❞ كتاب السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها ❝  ⏤ يوسف القرضاوي

❞ كتاب السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها ❝ ⏤ يوسف القرضاوي

هذا هو الجزء الرابع من هذه السلسلة المباركة إن شاء الله «نحو وحدة فكرية للعاملين للإسلام» وموضوعه: «السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها» ويتضمن الحديث حول الأصل الخامس من «الأصول العشرين» للإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله.

وهو الأصل الذي تحدث فيه بإيجاز شديد عن السياسة الشرعية المنوطة بالإمام «الخليفة أو رئيس الدولة» أو نائبه، وعن رأيه في أمور السياسة والإدارة والحكم، ومدى اعتباره، وفي أي المجالات يعمل به «وقد حدده فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل عدة أوجه، وفي المصالح المرسلة»، وما شرط ذلك؟ وهل يقبل هذا الرأي التغير بتغير الأوضاع والظروف أو هو جامد لا يلين ولا يتحرك؟ وما موقف الإمام من الشورى؟

وهل يعمل بهذا الرأي في العبادات والمعاملات على حد سواء أو أن بينهما فرقًا في النظر إلى المقاصد والعلل أو عدم النظر إليها؟

يقول الإمام رضي الله عنه:

«ورأي الإمام أو نائبه، فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوهًا عدة، وفي المصالح المرسلة - معمول به، ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بتغير الظروف والعرف والعادات، والأصل في العبادات: التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وفي العاديات: الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد».

وقد وسعنا القول حول هذه الأمور التي أشار إليها الأستاذ البنا، وناقشنا في سياقها قضايا مهمة وعلى جانب من الخطورة في عصرنا، تتعلق بالسياسة الشرعية، مثل بيان الرأي النبوي وتغيره، ورأي الخلفاء الراشدين وتغيره، ومدى إلزامية رأيهم في السياسة الشرعية لمن بعدهم.

كما تحدثنا عن المصلحة المرسلة وشروطها وضوابطها، والمصلحة الملغاة، والمصلحة المعتبرة، وكذلك عن الشورى ومدى إلزامها لولي الأمر.

ولم ننسَ بيان الأسس والمرتكزات التي يقوم عليها فقه السياسة الشرعية، وهي:

فقه المقاصد... وفقه الواقع، وفقه الموازنات... وفقه الأولويات... وفقه التغيير.

ولا ريب أن موضوع السياسة الشرعية مهم وخطير، والفقهاء من عهد ابن القيم وما قبله، ما بين جامد حجّر ما وسع الله في شريعته، وغلّق الأبواب على ولاة الأمر، فاستحدثوا قوانين سياسية بمعزل عن الشريعة، ومرخِّص بالغ في البحبحة لهم، حتى اجترءوا على حدود الله وحقوق الناس.

والمنهج الوسط هو المطلوب دائمًا، فهو لا يغلو ولا يقصر، ولا يطغى ولا يُخسِر في الميزان، ونحن أحوج ما نكون إلى هذا المنهج الوسطي في عصرنا، وخصوصًا في هذا الموضوع الذي قد كثر فيه اللغط، واختلط فيه الصواب بالغلط، وتنازعت في الإفتاء فيه مدارس متباينة في أهدافها وفي مناهجها: ما بين «متسيبين» لا يريدون أن يتقيدوا بشيء، ولا أن تضبطهم ضوابط، ولا أن تحكمهم أصول وقواعد، زاعمين أنهم إنما يحكِّمون روح الدين، ومقاصد الشرع، وهم أبعد الناس عن مقاصد الشرع، وروح الدين.

وما بين «حرفيين» جامدين يعيشون في الماضي وحده، ويجترّون القديم، ولا يعايشون العصر، ولا يحسون بما تمور به الحياة من أفكار، ولا ما يجري في العالم من حولهم من أحداث، وما يجدُّ كل يوم من جديد، لا يكاد يلاحقه الناس، فهؤلاء في غفلة عن مقاصد الشرع، وعن مشاكل العصر.

وما بين «وسطيين» يحاولون أن يجمعوا بين الحسنيين؛ بين فقه الشرع وفقه الواقع، بين استلهام القديم والانتفاع بالجديد، بين الاستهداء بالتراث واستشراف المستقبل، بين النظر إلى المقاصد الكلية وإلى النصوص الجزئية، وفهم هذه في ضوء تلك، فهم يجتهدون ألا يطغوا في الميزان، وأن يقيموا الوزن بالقسط ولا يخسروا الميزان. وأنا أرجو أن أكون من هؤلاء.

وشأن هؤلاء شأن أهل الوسط دائمًا، لا يُرضون أيًّا من الطرفين، ولا يعجبون واحدًا من الفريقين السابقين.

ولكن هؤلاء هم الذين يناط بهم الأمل، وينعقد عليهم الرجاء في إنقاذ الأمة، والرقي بها، وفق منهج الإسلام عقيدة وشريعة، ومثلًا وحضارة، موازنين بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر، متخذين من التراث نورًا يهدي، لا قيدًا يعُوق، جامعين بين القديم النافع والجديد الصالح.

هذا ما حاولنا أن نسلط عليه الضوء في هذا البحث، وأن نرد بتفصيل على الذين أرادوا أن يعطلوا النصوص باسم المقاصد، والذين اتخذوا من بعض اجتهادات الفاروق عمر رضي الله عنه تكأة لهم، وقد راج ذلك وشاع للأسف عند الكثيرين.

وقد بينا بالحجج الدامغة وبالبينات القاطعة أن ابن الخطاب لم يعطل نصًّا صريحًا يومًا، وحاشاه، بل كان من أشد الناس احترامًا لمحكمات النصوص ونزولًا على حكمها.

وقد أطلنا القول في قضية «تعارض النصوص والمصالح» والقواعد التي تحكمها، والتفريق بين النصوص القطعية والظنية، وتحدثنا عن رأي الفقيه الحنبلي المعروف نجم الدين الطوفي، وما اشتهر عنه من القول بتعطيل النص باسم المصلحة، حتى شاع أنه يقول بتعطيل النص القطعي بالمصلحة، والرجل بريء من ذلك، كما بيناه من صريح كلامه.

كما قصدنا إلى الحديث عن أسس ومرتكزات فقه السياسة الشرعية، كما أشرنا إلى ذلك، وهي ما حددناه في: فقه المقاصد، وفقه الواقع، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، وفقه التغيير، وقد ألقيت شعاعًا على كل منها بما يناسب المقام.

وبهذا تبين لنا - ولكل دارس منصف - أن السياسة الشرعية ليست جمودًا ولا انغلاقًا، بل هي متحركة بحركة الحياة، متطورة بتطور المجتمع، متجددة بتجدد الفكر، وهي تتسع للاجتهاد والتجديد في الفروع والجزئيات والظنيات في ضوء الأصول والكليات والقطعيات، فهي تفهم المتغيرات في إطار الثوابت، والظنيات في دائرة القطعيات.

كما تتسع هذه السياسة الشرعية للإبداع والابتكار في مجال الوسائل والأساليب والآليات التي تتسم بالتغير والقيم الكبرى، التي تتسم بالثبات، ولا حرج علينا أن نقتبس مما عند الآخرين من علم وتكنولوجيا ووسائل وكيفيات، ونحو ذلك مما لا يحمل الطابع العقائدي المميز لأصحابه، والحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها.

أرجو ألا يزعج عنوان «السياسة الشرعية» جماعات الماركسيين والعلمانيين والمتغربين عامة، الذين يقلقهم أي ربط للدين أو للشرع بالسياسة، ويثيرون الحملات باستمرار حول ما سموه: «الإسلام السياسي» أو «تسييس الدين» والحق أنهم يرفضون الدين موجهًا للحياة، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو أخلاقية، يريدون أن يعزلوا الله تعالى عن خلقه، فلا يأمرهم، ولا ينهاهم.


يوسف القرضاوي - يوسف عبد الله القرضاوي (9 سبتمبر 1926): عالم مصري مسلم يحمل الجنسية القطرية، ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين سابقا. ولد في قرية صفط تراب مركز المحلة الكبرى بمحافظة الغربية في مصر.


❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام ❝ ❞ الصبر في القرآن ❝ ❞ جيل النصر المنشود ❝ ❞ الإسلام والعلمانية وجها لوجه ❝ ❞ المنتقى من كتاب الترغيب والترهيب للمنذري ❝ ❞ الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد ❝ ❞ دور الزكاة في علاج المشكلات الاقتصادية وشروط نجاحها ❝ ❞ ثقافتنا بين الانفتاح والانغلاق ❝ ❞ عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية ❝ الناشرين : ❞ جميع الحقوق محفوظة للمؤلف ❝ ❞ دار الشروق للنشر والتوزيع: مصر - لبنان ❝ ❞ دار القلم للنشر والتوزيع ❝ ❞ مؤسسة الرسالة ❝ ❞ المكتب الإسلامي للطباعة والنشر ❝ ❞ الأزهر الشريف ❝ ❞ دار الشروق ❝ ❞ مكتبة وهبة ❝ ❞ دار الصحوة للنشر ❝ ❞ مركز بحوث السنة والسيره -قطر ❝ ❞ مكتبة البنين ❝ ❱
من كتب السياسة الشرعية كتب إسلامية متنوعة - مكتبة الكتب والموسوعات العامة.

نبذة عن الكتاب:
السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها

1998م - 1446هـ
هذا هو الجزء الرابع من هذه السلسلة المباركة إن شاء الله «نحو وحدة فكرية للعاملين للإسلام» وموضوعه: «السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها» ويتضمن الحديث حول الأصل الخامس من «الأصول العشرين» للإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله.

وهو الأصل الذي تحدث فيه بإيجاز شديد عن السياسة الشرعية المنوطة بالإمام «الخليفة أو رئيس الدولة» أو نائبه، وعن رأيه في أمور السياسة والإدارة والحكم، ومدى اعتباره، وفي أي المجالات يعمل به «وقد حدده فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل عدة أوجه، وفي المصالح المرسلة»، وما شرط ذلك؟ وهل يقبل هذا الرأي التغير بتغير الأوضاع والظروف أو هو جامد لا يلين ولا يتحرك؟ وما موقف الإمام من الشورى؟

وهل يعمل بهذا الرأي في العبادات والمعاملات على حد سواء أو أن بينهما فرقًا في النظر إلى المقاصد والعلل أو عدم النظر إليها؟

يقول الإمام رضي الله عنه:

«ورأي الإمام أو نائبه، فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوهًا عدة، وفي المصالح المرسلة - معمول به، ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بتغير الظروف والعرف والعادات، والأصل في العبادات: التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وفي العاديات: الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد».

وقد وسعنا القول حول هذه الأمور التي أشار إليها الأستاذ البنا، وناقشنا في سياقها قضايا مهمة وعلى جانب من الخطورة في عصرنا، تتعلق بالسياسة الشرعية، مثل بيان الرأي النبوي وتغيره، ورأي الخلفاء الراشدين وتغيره، ومدى إلزامية رأيهم في السياسة الشرعية لمن بعدهم.

كما تحدثنا عن المصلحة المرسلة وشروطها وضوابطها، والمصلحة الملغاة، والمصلحة المعتبرة، وكذلك عن الشورى ومدى إلزامها لولي الأمر.

ولم ننسَ بيان الأسس والمرتكزات التي يقوم عليها فقه السياسة الشرعية، وهي:

فقه المقاصد... وفقه الواقع، وفقه الموازنات... وفقه الأولويات... وفقه التغيير.

ولا ريب أن موضوع السياسة الشرعية مهم وخطير، والفقهاء من عهد ابن القيم وما قبله، ما بين جامد حجّر ما وسع الله في شريعته، وغلّق الأبواب على ولاة الأمر، فاستحدثوا قوانين سياسية بمعزل عن الشريعة، ومرخِّص بالغ في البحبحة لهم، حتى اجترءوا على حدود الله وحقوق الناس.

والمنهج الوسط هو المطلوب دائمًا، فهو لا يغلو ولا يقصر، ولا يطغى ولا يُخسِر في الميزان، ونحن أحوج ما نكون إلى هذا المنهج الوسطي في عصرنا، وخصوصًا في هذا الموضوع الذي قد كثر فيه اللغط، واختلط فيه الصواب بالغلط، وتنازعت في الإفتاء فيه مدارس متباينة في أهدافها وفي مناهجها: ما بين «متسيبين» لا يريدون أن يتقيدوا بشيء، ولا أن تضبطهم ضوابط، ولا أن تحكمهم أصول وقواعد، زاعمين أنهم إنما يحكِّمون روح الدين، ومقاصد الشرع، وهم أبعد الناس عن مقاصد الشرع، وروح الدين.

وما بين «حرفيين» جامدين يعيشون في الماضي وحده، ويجترّون القديم، ولا يعايشون العصر، ولا يحسون بما تمور به الحياة من أفكار، ولا ما يجري في العالم من حولهم من أحداث، وما يجدُّ كل يوم من جديد، لا يكاد يلاحقه الناس، فهؤلاء في غفلة عن مقاصد الشرع، وعن مشاكل العصر.

وما بين «وسطيين» يحاولون أن يجمعوا بين الحسنيين؛ بين فقه الشرع وفقه الواقع، بين استلهام القديم والانتفاع بالجديد، بين الاستهداء بالتراث واستشراف المستقبل، بين النظر إلى المقاصد الكلية وإلى النصوص الجزئية، وفهم هذه في ضوء تلك، فهم يجتهدون ألا يطغوا في الميزان، وأن يقيموا الوزن بالقسط ولا يخسروا الميزان. وأنا أرجو أن أكون من هؤلاء.

وشأن هؤلاء شأن أهل الوسط دائمًا، لا يُرضون أيًّا من الطرفين، ولا يعجبون واحدًا من الفريقين السابقين.

ولكن هؤلاء هم الذين يناط بهم الأمل، وينعقد عليهم الرجاء في إنقاذ الأمة، والرقي بها، وفق منهج الإسلام عقيدة وشريعة، ومثلًا وحضارة، موازنين بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر، متخذين من التراث نورًا يهدي، لا قيدًا يعُوق، جامعين بين القديم النافع والجديد الصالح.

هذا ما حاولنا أن نسلط عليه الضوء في هذا البحث، وأن نرد بتفصيل على الذين أرادوا أن يعطلوا النصوص باسم المقاصد، والذين اتخذوا من بعض اجتهادات الفاروق عمر رضي الله عنه تكأة لهم، وقد راج ذلك وشاع للأسف عند الكثيرين.

وقد بينا بالحجج الدامغة وبالبينات القاطعة أن ابن الخطاب لم يعطل نصًّا صريحًا يومًا، وحاشاه، بل كان من أشد الناس احترامًا لمحكمات النصوص ونزولًا على حكمها.

وقد أطلنا القول في قضية «تعارض النصوص والمصالح» والقواعد التي تحكمها، والتفريق بين النصوص القطعية والظنية، وتحدثنا عن رأي الفقيه الحنبلي المعروف نجم الدين الطوفي، وما اشتهر عنه من القول بتعطيل النص باسم المصلحة، حتى شاع أنه يقول بتعطيل النص القطعي بالمصلحة، والرجل بريء من ذلك، كما بيناه من صريح كلامه.

كما قصدنا إلى الحديث عن أسس ومرتكزات فقه السياسة الشرعية، كما أشرنا إلى ذلك، وهي ما حددناه في: فقه المقاصد، وفقه الواقع، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، وفقه التغيير، وقد ألقيت شعاعًا على كل منها بما يناسب المقام.

وبهذا تبين لنا - ولكل دارس منصف - أن السياسة الشرعية ليست جمودًا ولا انغلاقًا، بل هي متحركة بحركة الحياة، متطورة بتطور المجتمع، متجددة بتجدد الفكر، وهي تتسع للاجتهاد والتجديد في الفروع والجزئيات والظنيات في ضوء الأصول والكليات والقطعيات، فهي تفهم المتغيرات في إطار الثوابت، والظنيات في دائرة القطعيات.

كما تتسع هذه السياسة الشرعية للإبداع والابتكار في مجال الوسائل والأساليب والآليات التي تتسم بالتغير والقيم الكبرى، التي تتسم بالثبات، ولا حرج علينا أن نقتبس مما عند الآخرين من علم وتكنولوجيا ووسائل وكيفيات، ونحو ذلك مما لا يحمل الطابع العقائدي المميز لأصحابه، والحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها.

أرجو ألا يزعج عنوان «السياسة الشرعية» جماعات الماركسيين والعلمانيين والمتغربين عامة، الذين يقلقهم أي ربط للدين أو للشرع بالسياسة، ويثيرون الحملات باستمرار حول ما سموه: «الإسلام السياسي» أو «تسييس الدين» والحق أنهم يرفضون الدين موجهًا للحياة، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو أخلاقية، يريدون أن يعزلوا الله تعالى عن خلقه، فلا يأمرهم، ولا ينهاهم.

.
المزيد..

تعليقات القرّاء:

هذا هو الجزء الرابع من هذه السلسلة المباركة إن شاء الله «نحو وحدة فكرية للعاملين للإسلام» وموضوعه: «السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها» ويتضمن الحديث حول الأصل الخامس من «الأصول العشرين» للإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله.

وهو الأصل الذي تحدث فيه بإيجاز شديد عن السياسة الشرعية المنوطة بالإمام «الخليفة أو رئيس الدولة» أو نائبه، وعن رأيه في أمور السياسة والإدارة والحكم، ومدى اعتباره، وفي أي المجالات يعمل به «وقد حدده فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل عدة أوجه، وفي المصالح المرسلة»، وما شرط ذلك؟ وهل يقبل هذا الرأي التغير بتغير الأوضاع والظروف أو هو جامد لا يلين ولا يتحرك؟ وما موقف الإمام من الشورى؟

وهل يعمل بهذا الرأي في العبادات والمعاملات على حد سواء أو أن بينهما فرقًا في النظر إلى المقاصد والعلل أو عدم النظر إليها؟

يقول الإمام رضي الله عنه:

«ورأي الإمام أو نائبه، فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوهًا عدة، وفي المصالح المرسلة - معمول به، ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بتغير الظروف والعرف والعادات، والأصل في العبادات: التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وفي العاديات: الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد».

وقد وسعنا القول حول هذه الأمور التي أشار إليها الأستاذ البنا، وناقشنا في سياقها قضايا مهمة وعلى جانب من الخطورة في عصرنا، تتعلق بالسياسة الشرعية، مثل بيان الرأي النبوي وتغيره، ورأي الخلفاء الراشدين وتغيره، ومدى إلزامية رأيهم في السياسة الشرعية لمن بعدهم.

كما تحدثنا عن المصلحة المرسلة وشروطها وضوابطها، والمصلحة الملغاة، والمصلحة المعتبرة، وكذلك عن الشورى ومدى إلزامها لولي الأمر.

ولم ننسَ بيان الأسس والمرتكزات التي يقوم عليها فقه السياسة الشرعية، وهي:

فقه المقاصد... وفقه الواقع، وفقه الموازنات... وفقه الأولويات... وفقه التغيير.

ولا ريب أن موضوع السياسة الشرعية مهم وخطير، والفقهاء من عهد ابن القيم وما قبله، ما بين جامد حجّر ما وسع الله في شريعته، وغلّق الأبواب على ولاة الأمر، فاستحدثوا قوانين سياسية بمعزل عن الشريعة، ومرخِّص بالغ في البحبحة لهم، حتى اجترءوا على حدود الله وحقوق الناس.

والمنهج الوسط هو المطلوب دائمًا، فهو لا يغلو ولا يقصر، ولا يطغى ولا يُخسِر في الميزان، ونحن أحوج ما نكون إلى هذا المنهج الوسطي في عصرنا، وخصوصًا في هذا الموضوع الذي قد كثر فيه اللغط، واختلط فيه الصواب بالغلط، وتنازعت في الإفتاء فيه مدارس متباينة في أهدافها وفي مناهجها: ما بين «متسيبين» لا يريدون أن يتقيدوا بشيء، ولا أن تضبطهم ضوابط، ولا أن تحكمهم أصول وقواعد، زاعمين أنهم إنما يحكِّمون روح الدين، ومقاصد الشرع، وهم  أبعد الناس عن مقاصد الشرع، وروح الدين.

وما بين «حرفيين» جامدين يعيشون في الماضي وحده، ويجترّون القديم، ولا يعايشون العصر، ولا يحسون بما تمور به الحياة من أفكار، ولا ما يجري في العالم من حولهم من أحداث، وما يجدُّ كل يوم من جديد، لا يكاد يلاحقه الناس، فهؤلاء في غفلة عن مقاصد الشرع، وعن مشاكل العصر.

وما بين «وسطيين» يحاولون أن يجمعوا بين الحسنيين؛ بين فقه الشرع وفقه الواقع، بين استلهام القديم والانتفاع بالجديد، بين الاستهداء بالتراث واستشراف المستقبل، بين النظر إلى المقاصد الكلية وإلى النصوص الجزئية، وفهم هذه في ضوء تلك، فهم يجتهدون ألا يطغوا في الميزان، وأن يقيموا الوزن بالقسط ولا يخسروا الميزان. وأنا أرجو أن أكون من هؤلاء.

وشأن هؤلاء شأن أهل الوسط دائمًا، لا يُرضون أيًّا من الطرفين، ولا يعجبون واحدًا من الفريقين السابقين.

ولكن هؤلاء هم الذين يناط بهم الأمل، وينعقد عليهم الرجاء في إنقاذ الأمة، والرقي بها، وفق منهج الإسلام عقيدة وشريعة، ومثلًا وحضارة، موازنين بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر، متخذين من التراث نورًا يهدي، لا قيدًا يعُوق، جامعين بين القديم النافع والجديد الصالح.

هذا ما حاولنا أن نسلط عليه الضوء في هذا البحث، وأن نرد بتفصيل على الذين أرادوا أن يعطلوا النصوص باسم المقاصد، والذين اتخذوا من بعض اجتهادات الفاروق عمر رضي الله عنه تكأة لهم، وقد راج ذلك وشاع للأسف عند الكثيرين.

وقد بينا بالحجج الدامغة وبالبينات القاطعة أن ابن الخطاب لم يعطل نصًّا صريحًا يومًا، وحاشاه، بل كان من أشد الناس احترامًا لمحكمات النصوص ونزولًا على حكمها.

وقد أطلنا القول في قضية «تعارض النصوص والمصالح» والقواعد التي تحكمها، والتفريق بين النصوص القطعية والظنية، وتحدثنا عن رأي الفقيه الحنبلي المعروف نجم الدين الطوفي، وما اشتهر عنه من القول بتعطيل النص باسم المصلحة، حتى شاع أنه يقول بتعطيل النص القطعي بالمصلحة، والرجل بريء من ذلك، كما بيناه من صريح كلامه.

كما قصدنا إلى الحديث عن أسس ومرتكزات فقه السياسة الشرعية، كما أشرنا إلى ذلك، وهي ما حددناه في: فقه المقاصد، وفقه الواقع، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، وفقه التغيير، وقد ألقيت شعاعًا على كل منها بما يناسب المقام.

وبهذا تبين لنا - ولكل دارس منصف - أن السياسة الشرعية ليست جمودًا ولا انغلاقًا، بل هي متحركة بحركة الحياة، متطورة بتطور المجتمع، متجددة بتجدد الفكر، وهي تتسع للاجتهاد والتجديد في الفروع والجزئيات والظنيات في ضوء الأصول والكليات والقطعيات، فهي تفهم المتغيرات في إطار الثوابت، والظنيات في دائرة القطعيات.

كما تتسع هذه السياسة الشرعية للإبداع والابتكار في مجال الوسائل والأساليب والآليات التي تتسم بالتغير والقيم الكبرى، التي تتسم بالثبات، ولا حرج علينا أن نقتبس مما عند الآخرين من علم وتكنولوجيا ووسائل وكيفيات، ونحو ذلك مما لا يحمل الطابع العقائدي المميز لأصحابه، والحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها.

أرجو ألا يزعج عنوان «السياسة الشرعية» جماعات الماركسيين والعلمانيين والمتغربين عامة، الذين يقلقهم أي ربط للدين أو للشرع بالسياسة، ويثيرون الحملات باستمرار حول ما سموه: «الإسلام السياسي» أو «تسييس الدين» والحق أنهم يرفضون الدين موجهًا للحياة، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو أخلاقية، يريدون أن يعزلوا الله تعالى عن خلقه، فلا يأمرهم، ولا ينهاهم.

ولكن ما حيلتنا إذا كان هذا المصطلح من وضع علمائنا القدامي، وليس من اختراعنا - نحن دعاة الإسلام الشامل، الذي يسمونه «الإسلام السياسي»؟!!

كما أرجو أن تكون هذه الصحائف خطوة في الطريق الصحيح إلى سياسة شرعية قويمة، تقوم على التوسعة والتيسير، لا على التضييق والتعسير، وعلى الالتزام والانضباط، لا على التسيب والانفراط، تحقق المصالح، وتدرأ المفاسد، وترعى المقاصد والأولويات، وتحقق ذاتية الأمة ووسطيتها وبذلك يعلو دين الله، وتستقيم دنيا الناس.

{رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ} (آل عمران:8).

الدوحة                                                 الفقير إليه تعالى

شوال 1418هـ                                      يوسف القرضاوي

فبراير 1998م              



سنة النشر : 1998م / 1419هـ .
نوع الكتاب : pdf.
عداد القراءة: عدد قراءة السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها
شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

برنامج تشغيل ملفات pdfقبل تحميل الكتاب ..
يجب ان يتوفر لديكم برنامج تشغيل وقراءة ملفات pdf
يمكن تحميلة من هنا 'http://get.adobe.com/reader/'

المؤلف:
يوسف القرضاوي - Yousef Al Qaradawi

كتب يوسف القرضاوي يوسف عبد الله القرضاوي (9 سبتمبر 1926): عالم مصري مسلم يحمل الجنسية القطرية، ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين سابقا. ولد في قرية صفط تراب مركز المحلة الكبرى بمحافظة الغربية في مصر. ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام ❝ ❞ الصبر في القرآن ❝ ❞ جيل النصر المنشود ❝ ❞ الإسلام والعلمانية وجها لوجه ❝ ❞ المنتقى من كتاب الترغيب والترهيب للمنذري ❝ ❞ الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد ❝ ❞ دور الزكاة في علاج المشكلات الاقتصادية وشروط نجاحها ❝ ❞ ثقافتنا بين الانفتاح والانغلاق ❝ ❞ عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية ❝ الناشرين : ❞ جميع الحقوق محفوظة للمؤلف ❝ ❞ دار الشروق للنشر والتوزيع: مصر - لبنان ❝ ❞ دار القلم للنشر والتوزيع ❝ ❞ مؤسسة الرسالة ❝ ❞ المكتب الإسلامي للطباعة والنشر ❝ ❞ الأزهر الشريف ❝ ❞ دار الشروق ❝ ❞ مكتبة وهبة ❝ ❞ دار الصحوة للنشر ❝ ❞ مركز بحوث السنة والسيره -قطر ❝ ❞ مكتبة البنين ❝ ❱. المزيد..

كتب يوسف القرضاوي
الناشر:
مكتبة وهبة
كتب  مكتبة وهبة في سنة 1946م أنشأ الحاج وهبة حسن وهبةـ مكتبة وهبة للطبع والنشر والتوزيع، وكانت عبارة عن محل صغير بشارع محمد علي (القلعة حاليًا) من جهة العتبة. ولما اعتقل لمدة أسبوع عام 1948م، وفي عام 1950م انتقل من المحل الصغير بشارع محمد علي إلى شارع الجمهورية بنفس الاسم ونفس المنهج... وتعرف في ذلك الوقت على الشيخ أبو الحسن الندوي ، الذي طبع له (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين)، وكتاب (مذكرات سائح في الشرق) وغيرها من الكتب، وتعرف أيضا على فضيلة الشيخ السيد سابق الذي طبع له كتاب (فقه السنة) بأجزائه الصغيرة. وخرج من السجن آخر عام 1960م ليجد المكتبة خاوية على عروشها، ليعيد نشاطه مرة أخرى من جديد، حيث كانت المكتبة طوال فترة سجنه كلأً مباحًا، ولم يتم نشر أي شيء خلال تلك الفترة. ثم زاول عمله مرة أخرى فترة ثم توالت المحن على المكتبة مع اعتقاله سنة 1965 حتى وفاة عبد الناصر. وبعد خروجه من السجن بعد وفاة عبد الناصر سنة 1971، بدأ الصراع مع السلطات لرفع الحراسة عنه وعن عائلته لمزاولة نشاطه مرة أخرى. ومن أقدار الله أن المبنى الذي كانت به المكتبة هدم أثناء فترة غيابه والاعتقال، وكان يشيد مبنى آخر مكانه، وكأنه كان على موعد حتى يظل اسم مكتبة وهبة كما هو، في نفس الموقع والمكان. ووافق صاحب العقار الجديد على استئجاره للمحل. ثم عاود النشاط مرة أخرى للطبع والنشر والتوزيع، بنفس الاسم، يؤدي رسالته التي بذل من أجلها الغالي والثمين. ❰ ناشرين لمجموعة من المؤلفات أبرزها ❞ زوجات النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأسرار الحكمة في تعددهن ❝ ❞ الصبر في القرآن ❝ ❞ الإسرائيليات في التفسير والحديث ❝ ❞ دراسات عن ابن حزم وكتابه طوق الحمامة ❝ ❞ التفسير والمفسرون / ج1 (ط. وهبة) ❝ ❞ أبو هريرة راوية الإسلام ❝ ❞ تاريخ التشريع الإسلامي (ط. وهبة) ❝ ❞ موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام ❝ ❞ الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالإستعمار الغربي ❝ ❞ جيل النصر المنشود ❝ ومن أبرز المؤلفين : ❞ يوسف القرضاوي ❝ ❞ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني ❝ ❞ مناع القطان ❝ ❞ الطاهر أحمد مكي ❝ ❞ جمال الدين الشرقاوي ❝ ❞ محمد حسين الذهبي ❝ ❞ إبراهيم محمد حسن الجمل ❝ ❞ عطية صقر ❝ ❞ أحمد عمر هاشم ❝ ❞ أحمد عبدالوهاب ❝ ❞ زينب عبد العزيز ❝ ❞ بهاء الامير ❝ ❞ محمود حمدى زقزوق ❝ ❞ عبد العظيم المطعني ❝ ❞ محمد عجاج الخطيب ❝ ❞ د.محمد محمد أبو موسى ❝ ❞ سامح القلينى ❝ ❞ أحمد عبد الوهاب بكير ❝ ❞ اللواء أحمد عبد الوهاب ❝ ❞ علاء أبو بكر ❝ ❞ محمد الأمين الخضري ❝ ❞ توفيق محمد شاهين ❝ ❞ أبوزيد شلبي ❝ ❞ د. سامح القلينى ❝ ❞ سعيد عبد الحكيم زيد ❝ ❞ صبري الأشوح ❝ ❞ محمد شامة ❝ ❞ د. عبد المتعال محمد الجبري ❝ ❞ محمد ثابت الشاذلي ❝ ❞ د.سعد الدين مسعد هلالي ❝ ❞ د. عبد العظيم المطعني ❝ ❞ مؤمن الهباء ❝ ❞ الدكتور عبدالعظيم إبراهيم المطعني ❝ ❞ د. أمينة سليم ❝ ❞ د.عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني ❝ ❞ أحمد عبد الرحمن ❝ ❞ عبد العظيم إبراهيم محمد المطعنى ❝ ❞ بكير بن سعيد أعوشت ❝ ❞ د. محمد الحسيني إسماعيل ❝ ❞ عبدالعظيم إبراهيم المطعني ❝ ❞ د.محمد عجاج خطيب ❝ ❞ د. أحمد عبد الرحمن ❝ ❞ فولفجانج ليونهارد ❝ ❞ محمد البهي ❝ ❞ مصطفي أبو يوسف بدران أحمد عبدالوهاب ❝ ❱.المزيد.. كتب مكتبة وهبة