❞ كتاب الدين سبيل السعادة في الحياتين ❝ ⏤ إبراهيم الجبالي
ما أعجب شأنك أيها الإنسان؟ أيها الضعيف الجبار، أيها العاني العاجز، أيها الخطير الحقير، أيها الصغير الكبير: إن من تأمل في هذا المخلوق (النوع الإنساني)، رأى العجب العجاب، رأى أشد المخلوقات احتياجاً، وأكثرها مطالب، وأعجزها عن أن يستوفي لوازمه بمفرده، وأجزعها إذا فاته شيء مما يطلب، وأحرصها على التمسك بما نالته يده ولو لم تدع إليه حاجته الحاضرة:[إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا المُصَلِّينَ] {المعارج:22}.
تنظر إلى أنواع المخلوقات فتجدها كلها ذات حاجات محدودة يكفل كل فرد منها مصالح نفسه بنفسه، وإذا احتاج إلى الانضمام إلى غيره من جنسه فإلى حد محدود بمقدار ما يتعاون على دفع عدو كبعض أنواع القردة، أو بمقدار ما ينظم إنتاجه الذي هيء له بحسب خلقته كالنحل، أو ما يشاكل هذين الغرضين من المصالح التي ليست بضرورية لحياة الفرد أو النوع، أما هذا المخلوق فأضعف المخلوقات عن أن يستغني في وجوده عن غيره فهو في أشد الاحتياج بل الاضطرار إلى أن يستخدم في مصالحه واستكمال حياته من القوى ما لا يدخل تحت حصر، وكلما استكمل حاجة من حاجاته بدت له حاجة أخرى أشد منها، وهكذا:
نروح ونغدو لحاجاتنا=وحاجات من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته=وتبقى له حاجة ما بقي
وإن الحاجة الواحدة لتستدعي من القوى المتعاونة مالا يعرف عدده إلا بالتأمل وطول التفكير، انظر إلى ثوبه الذي يلبسه، ولابد له منه ليقي نفسه عوادي الجو التي لا قبل له بها وهو وحده من بين المخلوقات الشديدُ الضعف عن عمل حوادث الجو، انظر إلى ثوبه و افرضه ثوباً بسيطاً من قطن مثلاً وادرس تاريخ حياة هذا الثوب من يوم حرث الأرض، ولا تنس المحراث، وما ركب فيه من حديد وخشب وحبال ومواش وما يتطلبه كل واحد من هذه الأشياء من معدِّنين يستخرجون المعدن من منجمه وصناع يصفونه ويصقلونه ويصوغونه ومثله الأجزاء الأخرى، ثم انظر إلى وضع البذور وما يستتبعه من عملية زراعية سابقة، وانظر إلى السقي وما يطلب من آلات متنوعة وكم من الأيدي اشتغلت فيها، فإذا تم نباته وبدا صلاحه فما هي أعمال جمعة وإعداده للنسيج، وكم بين بين الزراع ويد الناسج من وسيط صناعي وتجاري؟ ثم ما هي أعمال النسيج وماذا تستتبع، وما طريق رده من يد الناسج إلى يد المشتري المستهلك، وكيف يرده إلى خائطه، وما هي أدوات الخياطة، وما نحتاج إليه ؟ إن هذه سلسلة لا تحتاج إلى أن نشرحها لك، وإنما نذكر لك شيئاً منها ندعوك به إلى التأمل في كل حلقة من تلك السلسلة الطويل كيف تجر وراءها سلسلة أطول وتستخدم أيادي عاملة أكثر، وما من يد عاملة إلا وهي محتاجة إلى أيد كثيرة جداً تخدمها لتوفر لها قوتها التي تستعين بها على خدمتها لك.
فهل فكرت يوماً في هذا الجيش الجرار الذي يخدمك في ثوبك القطن البسيط، وأنك بدونه لا تستطيع أن تعيش؟ وهل فكرت يوماً في ضعفك المتناهي وأنك في حاجة شديدة في أبسط أمورك إلى خدم يقومون أودك، ويؤدون إليك منافع أنت إليها جد مضطر؟ وهل أنت في شك مما قدمناه إليك من أن هذا الإنسان أشد المخلوقات حرصاً على ما نالته يده مما عساه يحتاج إليه ولو على احتمال ضعيف فهو كنوز شحيح لا تسمح نفسه بالتجاوز عما أحرزت يده بل ولو لم يحتج إليه؟ هل هو كالسباع التي متى شبعت تركت فضل فريستها، وهل هو كالدجاج الذي متى اكتفى ترك الحب ومضى؟ وهل هو كالبهائم التي ترعى حتى تشبع ثم تعرض عما تأكل حتى تجوع فتعود على قدر حاجتها؟ كلا ما هو من ذلك في شيء، فهو إذا مسه الخير منوع فلا تطيب نفس امرئ عن شيء يناله إلا في مقابلة شيء يعادله، وعلى ذلك تجد نفسك مضطراً ـ لكي تنال خدمة هذا الجيش الجرار ـ أن تخدم هذا الجيش الجرار خدمة تعادل ما نلته منه وهنا ألفتك إلى كلمة ـ تعادل ما نلته منه ـ فمن ذا الذي يحكم لك أو عليك بأن هذا عدل ذاك فلم تظلم ولم تظلم؟ إن هذا أيضاً باب من أبواب الاحتياج يجر وراءه سلسلة من أطول السلاسل هي سلسلة الحكم والقضاء والتنفيذ وما إلى ذلك من قوة مهيمنة على جميعها ثم جيش يسندها، أرأيت هذا الضعف ؟ وأي ضعف أشد من أن ترى نفسك محتاجاً في معيشتك البسيطة إلى أن يخدمك جيش وأن تخدم جيشاً؟
وكلما ارتقت حياة المرء في الحضارة وانغمس في النعيم كثرت حاجاته واشتد إليها احتياجه، والنعيم نُشدته دائماً فهو في كل حال ينشد الضعف وأسبابه ويجره إلى نفسه جراً، فالنعيم والترف محبوبان وهما من أقوى عوامل الضعف، فما أشبه حال الإنسان في ذلك يقول الشاعر:
أحبه وهلاكي في محبته=كعابد النار يهواها وتحرقه
ولا تنس أن المترفين أضعف منه وأوهى احتمالاً وأشد جزعاً لفقد حاجة من حاجاتهم بل لنقص لذة كمالية مما تعودوه بالرفه وأصبح قرين حياتهم ولا غنى لهم عنه.
إبراهيم الجبالي - هو الشيخ إبراهيم الجبالي ابن فضيلة الشيخ حسن الجبالي، الذي كان من أفاضل رجال العلم في بلدته، ويرجع إليه في الشؤون الدينية وغيرها ابن الحاج يوسف الجبالي سليل بيت المجد، وفرع دوحة الحسب والنسب الطاهر، ولد بناحية الرحمانية مركز شبراخيت من أعمال مديرية البحيرة في غرة المحرم سنة ١٢٩٥ﻫ الموافق ٥ يناير سنة ١٨٧٨م، فاعتنى المرحوم والده بتربيته التربية المنزلية المؤسسة على الصلاح وتقوى الله، ولما شب على ذلك، وأتم تلك التربية على ما يرام بما يتفق مع أصول الدين الحنيف، وبدت عليه سيما النبل والذكاء والشغف العظيم إلى ارتشاف العلم والتبحر في الدين، لما كان يبدو عليه أثناء اشتغاله بحفظ القرآن الكريم على يد أصلح المشايخ الذين اختارهم المرحوم والده؛ لتغذيته بلبان الدين الحنيف وتثقيفه بما يتفق مع روح العصر الحاضر عملًا بالقول المأثور: «علموا أبناءكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم».
❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ الدين سبيل السعادة في الحياتين ❝ الناشرين : ❞ الأزهر الشريف ❝ ❱
من فكر إسلامي الفكر والفلسفة - مكتبة المكتبة التجريبية.