحد أسباب انتفاء الداعي لاستئناف النبوة([5]).

<لقد كان تدوين العلوم المختلفة للغة العربية، مثل: علم المفردات، الصرف والنحو، علم المعاني، البيان، والبديع، بهدف سعي البشرية لحفظ كتابها السماوي، ولا سيما أنَّ أكثر المؤلفين لهذه العلوم كانوا من غير العرب، وإن نشوء علم التفسير وعلم الحديث منذ القرن الأول الهجري كلها دلائل رشد وبلوغ البشرية في فترة ظهور الإسلام، وعلامة على ختم النبوة>([6]).

<بل يمكن القول: إنّ تاريخ البشرية ـ على أحد المعاني ـ بدأ من عصر ظهور الإسلام، فإذا كان المقصود من عصر التاريخ ـ في مقابل عصر ما قبل التاريخ ـ تلك الفترة التي حفظت فيها البشرية تاريخها متسلسلاً فهذه تبدأ من عصر ظهور الإسلام، وقد حفظت آثار اليونانيين والهنود والإيرانيين من قبل المسلمين، ولم تكن البشرية قبل الإسلام تحفظ مواريثها السابقة، بل كان الفاتحون يعملون على محو وإبادة آثار الأمم المغلوبة، وكان هذا بعينه علامة على عدم الرشد والبلوغ الفكري للبشرية قبل الإسلام، تلك الفترة التي يعبر عنها الإسلام بـ<الجاهلية>، ويشير هذا التقسيم إلى أن فترة ما بعد ظهور الإسلام فترة مقابل الجاهلية، أي عصر العلم والعقلانية>([7]).

ما تقدم حتى الآن كان عبارة عن بيان آراء الشهيد المطهري حول فلسفة ختم النبوة التشريعية، لكن لا يمكن استبعاد تلك الحقيقة، وهي أن الأنبياء الإلهيين لم يكونوا أصحاب شريعة، بل كانوا مبلغين وناشرين لشريعة النبي السابق لهم، ومع قبول أن الإسلام آخر شريعة إلهية، وأن نبي الإسلام صاحب شريعة، لا زال هذا السؤال قائماً، وهو: لماذا لم يبعث نبي تبليغي بعد نبي الإسلام لكي يكون ناشراً ومبلغاً لشريعته؟

وقد أدت تلك المسألة إلى أن يُفرِّق الشهيد المطهري بين النبوة التبليغية والنبوة التشريعية، ويتصدّى لتحليل كل منهما على حدة عند بيانه لفلسفة ختم النبوة. فقد اعتبر & وظيفة الأنبياء المبلغين هي نشر وتبيين الشريعة، وأيضاً تطبيق الأصول العامة للشريعة على مصاديقها بمرور الأيام، وقد أُوكلت هاتان المسؤوليتان الخطيرتان في فترة الرسالة الخاتمة إلى أناس تحملوهما نظراً لبلوغهم العقلي ورشدهم الفكري، يقول&: <…لقد سمح له بلوغه الفكري ورشده الاجتماعي أن يتصدى لتبليغ الدين وإقامته والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذلك انتفت الحاجة إلى الأنبياء المبلغين الذين كانوا دعاة ومبلغين لشرائع الأنبياء من أصحاب الشرائع. أما في الإسلام فإنَّ علماء الأمة وصلحاؤها هم الذين يقومون بذلك، وقد بلغوا من الرشد الفكري بحيث تمكنوا في ضوء الاجتهاد من تفسير الوحي وتبيينه، وإرجاع كل مورد إلى الأصل الخاص به في الظروف المكانية والزمانية المختلفة، لقد قام علماء الأمة بهذه المهمة>([8]).

إنَّ الوحي هو أعلى وأرقى مظاهر ودرجات الهداية، توجد في الوحي إرشادات لا يصل إليها الحس والخيال والعقل والعلم والفلسفة، ولا يستطيع أي منها أن يحلَّ محله، لكن الوحي الذي له تلك الميزة هو الوحي التشريعي، لا الوحي التبليغي، الوحي التبليغي على عكس ذلك. ما دام البشر بحاجة إلى الوحي التبليغي فإنّ العقل والعلم والحضارة لم تصل بعدُ إلى درجة بحيث يعتمد الناس على أنفسهم في الدعوة والتعليم والتبليغ والاجتهاد في دينهم. إنّ ظهور العلم والعقل، وبعبارة أخرى: الرشد والبلوغ الإنساني، يؤدي بذاته إلى انتفاء الحاجة للوحي التبليغي، ويصبح العلماء خلفاء الأنبياء>([9]).

وكما يظهر من هذا النص من كلام الأستاذ الشهيد وغيره من النصوص فإنه يعتبر ـ علناً ـ الاجتهاد القوة المحركة للإسلام في فترة ختم الرسالة وخلافة النبوة التبليغية.

ويعتقد أن الاجتهاد إذا اقترن بحسن التقدير وجودة الاستنباط فإنه سيكون قادراً على إرشاد البشرية في جميع تحولاتها الاجتماعية([10]). .
المزيد..

تعليقات القرّاء:

فلسفة ختم النبوة من الأبحاث الكلامية التي ليس لها ذلك القدم التاريخي بين المتكلمين وعلماء المسلمين، وإن كانت هناك إشارات حولها في عبارات المتكلمين والعرفاء، بل وفي روايات المعصومين^، إلا أنّ هذه المسألة لم تطرح بنحو مستقل وصريح إلاّ في العقود الأخيرة، ومن قبل بعض المتنورين المتدينين في الأغلب، ولعل الشهيد مرتضى المطهري أكثر من تكلم وكتب في هذا الموضوع، فقد تعرض المطهري في ثلاثة من مؤلفاته بنحو مفصَّل إلى بحث فلسفة ختم النبوة، وأول وأكثر الآثار تفصيلاً في هذا المجال هو سلسة محاضراته في حسينية الإرشاد سنة 1347(هجري شمسي)، وكانت عشر محاضرات حول موضوع ختم النبوة، وقد كُتبت من الأشرطة وطُبعت بدون أي تصرّف بعنوان <الخاتمية>، والأثر الثاني له مقالة بعنوان <ختم النبوة>، والتي طبعت منذ سنوات في مجموعة بعنوان <محمد خاتم الأنبياء>، ثم طُبعت تلك المقالة بمفردها في رسالة صغيرة، والأثر الثالث للشهيد المطهري هو الجزء الثالث من مجموعته <مقدمة في الرؤية الكونية الإسلامية>، والذي يحمل عنوان <الوحي والنبوة>، والتي تعرض في بعضها إلى مسألة <فلسفة الخاتمية>. وتوجد إشارات في مصنفاته الأخرى، مثل: «الإسلام ومتطلبات العصر» و<معرفة القرآن> و<نقد الماركسية>.

وقد أخذت هذه المقالة على عاتقها دراسة ونقد مسألة فلسفة الخاتمية من وجهة نظره؛ إذ يطرح الأستاذ الشهيد في أول وهلة سؤالين في ذهن مخاطبه، أولاً: بسؤال عن عليّة انتهاء ظهور الشرائع الجديدة بمجيء الشريعة الإسلامية، وعرض الإسلام على أنّه دين خالد للبشرية؟

والسؤال الثاني عن عِلّة انتهاء سلسلة الأنبياء، لأنّه ليس من الضروري اقتران النبوة بالشريعة، بل إنّ أكثر الأنبياء كانوا مبلغين لشرائع سابقة عليهم، فمع فرض خاتمية الدين الإسلامي يبقى السؤال مطروحاً عن خاتمية نبي الإسلام.

نظرية المطهري في ختم النبوّة ـــــــ
وبعبارة أخرى: إنّ الشهيد المطهري يُفرِّق في مؤلفاته بين النبوة التبليغية والنبوّة التشريعية، ويقسِّم الأنبياء إلى أنبياء ذوي شرائع؛ وأنبياء مبلغين لشرائع سابقة، ويعتبر فلسفة وحكمة ختم النبوة مختلفة في كل واحد من نوعي النبوة هاتين عن الآخر.

ويقسِّم الفترات التاريخية للحياة البشرية ـ تبعاً للعلامة إقبال اللاهوري ـ إلى فترتين: الأولى: فترة الطفولة، والثانية: فترة البلوغ والرشد العقلي، ويعتبر ظهور الإسلام في الحد الفاصل بين هذين الفترتين.

ولذا فإنّه يبيّن فلسفة ختم النبوة التشريعية أو فلسفة ختم الشرائع في بعدين: الأول: أهلية البشر لتقبل الشريعة الخاتمة؛ والثاني: قدرتهم على حفظ تلك الشريعة، فيقول: <في الفترات السابقة للشرائع لم يكن الناس قادرين ـ بسبب عدم البلوغ والرشد العقلي ـ على استيعاب المخطط الكامل لمسيرتهم والاستمرار في طريقهم بمساعدته؛ ولذا كان من اللازم إرشادهم مرحلة بعد مرحلة ومنزلاً ثم منزلٍ، ويرافقهم المرشدون على الدوام، أما في عصر الرسالة الخاتمة فما بعدها فقد تحققت تلك القدرة على استيعاب المخطط الكامل، وتوقف العمل بطريقة الإرشاد منزلاً منزلاً ومرحلة مرحلة، فالسبب في تجدد الشرائع أن البشر لم يكن قادراً على استيعاب المخطط الكامل والجامع، وعند توفر تلك القابلية منحتهم السماء البرنامج الكامل والجامع؛ ولهذا انتفت علة تجديد النبوات والشرائع([1]).

ويشير الأستاذ الشهيد في آثاره بصورة عابرة إلى كلام العرفاء حول فلسفة ختم النبوة.

حيث يؤكد عرفاء المسلمين على علو درجة النبي الأكرم’، وأهليته لطي آخر مراحل الكمال الإنساني وأكمل المكاشفات لاستلام الشريعة والمعارف الإلهية.

فيقول: <لقد أدرك العرفاء أن النبوة ختمت لأنَّ جميع المراحل والمقامات الفردية والاجتماعية والطريق الذي يجب سلوكه كلها كشفت، وكلّ ما يتلقاه أي إنسان سوف لن يكون أكمل من ذلك، ولذلك كان مضطراً لاتّباع الخاتم، مَنْ ختم المراتب بأسرها>([2]).

فقد ربط & كلام العرفاء هذا بختم النبوة التشريعية، قائلاً: <…في هذا التعريف للخاتمية لم يُكتف بملاحظة عدم بعثة نبي بعده، بل ذكرت أيضاً علة هذه المسألة، وهي عدم مجيء نبي صاحب شريعة؛ لأنه لا يوجد ما يأتي به عن طريق النبوة، أي ما يدركه الإنسان بواسطة الوحي والإلهام، لا ما يحصّله عن طريق العلم والعقل، وهو طريق آخر مقدور للبشر، لم يبقَ ما يمكن إلقاءه إلى الإنسان، ولم يبق كلام لم يُقلْ>([3]).

وهذا الادعاء من العرفاء مبني على أصل أنّ الكمال الإنساني متناه وهناك حد نهائي لكماله، وفي كتاب <نظر الماركسية> وبعد أن ينقل الأستاذ المطهري عبارة الشيخ محيي الدين بن عربي حول الخاتمية؛ إذ يقول: <الخاتم من ختم المراتب بأسرها> يوضِّحها كالآتي: <… وعلى أية حال فإن هذه المسألة لابد أن تطرح بالنحو الآتي، وهو هل أن للإنسان كمالاً نهائياً، بحيث إذا وصل إليه فلا يمكن أن يفرض له كمال أعلى حينئذ، وإن الأعلى منه وجوب الوجود، أم لا، بأن الإنسان مهما تكامل فإنّ الطريق مفتوح أمامه؟ وقد ذكر السيد علي خان المدني هذه المسألة في شرح الصحيفة السجادية، بأن الصلاة على النبي’ هل لها أثر عليه أم لا؟ بأنْ تكون مفيدة للمصلي عليه أما النبي صلوات الله عليه فقد وصل إلى مرتبة بحيث ليس للصلاة أثر عليه؟ وأوّل بعضهم يثرب في الآية الشريفة <يا أهل يثرب لا مقام لكم> بالإنسانية، وقالوا: إن الإنسان ليس له كمال نهائي، ليس له حدّ نهائي وإن الرسول الأكرم’ في حال تكامل دائم>([4]).

وفي توضيح البعد الآخر لفلسفة ختم النبوة التشريعية، وهو أنّ البشرية بلغت مرتبة حفظ شريعتها وكتابها السماوي، يقول الشهيد المطهري: <لم تكن البشرية في السابق قادرة على حفظ كتابها السماوي؛ بسبب عدم الرشد والبلوغ الفكري، وعادة ما كانت الكتب السماوية تُحرّف وتُبدّل أو تفقد بالمرّة، ولهذا كان من الضروري استئناف رسالة جديدة، أما عصر نزول القرآن قبل أربعة عشر قرناً فقد اقترن بعبور البشرية من مرحلة الطفولة، وكانت قادرة على حفظ ميراثها العلمي والديني، ولهذا لم يقع تحريف في آخر الكتب السماوية المقدسة، يعني القرآن الكريم. وكان المسلمون يحفظون كل آية ساعة نزولها بالقلوب والقراطيس، بحيث انتفى احتمال أي تبديل وتحريف وحذف وإضافة، ولهذا لم يحدث التحريف والنقصان في هذا الكتاب السماوي، وهذا أحد أسباب انتفاء الداعي لاستئناف النبوة([5]).

<لقد كان تدوين العلوم المختلفة للغة العربية، مثل: علم المفردات، الصرف والنحو، علم المعاني، البيان، والبديع، بهدف سعي البشرية لحفظ كتابها السماوي، ولا سيما أنَّ أكثر المؤلفين لهذه العلوم كانوا من غير العرب، وإن نشوء علم التفسير وعلم الحديث منذ القرن الأول الهجري كلها دلائل رشد وبلوغ البشرية في فترة ظهور الإسلام، وعلامة على ختم النبوة>([6]).

<بل يمكن القول: إنّ تاريخ البشرية ـ على أحد المعاني ـ بدأ من عصر ظهور الإسلام، فإذا كان المقصود من عصر التاريخ ـ في مقابل عصر ما قبل التاريخ ـ تلك الفترة التي حفظت فيها البشرية تاريخها متسلسلاً فهذه تبدأ من عصر ظهور الإسلام، وقد حفظت آثار اليونانيين والهنود والإيرانيين من قبل المسلمين، ولم تكن البشرية قبل الإسلام تحفظ مواريثها السابقة، بل كان الفاتحون يعملون على محو وإبادة آثار الأمم المغلوبة، وكان هذا بعينه علامة على عدم الرشد والبلوغ الفكري للبشرية قبل الإسلام، تلك الفترة التي يعبر عنها الإسلام بـ<الجاهلية>، ويشير هذا التقسيم إلى أن فترة ما بعد ظهور الإسلام فترة مقابل الجاهلية، أي عصر العلم والعقلانية>([7]).

ما تقدم حتى الآن كان عبارة عن بيان آراء الشهيد المطهري حول فلسفة ختم النبوة التشريعية، لكن لا يمكن استبعاد تلك الحقيقة، وهي أن الأنبياء الإلهيين لم يكونوا أصحاب شريعة، بل كانوا مبلغين وناشرين لشريعة النبي السابق لهم، ومع قبول أن الإسلام آخر شريعة إلهية، وأن نبي الإسلام صاحب شريعة، لا زال هذا السؤال قائماً، وهو: لماذا لم يبعث نبي تبليغي بعد نبي الإسلام لكي يكون ناشراً ومبلغاً لشريعته؟

وقد أدت تلك المسألة إلى أن يُفرِّق الشهيد المطهري بين النبوة التبليغية والنبوة التشريعية، ويتصدّى لتحليل كل منهما على حدة عند بيانه لفلسفة ختم النبوة. فقد اعتبر & وظيفة الأنبياء المبلغين هي نشر وتبيين الشريعة، وأيضاً تطبيق الأصول العامة للشريعة على مصاديقها بمرور الأيام، وقد أُوكلت هاتان المسؤوليتان الخطيرتان في فترة الرسالة الخاتمة إلى أناس تحملوهما نظراً لبلوغهم العقلي ورشدهم الفكري، يقول&: <…لقد سمح له بلوغه الفكري ورشده الاجتماعي أن يتصدى لتبليغ الدين وإقامته والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذلك انتفت الحاجة إلى الأنبياء المبلغين الذين كانوا دعاة ومبلغين لشرائع الأنبياء من أصحاب الشرائع. أما في الإسلام فإنَّ علماء الأمة وصلحاؤها هم الذين يقومون بذلك، وقد بلغوا من الرشد الفكري بحيث تمكنوا في ضوء الاجتهاد من تفسير الوحي وتبيينه، وإرجاع كل مورد إلى الأصل الخاص به في الظروف المكانية والزمانية المختلفة، لقد قام علماء الأمة بهذه المهمة>([8]).

إنَّ الوحي هو أعلى وأرقى مظاهر ودرجات  الهداية، توجد في الوحي إرشادات لا يصل إليها الحس والخيال والعقل والعلم والفلسفة، ولا يستطيع أي منها أن يحلَّ محله، لكن الوحي الذي له تلك الميزة هو الوحي التشريعي، لا الوحي التبليغي، الوحي التبليغي على عكس ذلك. ما دام البشر بحاجة إلى الوحي التبليغي فإنّ العقل والعلم والحضارة لم تصل بعدُ إلى درجة بحيث يعتمد الناس على أنفسهم في الدعوة والتعليم والتبليغ والاجتهاد في دينهم. إنّ ظهور العلم والعقل، وبعبارة أخرى: الرشد والبلوغ الإنساني، يؤدي بذاته إلى انتفاء الحاجة للوحي التبليغي، ويصبح العلماء خلفاء الأنبياء>([9]).

وكما يظهر من هذا النص من كلام الأستاذ الشهيد وغيره من النصوص فإنه يعتبر ـ علناً ـ الاجتهاد القوة المحركة للإسلام في فترة ختم الرسالة وخلافة النبوة التبليغية.

ويعتقد أن الاجتهاد إذا اقترن بحسن التقدير وجودة الاستنباط فإنه سيكون قادراً على إرشاد البشرية في جميع تحولاتها الاجتماعية([10]).



نوع الكتاب : pdf.
عداد القراءة: عدد قراءة ختم النبوة

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل ختم النبوة
شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

برنامج تشغيل ملفات pdfقبل تحميل الكتاب ..
يجب ان يتوفر لديكم برنامج تشغيل وقراءة ملفات pdf
يمكن تحميلة من هنا 'http://get.adobe.com/reader/'

المؤلف:
مرتضى مطهري - Morteza Motahari

كتب مرتضى مطهري (1919 - 1979) عالم دين وفيلسوف إسلامي ومفكر وكاتب شيعي إيراني، العضو المؤسس في شورى الثورة الإسلامية في إيران إبان الأيام الأخيرة من سقوط نظام الشاه، ومن المنظرين جمهورية الإسلامية الإيرانية. هوأحد أبرز تلامذة المفسر والفيلسوف الإسلامي محمد حسين الطباطبائي وروح الله الخميني. صاحب الشبكة الواسعة من المؤلفات التأصيلية والعقائدية والفلسفية الإسلامية، من أهم مميزاته بيان تعاليم الإسلام والتشيع بعبارات سهلة، وواضحة وسهلة، للجيل الصاعد في ذلك الوقت❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ ختم النبوة ❝ الناشرين : ❞ دار المحجة البيضاء ❝ ❱. المزيد..

كتب مرتضى مطهري
الناشر:
دار المحجة البيضاء
كتب دار المحجة البيضاء ❰ ناشرين لمجموعة من المؤلفات أبرزها ❞ قصة نبى الله موسى والخضر ❝ ❞ خطوات نحو بحث النهج الإعلامي لـ عبد الخالق محمد علي ❝ ❞ الصداقة والاصدقاء ❝ ❞ فسيرو فى الارض فانظروا ❝ ❞ ختم النبوة ❝ ❞ الصراع على المدن الداخلية في الحروب الصليبية ❝ ❞ المهدي المنتظر ومعركة تحرير القدس ❝ ❞ بيت العنكبوت ❝ ❞ النبوة في نهج البلاغة: قراءة علوية للسيرة المحمدية ❝ ❞ الإمام علي بن أبي طالب مفسرا للقرآن ❝ ومن أبرز المؤلفين : ❞ محمد علي قطب ❝ ❞ هادى المدرسى ❝ ❞ على الاحسائى ❝ ❞ أحمد راسم النفيس ❝ ❞ محمد السماوى ❝ ❞ علي حسين درة ❝ ❞ مرتضى مطهري ❝ ❱.المزيد.. كتب دار المحجة البيضاء