❞ كتاب الديكاميرون - الجزء الأول ❝  ⏤ مجموعة من المؤلفين

❞ كتاب الديكاميرون - الجزء الأول ❝ ⏤ مجموعة من المؤلفين

ثمة اعتذاران لابد منهما قبل أن أقدم لهذه النسخة العربية من "الديكاميرون"، في سلسلة "المائة كتاب" من عيون الأدب العالمي، التي يشرف عليها الشاعر رفعت سلام؛ ويقف برؤيته الثقافية الواضحة الشفافة وراء إنتاجها. أما الاعتذار الأول، فهو لأنني لم أكمل الترجمة التي بدأتها للديكاميرون منذ ثلاثين عامًا، ووقفت عند عُشر الكتاب؛ ولما طلب مني رفعت سلام إكمال الترجمة لنشرها، نجحت في ترجمة عُشر آخر. وهذان العُشران استغرقا في الترجمة سنتين كاملتين؛ وهذه هي الحجة التي أتذرع بها أمام نفسي اللوامة. فالكتاب، حتى يوفى حقه في الترجمة، لابد أن يستغرق في أقل القليل عشر سنوات. وهذه السنوات العشر حالت بيني وبينها ضرورات الحياة، التي لا تلقي بالًا إلى مثل هذا النوع من الإنجازات، وتقدم عليها واجبات والتزامات و"لقمة العيش"، وعدم اهتمام أحد بضرورة إتمام ترجمة مثل هذه الأعمال، اللهم إلا شخصيات قليلة ونادرة، من أمثال رفعت سلام وأنور مغيث؛ ولهما الشكر على النية الطيبة، كما أشكر المترجمين اللذين تصديا للترجمة الحالية، وأود أن أؤكد- في هذا الصدد- أن المترجمين يقدمون تضحياتهم باستهلاك حيواتهم من أجل إمتاع القارئ، وسد حاجة الثقافة العربية من الموارد الأجنبية، مثلما فعل حسن عثمان عندما قضى نحو خمسة عشر عامًا يترجم "الكوميديا الإلهية" (مات بعدها)، وتلميذه النجيب أحمد عتمان، الذي ترجم "الأوديسا"، أو أشرف على فريق ترجمها، وكاد يفقد بصره في هذا العمل (مات أيضًا بعدها).
أما الاعتذار الثاني، فهو عما سوف تقرءونه في هذه المقدمة، لأنه قد يبدو لكم غير منتظم، مبعثر الأفكار، مشتتًا. وما ذلك لعيب في منهجي، وإنما العيب في علاقتي بالكتاب الذي أقدم له. فالملاحظة العامة هي أنك- عندما تقع في حالة حب- يضطرب فكرك. فالعشق يولد الارتباك، وتقف أمام المحبوب مرات فينعقد لسانك، أو تفقد القدرة على السيطرة على أفكارك. والحقيقة أنني ارتبطت بهذا الكتاب وبمؤلفه، على طريقة ارتباط مشجعي الكرة بفرقهم، وربما جاز لي أن أسمي نفسي زعيم "التراس" الديكاميرون.
في المرة الأولى التي سمعت فيها عن الكتاب، في كلية الألسن حيث درست، على يد المرحوم الدكتور محب سعد، الذي كان يدرس لنا بموهبة فذة الأدب الإيطالي، حيث قدم لنا- في السنة الثالثة- دروسًا في "تيجان" الأدب الإيطالي، دانتي وبتراركا وبوكاتشو، ووقع في قلبي حب بوكاتشو وكتابه، في مقابل تقدير "بارد" لدانتي وبتراركا. ومنذ ذلك العهد، وأنا أبحث في شأنه، وأقرأ عن أخباره، وأكتب عن سر براعاته. وفي كل مرة أكتب عن الديكاميرون، أحس بالإضطراب نفسه. اضطراب المحب.
ولهذا، أبدأ التقديم بشخصية جوفاني بوكاتشو نفسه. وخير ما يمكن أن توصف به شخصية الكاتب الإيطالي الكبير هو موقفه من المرأة؛ فهو شديد الحب والولع بها، ورفقته كلها من النساء، وفي نفس الوقت كان من أوائل الكتاب في تاريخ الأدب الإيطالي الذي اشتهر بأنه عدو المرأة، لا لسبب إلا لبعض الحكايات التي روى فيها عن "مكر النساء" وأن "كيدهن عظيم"؛ تمامًا مثل حكايات الأمير سندباد الشهيرة في "ألف ليلة وليلة"، التي يحتمل أن يكون بوكاتشو قد قرأها وتأثر بها.
في مقدمة اليوم الرابع من مجموعة الديكاميرون- التي تتكون من مائة "نوفيللا"، سوف تطالعون فقرة طويلة يعلن فيها بوكاتشو صراحةً أنه من أشد المحبين للمرأة: "يقول بعض اللائمين أنني أسأت يا سيداتي العزيزات، عندما احتلتُ بكل حيلة حتى أثير إعجابكن، وأسأت لأنكن تعجبنني كثيرًا. وأنا أعترف بهذا اعترافًا صريحًا، أعترف بأنكن تعجبنني، وبأنني أفعل كل ما بوسعي حتى أعجبكن".
ولد جوفاني بوكاتشو في عام 1313، في بلدة تشرتالدو، في إقليم توسكانا. وبعد الدراسات الأولى في فلورنسا، انتقل عام 1327 إلى نابولي. في تشرتالدو كانت الولادة "الطبيعية" للطفل جوفاني من علاقة غير شرعية، وفي فلورنسا كانت الدراسة في الحقوق، وفي نابولي كانت الدراسة في الآداب. والولادة "الطبيعية" كان لفظًا يُطلق على البنوة غير الشرعية، ويُسمى الابن في هذه الحالة "ابن طبيعي". والحقيقة أننا- في القرن الرابع عشر الميلادي- في خريف العصور الوسطى، وفي هذه العصور كانت العلاقة الشرعية في عرف المفكرين هي العلاقة غير الطبيعية، أما علاقة الحب فهي العلاقة الحقيقية والطبيعية. فالحب يدنسه الزواج، ولابد أن يظل حبًّا في المطلق، حتى أننا صرنا نعرف دانتي أليجييري بحبيبته بياتريتشي، وبتراركا بحبيبته لاورا، وبوكاتشو بحبيبته فياميتا، لكننا لا نستطيع أن نتذكر زوجات هؤلاء الكتاب والشعراء الكبار. ولعل هذا هو ما حدد علاقة بوكاتشو منذ نعومة أظفاره بالمرأة "المقدسة تقديس الحب، والمدنسة تدنيس الزواج".
وفي فلورنسا، درس بوكاتشو الحقوق، ولهذا أيضًا مدلوله. فنحن- في القرن الرابع عشر- نتهيأ للخروج من حالة حضارية إلى أخرى، في فترة انتقالية ما بين العصور الوسطى والحديثة. وكان من دواعي هذا الانتقال وشروطه تغير نظام المجتمع، أن تختفي سيادة المجتمع الإقطاعي وقوامه الملكية الواسعة للأرض وما عليها، حيث كل شيء على الأرض في خدمة الاقطاعي، وهو السيد والنبيل وذو الدم الأزرق. حتى الشعراء، في نموذج المدرسة الصقلية مثلًا، كانوا لا يتغنون بحب محبوباتهم، بل يتغنون بحب زوجة السيد، التي لا ينبغي أن يُحَب أحدٌ غيرها. وحتى تختفي سيادة المجتمع الإقطاعي، كان لابد من ظهور مجتمع المدينة، أو كما يُسمى- في الأدبيات الإيطالية- المجتمع البلدي؛ أن يظهر الشارع ورجل الشارع، وأن تنزل المرأة من برج الإقطاع العالي إلى شوارع المدينة وأسواقها. وهكذا ظهرت المدينة، بكل ما تحمل من سمات، أبرزها الطبقة البورجوازية ومستلزماتها من حركة تجارة نشطة وبنوك وعملات. واستلزم تنظيم المدينة أن تكون الدراسة المرتبطة باحتياجات السوق هي الدراسة القانونية، التي كانت تضم أيضًا علوم المحاسبة. وهكذا كان طبيعيًّا أن ينخرط بوكاتشو في دراسة القانون، وأن يعمل في البنوك، وأن ينتقل مع إدارة البنك إلى نابولي، أحد أكبر الموانئ التجارية في إيطاليا في ذلك الوقت. وفي ميناء نابولي، حيث كان يقف بوكاتشو على طاولة يبيع العملات ويشتريها، عرف الناس عن حق، عرف التجار وعرف الزبائن، وعرف أهل البلد وعرف الأجانب. وكان يتردد أيضًا على قصر الحكم الملكي في نابولي، وعلى مكتبة القصر العامرة بكل العلوم المتقدمة في ذلك العصر، وفي مقدمتها العلوم العربية. بل يُقال إن بلاط ملك نابولي في ذلك الوقت كان يضم من بين العاملين فيه مترجمًا عربيًّا، وكانت مكتبة القصر مرتبطة بما يرسله إليها البلاط الأراجوني من مخطوطات وترجمات كثيرة عن اللغة العربية. وهناك تعرف على مجموعات قصصية مهمة منقولة عن العربية، منها "ألف ليلة وليلة"، و"كليلة ودمنة"، على سبيل المثال.
كانت المخطوطات وتجارتها رائجة في القرون الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر، قرون النزعة الإنسانية التي استعادت التراث اليوناني اللاتيني القديم، الذي اعتبر- على نطاق واسع- تراثًا وثنيًّا، رفضته الكنيسة في العصور الوسطى، وعادت الكلاسيكية لتأخذ مكانها الذي تستحقه على الساحة الثقافية. وجد بوكاتشو نفسه في هذا الجو المفعم بالحماس للأدب، وقرأ دانتي اليجييري، وعرف بتراركا والتقى به، وكان من الطبيعي أن يتحول من دراسة الحقوق إلى دراسة الآداب واللغات اليونانية واللاتينية والفرنسية. وفي هذه الفترة، كتب أعماله الأولى، التي عُرفت بأنها الأعمال الصغرى، ولكنها أعمال هامة أتمنى أن تجد طريقها إلى الترجمة العربية.
هكذا اكتمل تكوين بوكاتشو، وعاد إلى فلورنسا ليقيم فيها، ثم يلتحق ببلاط الإقليم الإيطالي رومانيا، وهو غير البلد المعروفة بالاسم نفسه في شرق أوروبا، وأكمل كتابة أعماله الصغرى، وأتم عمله الأكبر الديكاميرون عام 1351 على الأغلب. كما كانت هذه هي السنوات التي توطدت فيها علاقته بمعلمه وأستاذه "المجيد" بتراركا، وكرس جل وقته لدراسة دانتي، ولعقد محاضرات عامة عن الكوميديا الإلهية. ورحل بوكاتشو عن الدنيا عام 1375، بعد فترة قضاها معذب الضمير، بعد أن انهالت عليه تهم ازدراء الدين المسيحي، بسبب كتاباته، وخاصة الديكاميرون، الذي قام هو بنفسه، في لحظة يأس، بحرقه.
أوصى بوكاتشو بأن تكتب على شاهد قبره العبارة التالية: "تحت هذا الشاهد يرقد رماد وعظام جوفاني. عقله بين يدي الله مزدانًا بجدارات متاعبه في الحياة الفانية. كان بوكاتشو له أبًا، وتشرتالدو وطنًا، والشعر روحًا وحبًّا".
تلخص هذه العبارة شخصية بوكاتشو، ليس فقط في مضمونها، الصحيح بالقطع، وإنما أيضًا في أسلوبها. ففي إجماع نقاد الأدب، كان بوكاتشو أعظم كتاب النثر في إيطاليا وفي أوروبا كلها في القرن الرابع عشر؛ وزميلاه في ريادة الأدب الإيطالي، دانتي وبتراركا، كانا يكتبان الشعر وفقًا للمعايير الشعرية المعتبرة في عصرهما، مع التسليم بما أدخلاه من تجديد في التقنيات واللغة في أعمالهما الكبرى، الكوميديا الإلهية لدانتي والديوان لبتراركا.
فكيف أصبح بوكاتشو من أعظم الناثرين في تاريخ الأدب؟ هناك بالتأكيد سر وراء هذا الامتياز. وكلمة السر التي تفتح لنا بابًا لإدراك عظم شأنه النثري هي التجريب. فقد كان بوكاتشو سيد المجربين في تاريخ الأدب. والتجريب عنده هو القدرة على التعبير بأكبر قدر من التنوع في الأصوات والأساليب، بما يعيدنا- مرةً أخرى- إلى هذا الثراء الكبير في الأصوات والأساليب العربية في ألف ليلة وليلة، التي صادفت هوى في نفس المؤلف، لأنها كانت أقدر في إعانته على مراقبة الواقع مراقبة محايدة، ذلك الواقع سريع التحول والتغير، في كافة جوانبه، المتعددة طبعًا، والمتناقضة أحيانًا، على النحو الذي نراه في أغلب الفترات الانتقالية في مسيرة الحضارة.
لم يعد البطل في العمل الأدبي هو ذلك الفارس المغوار، الذي يغزو الحصون المنيعة؛ وإنما أصبح، وربما للمرة الأولى في الآداب الغربية، هو الإنسان العادي، بكل فضائله ومثالبه، بكل قوته وضعفه، في مواجهة الحظ والحب والذكاء، والجدل في العلاقة بين الإنسان العادي وهذه العوامل العامة يخلق ما لا نهاية له من ألوان الطيف في الحكايات.
والعنصر الثالث الذي تغير في "تجريبية" بوكاتشو بعد اللغة والشخصيات، هو عنصر الوصف؛ فقد تمير بالدقة في وصف التفاصيل، وذكر المراجع التاريخية، وتثبيت الحوادث في أماكنها الحقيقية بأسماء أبطالها الحقيقيين.
وآخر ميزة في نثر بوكاتشو، والتي اعتبرتها "ثورة" في حد ذاتها، هي غياب القضايا الدينية والأخلاقية والسياسية، التي كانت عمادا للكوميديا الإلهية لدانتي، رغم أنه تناول- في كثير من الحكايات- سلوك رجال الدين بالتهكم الحاد، ولكن هذا التناول ظل محكومًا بالواقع، ولم ينطلق أبدًا من رؤية فقهية معينة للدين. إنه المذهب الطبيعي، قبل أن يظهر مع زولا (الفرنسي) في القرن التاسع عشر، مفهومًا على أنه التمثيل الواقعي للعالم، بكل تفاصيله التي تساعدنا على فهمه وتحليله وإدراكه، وربما أيضًا إصلاحه.
والحقيقة أن "الوعظ" كان سمة من سمات أدب ذلك العصر، وكان من أشهر الكتب المتداولة والمتوارثة هو كتاب بيدرو (أو بييترو) الفونسي، وكان بعنوان "تهذيب العلماء"؛ وهو كتاب يشبه كثيرًا كتب الخطب الدينية التي كان يستخدمها الأئمة العرب في خطب الجمعة. وقد جمع فيه بيترو ألفونسي، اليهودي الذي اعتنق المسيحية، كثيرًا من الحكم والمواعظ، وبعضها في شكل قصصي، واعتُبر على نطاق واسع كتابًا من أصول شرقية، استفاد فيه المؤلف من معرفته بالقرآن وبالسنة النبوية، وهو أيضًا من المصادر التي اعتمد عليها بوكاتشو في بعض حكاياته. ولهذا، فإن كتاب الديكاميرون، إن تم فهمه في سياقه التاريخي، هو كتاب مواعظ، ولكنها بالتأكيد ليست مواعظ دينية، وإنما مواعظ عاطفية، تنصح المرأة والرجل- على نحو خاص- كيف يمكن أن يكون سلوكهم عند مواجهتهم لمشاكلهم العاطفية، دون الدخول في منظومة القيم الأخلاقية والدينية.
أما العمل الذي بين أيدينا اليوم، فهو أكبر وأهم عمل لبوكاتشو، وهو باكورة الإنتاج القصصي الأوروبي، الذي لن يعرف "الرومانس" إلا بعد عصر التنوير في آواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. والعنوان- الديكاميرون- تسمية محرفة لعبارة "عشرة أيام" باليونانية، ومدلول التسمية نتلمسه في تفسيرين أساسيين، الأول، هو ارتباط بوكاتشو، وعصر بوكاتشو، باللغة اليونانية، حتى تصبح الصيغ، حتى الملحونة منها، صيغًا شعبية، موافقةً للذائقة العامة، وهو ما يعكس مدى شيوع النزعة الإنسانية وقوتها؛ والنزعة الإنسانية، كما هو معروف، هي ذلك الاتجاه إلى إعادة تبني ملامح الثقافة الكلاسيكية، والبحث المحموم عن المخطوطات القديمة، وترجمتها من أية لغة إلى اللاتينية؛ وفكريًّا، هي التي أنزلت الفكر من السماء إلى الأرض، ووضعت الإنسان في مركز الكون.
ومن الطبيعي أن يكون بوكاتشو، بالمواصفات التي ذكرناها سالفًا، عن شخصيته وعن أدبه، من كبار الإنسانيين، كما يجعله أكثر معاصرة من دانتي اليجييري وأقرب إلى بتراركا، الذي يعتبره النقاد- على نطاق واسع- الإنساني الأول في تاريخ الأدب والحضارة.
أما التفسير الآخر، فهو مرتبط بمدلول "الرقم" الرمزي في عناوين الأعمال الأدبية. ويحيلنا هذا تلقائيا إلى الرقم "ألف"، في ألف ليلة وليلة؛ فإذا كانت الأيام العشر لبوكاتشو تقابل الليالي الألف + ليلة في الليالي العربية، فإن كلاهما له وظيفة واحدة تقريبًا. فالأيام العشرة التي احتاجها بوكاتشو، لكي تحكي فيها زمرة من سبعة فتيات وثلاثة شبان حكاياتهم عن الموضوعات التي أشرنا إليها سالفًا، هي المدة الكافية لكي تنجو هذه الزمرة من وباء الطاعون القاتل، الذي اجتاح أوروبا قبيل تأليف بوكاتشو لمجموعته القصصية مباشرةً؛ لأن النجاح في الانعزال عشرة أيام (أو ربما أسبوعين، هي المدة الفعلية التي قضتها زمرة الديكاميرون منعزلة عن المدينة)، على الأقل عن مجتمع الوباء، ينقذك مباشرة من الإصابة بالمرض الفتاك. وبالمثل، فإن الليالي الألف- التي احتاجتها شهرزاد لكي تحكي فيها حكاياتها لشهريار- كانت المدة الكافية لكي تنجو شهرزاد، وجميع بنات جنسها، من الموت على يد الملك، الذي تحول إلى سفاح نساء، يقتل كل يوم جارية بعد أن يضاجعها.
إنه إذًا الزمن في الحالتين، الذي يؤدي انقضاؤه إلى النجاة من الهلاك. ورغم هذا التشابه الكبير في الوظيفة بين عنوان الديكاميرون والليالي، إلا أن بوكاتشو قد أدرك هذه الحيلة من مجموعة أخرى تأكد أنها ترجمت إلى اللاتينية في عصره، وهي "الوزراء السبعة"، وهي نفسها التي تحكي قصة الأمير سندباد، الذي حكم عليه أبوه الملك بالإعدام، لأنه راود زوجة أبيه عن نفسها؛ فطلب الوزراء مهلة سبعة أيام قبل تنفيذ الحكم، لكي يثبتوا له براءته من تهمة زوجة أبيه الزائفة. وظل الوزراء يحكون للملك حكايات عن مكائد النساء، تردعه عن قراره لمدة سبعة أيام، وزوجته تحكي له هي الأخرى عن مكائد الرجال، لكي تثبت التهمة على ابنه، حتى يتم في النهاية إقناع الوالد ببراءة ابنه. والبنية- كما نرى- هي نفسها في حكاية شهرزاد، وفي الديكاميرون، الرقم والزمن والنجاة. ومرةً أخرى، فلسنا بعيدين عن ألف ليلة وليلة حتى في حكاية، أو حكايات الوزراء السبعة؛ فالحقيقة أن هذه الحكاية/ الحكايات قد انضمت إلى مجموعة ألف ليلة وليلة، في وقت متأخر، ولكن قبل اكتمال المجموعة، وجاءت فصلًا في المجموعة الحالية التي اشتهرت بأنها "المجموعة المصرية"، تحت عنوان "في مكر النساء وأن كيدهن عظيم" وهو عنوان- كما أسلفنا- كفيل بأن يشد انتباه بوكاتشو، الذي هو مَن هو في علاقته بالمرأة.
وكما هو الحال في المدلول الرقمي الزمني للحل الروائي في الديكاميرون، انتقلت إليه أيضًا تقنية الحكاية الإطارية، التي تصلح ذريعة لرواية العديد من الحكايات مختلفة الموضوعات والأبطال. هو نفسه منطق الحكواتي، أو جلسات الإنشاد الشعبي، التي كانت تحكي الملاحم المختلفة. وهذا- مرةً أخرى- ما يعيد أصول الديكاميرون إلى الأدب الشعبي الشفاهي. والحقيقة أن القارئ سوف يلمس خطابًا مباشرًا من الرواة إلى جمهور من الحضور، وكثيرًا ما سوف نصادف صيغًا مثل "سأروي لكم" أو "ساحكي لكم"، أو "سيداتي العزيزات". وتشترك المجموعات التي أشرنا إليها كلها في دوافع الحكي، التي تتمثل في "قضاء الوقت" أو "القضاء على الوقت"، وهو نفس منطق السَّمر، الذي يحكي أن الأمراء والملوك في غابر الأزمان كان يدركهم الملل والسأم ليلًا، فيستدعون المسامرين لكي يرووا لهم الحكايات التي تساعدهم على النوم. إنه الحكي من أجل المتعة، والإمتاع، والمؤانسة.
ويذهب الحكي في الديكاميرون إلى ما هو أبعد، ويلتقي مع شهرزاد والوزراء السبعة، في اعتبار الحكي نفسه وسيلة من وسائل الخلاص والنجاة. وكلما زاد الاتقان في الحكاية أصبح أمل النجاة أقرب إلى التحقيق. فلو أن شهرزاد قلت براعة الحكي عندها لما انتهت قصتها مع شهرزاد تلك النهاية السعيدة، بعد انقضاء ثلاث سنوات، أنجبت خلالها لشهرزاد أطفالًا، فاستعقلها واستبقاها. ولولا براعة الوزراء السبعة في الحكاية لتمكنت زوجة السلطان من الفتك بابن زوجها في الوزراء السبعة. ولو انفض سامر زمرة العشرة في الديكاميرون- قبل مرور العشرة أيام المنجيات- لعادوا إلى المدينة، وفتك بهم الطاعون.
على أن البنية القصصية في الديكاميرون أكثر انتظامًا وسيمترية من البنية في المجموعات الشرقية الأخرى. فقد نظم بوكاتشو الحكايات في ديباجة، ومقدمة روى من خلالها قصة وباء الطاعون الذي اجتاح مدينته فلورنسا، وبرع في وصفه لمجتمع المدينة، وهي- كما أسلفنا- مدينة بورجوازية تجارية، كما لمس أيضًا معلمًا هامًّا من معالم تكوين المدن منذ نشأتها الحديثة الأولى، وخاصة فيما يتعلق بالقيم؛ فالمدينة بلا قيم، والبورجوازية لا تتحمل الأزمات، وتفقد ترابطها كطبقة عندما تتعرض للضغوط. وبعد المقدمة التي قدم أيضًا من خلالها للحكاية الإطارية، عندما تقرر الزمرة من الشبان والفتيات التي التقت مصادفة في إحدى الكنائس، أن تنعزل عن الحياة، وتذهب إلى ضيعة أحدهم أو إحداهن، لكي تفلت من عقاب "القدر"، وهو الطاعون، قسم بوكاتشو الدكاميرون إلى عشر جلسات لرواية الحكايات، في كل جلسة تتم حكاية عشر حكايات خلال يوم روائي، يبدأ في النص الديكاميروني بمقدمة وينتهي بخاتمة، لتنتهي المجموعة عند اكتمال المائة حكاية، على عكس الليالي المفتوحة لإضافة المزيد من الحكايات؛ ذلك أن الليلة الواحدة تصلح لأن تحكي فيها حكاية واحدة، أو لأن الحكاية الواحدة قد تُحكى في أكثر من ليلة. ومن هذه الجهة، تعتبر مجموعة الوزراء السبعة أقرب إلى بنية الديكاميرون؛ فالحكايات محددة المدة تحديدًا أسبق على بدء السرد، ويتطابق فيهما الزمن الواقعي مع الزمن الروائي.
وإذا كانت الحكايات عند شهرزاد تنتظم في عقد التشويق، وليس لها فيما عدا التشويق هدف؛ فإن الديكاميرون قلد الوزراء السبعة أيضًا في تنظيم موضوعات الحكايات، في بنية موضوعية فنية برع فيها بوكاتشو على نحو خاص. فقد نظم "العِشرة" بين "العَشرة"، بحيث ينتخبون كل يوم ملكًا/ملكةً جديدًا عليهم، ويختص هذا الملك/الملكة باختيار موضوع حكايات اليوم، وفي نهاية اليوم ينظم المجتمعون "باليه"، ينتخبون بعده ملك اليوم التالي. وجعل بوكاتشو ملوك الحكايات يقررون مرتين (في اليومين الأول، والتاسع) أن يكون الموضوع الذين يختارون فيه حكاياتهم حرًّا، كما أعطى لأحد أعضاء الزمرة العشرة (ديونيو) ميزة ألا يلتزم بالموضوع الذي يحدده الملك. وقد أعطى هذا البناء مزيدًا من الحرية في اختيار الحكايات وتنوعها داخل هذا القالب شديد الانتظام.
ولا يهمنا في هذا المقام كثيرًا إثبات تأثر بوكاتشو بالأدب الشرقي عمومًا، وكذلك لا يهمنا نفي هذا التأثر. فإن كان قد تأثر، فهذا فضل منه ولا شك، لأنه في هذا الحالة يعد شخصًا منفتحًا على ثقافات العالم، قابلًا لها، مستمتعًا بها، ولا يدحض تأثره عبقريته الخاصة. وإن لم يكن قد تأثر، فهذا ولا شك ليس عيبًا فيه، وإنما ربما لم يصله من آداب العوالم الأخرى شيء. وإن كنت أرى- في نهاية الأمر- أن "هجرة" الآداب، وخاصة الشعبية، هي هجرة طبيعية على ألسنة الناس. ولأن الميناء الذي عمل به بوكاتشو- وهو شاب- رأى فيه كل صنوف البشر وحاورهم وحاوروه، فيكون من الجائز جدًّا تلقيه شفهيًّا آداب الشعوب الأخرى الشفاهية.
على أن هناك مراجع كثيرة غير شرقية يمكن أن يكون قد اعتمد عليها بوكاتشو في تأليف الديكاميرون. فالعنوان مثلًا يمكن أن نعزوه إلى نص لسانت امبروجو، وكان بعنوان "هيكساميرون"، وهو عن الأيام الستة لخلق الكون. كما أن هناك مجموعة قصصية سبقته مباشرةً، وكان عنوانها "النوفيللينو"، أي الكتاب الجامع للحكايات أو النوفيللا؛ بالإضافة إلى كتاب "المائة نوفيللا القديمة". ولدينا نسخة منه في مكتبة قسم اللغة الإيطالية بجامعة حلوان. غير أن الفارق الأساسي بين تلك المراجع والديكاميرون يكمن في استخدام الحكاية الإطارية. فكل ما سبق من نصوص لم تأخذ بهذه الحيلة الروائية، لكنها تتشابه كثيرًا في نوعية الحكايات المروية.
ومن الحيل الروائية التي انفرد بها بوكاتشو أيضًا هو ما يعرف باسم "ميزة ديونيو". وديونيو هو أكثر أعضاء هذه الزمرة انفلاتًا، لا يخضع للقانون العام للزمرة، وقد مُنح هذه الميزة منذ اليوم الأول. ووفقًا لهذه الميزة، فإنه يستطيع أن يروي ما يشاء دون التقيد بالموضوع الذي يفرضه الملك/ الملكة اليومية، ولكن ديونيو- الذي يأتي دوره الأخير دائمًا في رواية حكايته- كان يختار دائما الحكايات ذات الطابع الجنسي، الذي وصف أحيانًا بالطابع المتفسخ. وربما كان ديونيو بميزته هذه هو "الأنا العليا" لبوكاتشو نفسه. والحكايات التي رواها هي الأكثر تفضيلًا من الكاتب نفسه، وكأن الكاتب ميز نفسه بالخروج على القواعد واحتلال موقع خاص في الدور، حتى أن الملك/الملكة كان عليها التقيد بالموضوع الذي اقترحه/ اقترحته، كما كان عليها أن يحتل الدور قبل الأخير في الحكي، أي أنه وضع نفسه في مكانة أعلى من ملوك الأيام القصصية للديكاميرون.
يحيلنا هذا مباشرةً إلى حيلة روائية لجأ إليها بوكاتشو في هذا النص، وهي التماهي مع إحدى الشخصيات لكي يمارس "الدفاع الذاتي" عن نفسه، فضلا عن قيامه بهذا الدفاع الذاتي في الديباجة والخاتمة ومقدمة اليوم الرابع، متماهيًا هذه المرة مع الرواي، الذي تخبرنا الديباجة أنه هو نفسه المؤلف/الخطيب/الواعظ.
كان بوكاتشو في حقيقة الأمر مضطرًّا إلى الدفاع عن نفسه، نظرًا للمحتوى غير المألوف وغير العادي للحكايات التي سردها في هذه المجموعة، وقد استشعر- وهو يؤلف العمل- أنها سوف تثير ردود أفعال غاضبة ضده؛ وهو- في حد ذاته- ما يؤكد أنه كان قادرًا على تمثل القارئ الافتراضي له، وفهم واستيعاب طرق التلقي والتأويل لما يكتبه من حكايات، في السياقين التاريخي والاجتماعي للعصر الذي يعيش فيه. ومعنى أنه يثبت ذلك في المتن السردي أنه كان سابقًا عصره في تقنيات الرواية.
استشعر بوكاتشو أن الكتاب سوف يثير لغطًا في ناحيتين: الأولى، هي الميل الدائم لمعالجة موضوعات حسية ظلت عصية على المعالجة حتى ذلك الوقت، وخاصةً فيما يتعلق بالعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة. وقد لمسنا مدى حبه للمرأة، ومدى تعلقه بها، وفي الوقت نفسه مدى انتقاده العنيف لسلوك المرأة ومكائدها؛ وهو من الكُتاب الذين عبروا بشفافية عن هذه المشاعر المزدوجة التي تبدو متناقضة، لكنه قدم لها حلولًا رائقة، وفقت بين وجهي العملة الحب/الكراهية. نجد ذلك على نحوٍ جلي في الحكاية التي تعد الحكاية رقم مائة وواحد (مائة +1 = ألف +1، في منطق التشابه مع ألف ليلة وليلة)، وهي حكاية "الأوز"، التي حكاها كمؤلف وراوٍ في مقدمة اليوم الرابع. تحكي الحكاية- التي سوف تطالعونها في هذه الترجمة- باختصار شديد، عن رجل فقد زوجته، فقرر أن يقضي بقية عمره زاهدًا منعزلًا، فذهب إلى صومعة في الجبل يقضي فيها بقية عمره، واصطحب معه ابنه الصغير، وظل يحجبه عن التعرض للحياة العامة، فلم يعرف الابن أن العالم مختلف عما يعيشه في صومعة أبيه الزاهد، الذي حرص على ألا يعرف ابنه شيئًا عن المرأة، أو عن وجود هذا الجنس على الأرض. وكان يذهب إلى المدينة وحده لشراء احتياجاته، وعندما كبر الطفل وأصبح شابًّا، عرض على أبيه- الذي صار طاعنًا في السن- أن يذهب معه إلى المدينة لكي يساعده؛ فيذهب معه، ويكتشف المدينة، ويكتشف وجود المرأة. وعندما رأى مجموعة من النساء في أبهى حللهن، وهن عائدات من حفل زواج، سأل أبيه "ما هذه الأشياء؟" حار الأب في الرد عليه، فقال: "هذه أوز"، فيصر الولد أن يشتري أوزة منهن، ويحرص على أن يقدم لها يوميًّا ما "تلتقطه" بفمها. يقول بوكاتشو في هذه الحكاية: اكره المرأة كما تشاء، وارفض العلاقة الحسية كما تهوى، ولكنك لن تستطيع أبدًا أن تستغني عن المرأة في حياتك.
أما الناحية الأخرى، التي توقع أن يأتيه منها الهجوم، فعن طريق رجال الدين. كنا قد ألمحنا إلى أن بوكاتشو لم يلجأ إلى المعالجات الدينية والأخلاقية في حكاياته، وكان الواقع هو ملهمه الأول والأخير، ومن هذا الواقع "زيف" رجال الدين، وخاصة فيما يتعلق برجال ونساء (الراهبات) الدين، الذين اتهمهم بوكاتشو صراحةً بالنفاق والرياء، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، ويزعمون أنهم بلا علاقات حسية، بينما هم الواقع سادرون في هذه العلاقات، وعلى نحو فاسد ومفسد. وطبيعي أن يكون هذا التهكم اللاذع مصدرًا من مصادر الهجوم على الديكاميرون، وخاصةً في السياق التاريخي الذي صدرت فيه.
تتبقى الإشارة إلى أسماء الرواة في نص الديكاميرون ومدلولاتها؛ ذلك أن أسماء الأعلام لا تترجم في الغالب، ولكنها في الأعمال الفنية لها مدلول سيمانطيقي، ومن ثم فلها وظيفة روائية، لا تكتمل قراءة العمل إلا بفهم هذا المدلول. وهو ما ما يفسر استمتاع عارفي اللغات الأجنبية بقراءة النصوص في لغتها الأصلية أكثر من استمتاع القارئ العادي بالترجمة إلى اللغات المحلية. وجانب من هذا يعود إلى التآلف مع ثقافة اللغة الأجنبية، وجانب من هذا التآلف المعرفة والإحساس بمعاني الأسماء.
نعرف الآن أن شخصيات الزمرة تتألف من عشرة أشخاص، تتراوح أعمارهم بين 18 و28 سنة، وهم جميعًا من عائلات نبيلة، والأسماء التي أعطاها لهم بوكاتشو هي أسماء مستعارة تدل على صفاتهم الإنسانية ومواصفاتهم النفسية، وفقًا للمعاني الرمزية للأسماء اليونانية، أو أسماء شخصيات أدبية وكلاسيكية. أسماء الفتيات هي بامبنيا، ومعناها الفتاة المزدهرة، ولذلك فهي الحكاية الإطارية الأكبر سنًّا ورجاحةً في العقل؛ وفيلومينا، ومعناها "رفيقة القوة"، ولهذا فهي التي دعت الفتيات إلى البحث عن شبان أقوياء في مقدمة اليوم الأول، لأن النساء في رأيها لا يستطعن البقاء وحدهن دون رعاية من الرجال الأقوياء؛ أما نيفليه فمعناها "الجديدة على الحب"، وهي غير الخبيرة في شئون الحب، ولذلك نجدها هي التي تطلب إيقاف رواية الحكايات للانتقال إلى مكان آخر، أو يومي الجمعة والسبت للاحتفال بمناسبات دينية. وفياميتا هي المرأة التي يحبها بوكاتشو، ومعنى الكلمة "الجذوة المشتعلة"، التي ألهبت قلب كاتبنا حبًّا وغرامًا، وهذا هو آخر ظهور لها في كتبه، بعد أن ظهرت كثيرًا في كتبه الأولى. وإليسا هو الاسم الفينيقي لديدون، رمز العاشقة التعيسة؛ وإيميليا تحمل معنى الخصومة والخلاف. أما أسماء الشبان، فهي فيلوستراتو، والمعنى اللاتيني هو "المحب للكثرة"، ونعرف أنه أحب إحدى فتيات المجموعة، مثل رفيقيه، لكننا لا نعرف من هي، ليظل الاحتمال مفتوحًا أمام حب أكثر من فتاة في الوقت نفسه. لكن المعنى المجازي لهذا المحب أنه محب تعيس. وديونيو من ديونيس، الأم الأسطورية لفينوس، وهو الساخر والمتهكم وصاحب القفشات اللاذعة في الحكايات. ورغم أننا، كما أسلفنا، نرى فيه تماهيًا مع شخصية المؤلف، بوكاتشو، إلا أن كثيرًا من النقاد رأوا في بانفيلو، ثالث الشبان، الإيجو الأخرى لبوكاتشو، لأن اسمه يدل على صداقته للجميع، ولأنه اقترح في اليوم الأخير الحكايات التي تدل على الشهامة والعزة، وأبطالها من علية القوم. وهذا الافتراض هو عكس ما نراه في بوكاتشو، لأنه يفترض فيه صورة من صور الكمال، وبطلًا مثاليًّا من أبطال الملاحم، وهو في الواقع على العكس من ذلك؛ لأنه كان إنسانًا بكل ما فيه من قوة وضعف، وفضائل ومثالب، كما أوضحنا من قبل.
هذا عن أبطال الحكاية الإطارية، ويكاد الكلام نفسه ينطبق على أسماء أبطال الحكايات المختلفة، ولكننا سوف نقتصر هنا على الإشارة إلى بعض الأسماء العربية التي ذكرها المؤلف. وأول هذه الأسماء صلاح الدين، وهو بطل لأكثر من حكاية، الحكاية الثالثة من اليوم الأول، والحكاية التاسعة من اليوم العاشر؛ ويقدمه بوكاتشو بشكل إيجابي للغاية، فيه أخلاق الفروسية الحقيقية، وفيه الذكاء والدهاء والحيلة. وفي الحكاية الأولى، يظهر معه اسم عربي آخر، لشخص يهودي، هو ملكي صادق، وهو اسم مذكور في التوراة لكاهن يشك في وجوده، نظرا لاختفائه من سفر التكوين بلا مبرر، ويقدمه بوكاتشو لا على أنه الشخصية التوراتية، ولكن على أنه شخصية يهودية تحمل كل السمات، وخاصة المادية والمالية، لهذه الشخصية.
ومن الأسماء العربية الأخرى- التي وردت في المجموعة- نجد اسمين على درجة كبيرة من الأهمية، أحدهما لملك أو سلطان مصر، والآخر لابنته الأميرة.
يقول بوكاتشو إن سلطان مصر كان اسمه بيمينداب، وأن ابنته بالغة الجمال اسمها الاتييل، وفي بعض النسخ ظهر اسمها على شكل الياتيل. والبحث في ملوك وسلاطين مصر في الفترة التي سبقت بوكاتشو لم يسفر عن العثور على اسم مشابه، ومن ثم عمدت إلى تحليل هذه الأسماء وفقًا لما استقر عليه استخدام الأسماء الشرقية من الكتاب الغربيين. وأول ما يلاحظ في اسم السلطان المصري هو انتهاؤه بحرفي "اب"، وهو ما يمكن تفسيره على أنه اختزال لكلمة "أبو"، التي تستخدم كثيرًا في التسميات العربية، مثل أبو زيد، وقد لا تعني في الحقيقة كنيةً باستخدام اسم الابن لتعريف الشخص، وإنما قد يُكنى الابن بأبيه مثلما يحدث في صعيد مصر، ومن ثم يكون الأقرب هو أن بيمينداب هو بيميند أبو أو حتى بيميند ابن. وقد وجدنا حاكما بيزنطيًّا على طرابلس اللبنانية اسمه بيمينيد بن بيمنيد، وله قصة طويلة، انتهت بإخراج جثته من قبرها وإلقائها للكلاب. لكنه كان مشهورًا بالجمال، ومن المؤكد أن اسمه اشتهر في أوروبا إبان الحروب الصليبية باعتباره حاكمًا مسيحيًّا في الشرق.
وإذا استخدمنا القياس نفسه مع اسم الأميرة، ولكن مع حرفي "ايل" في نهاية الاسم، يمكن أن نرجعها إلى أداة التعريف "ال"، وهو قياس مرجح، إذا عرفنا أن الأجانب يختصرون معظم الأسماء المركبة مثل عبد الله وعبد الحميد إلخ، إلى الصيغة "عبدول"، عرفنا أن هذه الأميرة ربما يكون اسمها "الية ال"، فإذا أضفنا حرف العين، غير المنطوق في اللغة الإيطالية يصبح الاسم "علية ال"، ويصبح من المرجح أن يكون الاسم الثاني الناقص هو اسم العائلة، وقد وجدنا أميرة عربية تحمل اسم علية العقيلية، واسمها بالكامل علية بن الشيخ جابر العبيدي، وكانت بالغة الجمال كما وصفها بوكاتشو، كما كانت منخرطة في قصص حب متعددة، مثل بطلة الحكاية الإيطالية، وورد اسمها في السيرة الهلالية، التي هي من السير الشعبية التي ربما وصلت هي الأخرى شفاهة إلى الضفة الشمالية من البحر المتوسط.

لم يعد ضروريًّا- بعد هذه المقدمة- أن ننسب المجموعة الحالية من بواكير الفن القصصي في تاريخ الأدب العالمي إلى ثقافة مشتركة، جمعتنا معًا على ضفتي بحر واحد، وتحدثنا ذات يوم بلغات متشابهة، وشاعت بيننا المبادلات، ليس فقط المبادلات التجارية، على كثرتها، وإنما أيضًا المبادلات الفكرية والثقافية، حتى أصبح لنا إرثا مشتركا، يضاف إلى الثروة الفكرية للإنسانية في مجملها.

القاهــرة
د. حسـين محمـود
2015
مجموعة من المؤلفين - "مجموعة من المؤلفين"، هو ركن للكتب التي شارك في تأليفها أكتر من كاتب ومؤلف، وهو قسم مميز مليء بالكتب التي تعددت الجهود في إخراجها على أكمل الوجوه.


من فلسفة ومنطق الفكر والفلسفة - مكتبة الكتب والموسوعات العامة.

نبذة عن الكتاب:
الديكاميرون - الجزء الأول

2016م - 1445هـ
ثمة اعتذاران لابد منهما قبل أن أقدم لهذه النسخة العربية من "الديكاميرون"، في سلسلة "المائة كتاب" من عيون الأدب العالمي، التي يشرف عليها الشاعر رفعت سلام؛ ويقف برؤيته الثقافية الواضحة الشفافة وراء إنتاجها. أما الاعتذار الأول، فهو لأنني لم أكمل الترجمة التي بدأتها للديكاميرون منذ ثلاثين عامًا، ووقفت عند عُشر الكتاب؛ ولما طلب مني رفعت سلام إكمال الترجمة لنشرها، نجحت في ترجمة عُشر آخر. وهذان العُشران استغرقا في الترجمة سنتين كاملتين؛ وهذه هي الحجة التي أتذرع بها أمام نفسي اللوامة. فالكتاب، حتى يوفى حقه في الترجمة، لابد أن يستغرق في أقل القليل عشر سنوات. وهذه السنوات العشر حالت بيني وبينها ضرورات الحياة، التي لا تلقي بالًا إلى مثل هذا النوع من الإنجازات، وتقدم عليها واجبات والتزامات و"لقمة العيش"، وعدم اهتمام أحد بضرورة إتمام ترجمة مثل هذه الأعمال، اللهم إلا شخصيات قليلة ونادرة، من أمثال رفعت سلام وأنور مغيث؛ ولهما الشكر على النية الطيبة، كما أشكر المترجمين اللذين تصديا للترجمة الحالية، وأود أن أؤكد- في هذا الصدد- أن المترجمين يقدمون تضحياتهم باستهلاك حيواتهم من أجل إمتاع القارئ، وسد حاجة الثقافة العربية من الموارد الأجنبية، مثلما فعل حسن عثمان عندما قضى نحو خمسة عشر عامًا يترجم "الكوميديا الإلهية" (مات بعدها)، وتلميذه النجيب أحمد عتمان، الذي ترجم "الأوديسا"، أو أشرف على فريق ترجمها، وكاد يفقد بصره في هذا العمل (مات أيضًا بعدها).
أما الاعتذار الثاني، فهو عما سوف تقرءونه في هذه المقدمة، لأنه قد يبدو لكم غير منتظم، مبعثر الأفكار، مشتتًا. وما ذلك لعيب في منهجي، وإنما العيب في علاقتي بالكتاب الذي أقدم له. فالملاحظة العامة هي أنك- عندما تقع في حالة حب- يضطرب فكرك. فالعشق يولد الارتباك، وتقف أمام المحبوب مرات فينعقد لسانك، أو تفقد القدرة على السيطرة على أفكارك. والحقيقة أنني ارتبطت بهذا الكتاب وبمؤلفه، على طريقة ارتباط مشجعي الكرة بفرقهم، وربما جاز لي أن أسمي نفسي زعيم "التراس" الديكاميرون.
في المرة الأولى التي سمعت فيها عن الكتاب، في كلية الألسن حيث درست، على يد المرحوم الدكتور محب سعد، الذي كان يدرس لنا بموهبة فذة الأدب الإيطالي، حيث قدم لنا- في السنة الثالثة- دروسًا في "تيجان" الأدب الإيطالي، دانتي وبتراركا وبوكاتشو، ووقع في قلبي حب بوكاتشو وكتابه، في مقابل تقدير "بارد" لدانتي وبتراركا. ومنذ ذلك العهد، وأنا أبحث في شأنه، وأقرأ عن أخباره، وأكتب عن سر براعاته. وفي كل مرة أكتب عن الديكاميرون، أحس بالإضطراب نفسه. اضطراب المحب.
ولهذا، أبدأ التقديم بشخصية جوفاني بوكاتشو نفسه. وخير ما يمكن أن توصف به شخصية الكاتب الإيطالي الكبير هو موقفه من المرأة؛ فهو شديد الحب والولع بها، ورفقته كلها من النساء، وفي نفس الوقت كان من أوائل الكتاب في تاريخ الأدب الإيطالي الذي اشتهر بأنه عدو المرأة، لا لسبب إلا لبعض الحكايات التي روى فيها عن "مكر النساء" وأن "كيدهن عظيم"؛ تمامًا مثل حكايات الأمير سندباد الشهيرة في "ألف ليلة وليلة"، التي يحتمل أن يكون بوكاتشو قد قرأها وتأثر بها.
في مقدمة اليوم الرابع من مجموعة الديكاميرون- التي تتكون من مائة "نوفيللا"، سوف تطالعون فقرة طويلة يعلن فيها بوكاتشو صراحةً أنه من أشد المحبين للمرأة: "يقول بعض اللائمين أنني أسأت يا سيداتي العزيزات، عندما احتلتُ بكل حيلة حتى أثير إعجابكن، وأسأت لأنكن تعجبنني كثيرًا. وأنا أعترف بهذا اعترافًا صريحًا، أعترف بأنكن تعجبنني، وبأنني أفعل كل ما بوسعي حتى أعجبكن".
ولد جوفاني بوكاتشو في عام 1313، في بلدة تشرتالدو، في إقليم توسكانا. وبعد الدراسات الأولى في فلورنسا، انتقل عام 1327 إلى نابولي. في تشرتالدو كانت الولادة "الطبيعية" للطفل جوفاني من علاقة غير شرعية، وفي فلورنسا كانت الدراسة في الحقوق، وفي نابولي كانت الدراسة في الآداب. والولادة "الطبيعية" كان لفظًا يُطلق على البنوة غير الشرعية، ويُسمى الابن في هذه الحالة "ابن طبيعي". والحقيقة أننا- في القرن الرابع عشر الميلادي- في خريف العصور الوسطى، وفي هذه العصور كانت العلاقة الشرعية في عرف المفكرين هي العلاقة غير الطبيعية، أما علاقة الحب فهي العلاقة الحقيقية والطبيعية. فالحب يدنسه الزواج، ولابد أن يظل حبًّا في المطلق، حتى أننا صرنا نعرف دانتي أليجييري بحبيبته بياتريتشي، وبتراركا بحبيبته لاورا، وبوكاتشو بحبيبته فياميتا، لكننا لا نستطيع أن نتذكر زوجات هؤلاء الكتاب والشعراء الكبار. ولعل هذا هو ما حدد علاقة بوكاتشو منذ نعومة أظفاره بالمرأة "المقدسة تقديس الحب، والمدنسة تدنيس الزواج".
وفي فلورنسا، درس بوكاتشو الحقوق، ولهذا أيضًا مدلوله. فنحن- في القرن الرابع عشر- نتهيأ للخروج من حالة حضارية إلى أخرى، في فترة انتقالية ما بين العصور الوسطى والحديثة. وكان من دواعي هذا الانتقال وشروطه تغير نظام المجتمع، أن تختفي سيادة المجتمع الإقطاعي وقوامه الملكية الواسعة للأرض وما عليها، حيث كل شيء على الأرض في خدمة الاقطاعي، وهو السيد والنبيل وذو الدم الأزرق. حتى الشعراء، في نموذج المدرسة الصقلية مثلًا، كانوا لا يتغنون بحب محبوباتهم، بل يتغنون بحب زوجة السيد، التي لا ينبغي أن يُحَب أحدٌ غيرها. وحتى تختفي سيادة المجتمع الإقطاعي، كان لابد من ظهور مجتمع المدينة، أو كما يُسمى- في الأدبيات الإيطالية- المجتمع البلدي؛ أن يظهر الشارع ورجل الشارع، وأن تنزل المرأة من برج الإقطاع العالي إلى شوارع المدينة وأسواقها. وهكذا ظهرت المدينة، بكل ما تحمل من سمات، أبرزها الطبقة البورجوازية ومستلزماتها من حركة تجارة نشطة وبنوك وعملات. واستلزم تنظيم المدينة أن تكون الدراسة المرتبطة باحتياجات السوق هي الدراسة القانونية، التي كانت تضم أيضًا علوم المحاسبة. وهكذا كان طبيعيًّا أن ينخرط بوكاتشو في دراسة القانون، وأن يعمل في البنوك، وأن ينتقل مع إدارة البنك إلى نابولي، أحد أكبر الموانئ التجارية في إيطاليا في ذلك الوقت. وفي ميناء نابولي، حيث كان يقف بوكاتشو على طاولة يبيع العملات ويشتريها، عرف الناس عن حق، عرف التجار وعرف الزبائن، وعرف أهل البلد وعرف الأجانب. وكان يتردد أيضًا على قصر الحكم الملكي في نابولي، وعلى مكتبة القصر العامرة بكل العلوم المتقدمة في ذلك العصر، وفي مقدمتها العلوم العربية. بل يُقال إن بلاط ملك نابولي في ذلك الوقت كان يضم من بين العاملين فيه مترجمًا عربيًّا، وكانت مكتبة القصر مرتبطة بما يرسله إليها البلاط الأراجوني من مخطوطات وترجمات كثيرة عن اللغة العربية. وهناك تعرف على مجموعات قصصية مهمة منقولة عن العربية، منها "ألف ليلة وليلة"، و"كليلة ودمنة"، على سبيل المثال.
كانت المخطوطات وتجارتها رائجة في القرون الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر، قرون النزعة الإنسانية التي استعادت التراث اليوناني اللاتيني القديم، الذي اعتبر- على نطاق واسع- تراثًا وثنيًّا، رفضته الكنيسة في العصور الوسطى، وعادت الكلاسيكية لتأخذ مكانها الذي تستحقه على الساحة الثقافية. وجد بوكاتشو نفسه في هذا الجو المفعم بالحماس للأدب، وقرأ دانتي اليجييري، وعرف بتراركا والتقى به، وكان من الطبيعي أن يتحول من دراسة الحقوق إلى دراسة الآداب واللغات اليونانية واللاتينية والفرنسية. وفي هذه الفترة، كتب أعماله الأولى، التي عُرفت بأنها الأعمال الصغرى، ولكنها أعمال هامة أتمنى أن تجد طريقها إلى الترجمة العربية.
هكذا اكتمل تكوين بوكاتشو، وعاد إلى فلورنسا ليقيم فيها، ثم يلتحق ببلاط الإقليم الإيطالي رومانيا، وهو غير البلد المعروفة بالاسم نفسه في شرق أوروبا، وأكمل كتابة أعماله الصغرى، وأتم عمله الأكبر الديكاميرون عام 1351 على الأغلب. كما كانت هذه هي السنوات التي توطدت فيها علاقته بمعلمه وأستاذه "المجيد" بتراركا، وكرس جل وقته لدراسة دانتي، ولعقد محاضرات عامة عن الكوميديا الإلهية. ورحل بوكاتشو عن الدنيا عام 1375، بعد فترة قضاها معذب الضمير، بعد أن انهالت عليه تهم ازدراء الدين المسيحي، بسبب كتاباته، وخاصة الديكاميرون، الذي قام هو بنفسه، في لحظة يأس، بحرقه.
أوصى بوكاتشو بأن تكتب على شاهد قبره العبارة التالية: "تحت هذا الشاهد يرقد رماد وعظام جوفاني. عقله بين يدي الله مزدانًا بجدارات متاعبه في الحياة الفانية. كان بوكاتشو له أبًا، وتشرتالدو وطنًا، والشعر روحًا وحبًّا".
تلخص هذه العبارة شخصية بوكاتشو، ليس فقط في مضمونها، الصحيح بالقطع، وإنما أيضًا في أسلوبها. ففي إجماع نقاد الأدب، كان بوكاتشو أعظم كتاب النثر في إيطاليا وفي أوروبا كلها في القرن الرابع عشر؛ وزميلاه في ريادة الأدب الإيطالي، دانتي وبتراركا، كانا يكتبان الشعر وفقًا للمعايير الشعرية المعتبرة في عصرهما، مع التسليم بما أدخلاه من تجديد في التقنيات واللغة في أعمالهما الكبرى، الكوميديا الإلهية لدانتي والديوان لبتراركا.
فكيف أصبح بوكاتشو من أعظم الناثرين في تاريخ الأدب؟ هناك بالتأكيد سر وراء هذا الامتياز. وكلمة السر التي تفتح لنا بابًا لإدراك عظم شأنه النثري هي التجريب. فقد كان بوكاتشو سيد المجربين في تاريخ الأدب. والتجريب عنده هو القدرة على التعبير بأكبر قدر من التنوع في الأصوات والأساليب، بما يعيدنا- مرةً أخرى- إلى هذا الثراء الكبير في الأصوات والأساليب العربية في ألف ليلة وليلة، التي صادفت هوى في نفس المؤلف، لأنها كانت أقدر في إعانته على مراقبة الواقع مراقبة محايدة، ذلك الواقع سريع التحول والتغير، في كافة جوانبه، المتعددة طبعًا، والمتناقضة أحيانًا، على النحو الذي نراه في أغلب الفترات الانتقالية في مسيرة الحضارة.
لم يعد البطل في العمل الأدبي هو ذلك الفارس المغوار، الذي يغزو الحصون المنيعة؛ وإنما أصبح، وربما للمرة الأولى في الآداب الغربية، هو الإنسان العادي، بكل فضائله ومثالبه، بكل قوته وضعفه، في مواجهة الحظ والحب والذكاء، والجدل في العلاقة بين الإنسان العادي وهذه العوامل العامة يخلق ما لا نهاية له من ألوان الطيف في الحكايات.
والعنصر الثالث الذي تغير في "تجريبية" بوكاتشو بعد اللغة والشخصيات، هو عنصر الوصف؛ فقد تمير بالدقة في وصف التفاصيل، وذكر المراجع التاريخية، وتثبيت الحوادث في أماكنها الحقيقية بأسماء أبطالها الحقيقيين.
وآخر ميزة في نثر بوكاتشو، والتي اعتبرتها "ثورة" في حد ذاتها، هي غياب القضايا الدينية والأخلاقية والسياسية، التي كانت عمادا للكوميديا الإلهية لدانتي، رغم أنه تناول- في كثير من الحكايات- سلوك رجال الدين بالتهكم الحاد، ولكن هذا التناول ظل محكومًا بالواقع، ولم ينطلق أبدًا من رؤية فقهية معينة للدين. إنه المذهب الطبيعي، قبل أن يظهر مع زولا (الفرنسي) في القرن التاسع عشر، مفهومًا على أنه التمثيل الواقعي للعالم، بكل تفاصيله التي تساعدنا على فهمه وتحليله وإدراكه، وربما أيضًا إصلاحه.
والحقيقة أن "الوعظ" كان سمة من سمات أدب ذلك العصر، وكان من أشهر الكتب المتداولة والمتوارثة هو كتاب بيدرو (أو بييترو) الفونسي، وكان بعنوان "تهذيب العلماء"؛ وهو كتاب يشبه كثيرًا كتب الخطب الدينية التي كان يستخدمها الأئمة العرب في خطب الجمعة. وقد جمع فيه بيترو ألفونسي، اليهودي الذي اعتنق المسيحية، كثيرًا من الحكم والمواعظ، وبعضها في شكل قصصي، واعتُبر على نطاق واسع كتابًا من أصول شرقية، استفاد فيه المؤلف من معرفته بالقرآن وبالسنة النبوية، وهو أيضًا من المصادر التي اعتمد عليها بوكاتشو في بعض حكاياته. ولهذا، فإن كتاب الديكاميرون، إن تم فهمه في سياقه التاريخي، هو كتاب مواعظ، ولكنها بالتأكيد ليست مواعظ دينية، وإنما مواعظ عاطفية، تنصح المرأة والرجل- على نحو خاص- كيف يمكن أن يكون سلوكهم عند مواجهتهم لمشاكلهم العاطفية، دون الدخول في منظومة القيم الأخلاقية والدينية.
أما العمل الذي بين أيدينا اليوم، فهو أكبر وأهم عمل لبوكاتشو، وهو باكورة الإنتاج القصصي الأوروبي، الذي لن يعرف "الرومانس" إلا بعد عصر التنوير في آواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. والعنوان- الديكاميرون- تسمية محرفة لعبارة "عشرة أيام" باليونانية، ومدلول التسمية نتلمسه في تفسيرين أساسيين، الأول، هو ارتباط بوكاتشو، وعصر بوكاتشو، باللغة اليونانية، حتى تصبح الصيغ، حتى الملحونة منها، صيغًا شعبية، موافقةً للذائقة العامة، وهو ما يعكس مدى شيوع النزعة الإنسانية وقوتها؛ والنزعة الإنسانية، كما هو معروف، هي ذلك الاتجاه إلى إعادة تبني ملامح الثقافة الكلاسيكية، والبحث المحموم عن المخطوطات القديمة، وترجمتها من أية لغة إلى اللاتينية؛ وفكريًّا، هي التي أنزلت الفكر من السماء إلى الأرض، ووضعت الإنسان في مركز الكون.
ومن الطبيعي أن يكون بوكاتشو، بالمواصفات التي ذكرناها سالفًا، عن شخصيته وعن أدبه، من كبار الإنسانيين، كما يجعله أكثر معاصرة من دانتي اليجييري وأقرب إلى بتراركا، الذي يعتبره النقاد- على نطاق واسع- الإنساني الأول في تاريخ الأدب والحضارة.
أما التفسير الآخر، فهو مرتبط بمدلول "الرقم" الرمزي في عناوين الأعمال الأدبية. ويحيلنا هذا تلقائيا إلى الرقم "ألف"، في ألف ليلة وليلة؛ فإذا كانت الأيام العشر لبوكاتشو تقابل الليالي الألف + ليلة في الليالي العربية، فإن كلاهما له وظيفة واحدة تقريبًا. فالأيام العشرة التي احتاجها بوكاتشو، لكي تحكي فيها زمرة من سبعة فتيات وثلاثة شبان حكاياتهم عن الموضوعات التي أشرنا إليها سالفًا، هي المدة الكافية لكي تنجو هذه الزمرة من وباء الطاعون القاتل، الذي اجتاح أوروبا قبيل تأليف بوكاتشو لمجموعته القصصية مباشرةً؛ لأن النجاح في الانعزال عشرة أيام (أو ربما أسبوعين، هي المدة الفعلية التي قضتها زمرة الديكاميرون منعزلة عن المدينة)، على الأقل عن مجتمع الوباء، ينقذك مباشرة من الإصابة بالمرض الفتاك. وبالمثل، فإن الليالي الألف- التي احتاجتها شهرزاد لكي تحكي فيها حكاياتها لشهريار- كانت المدة الكافية لكي تنجو شهرزاد، وجميع بنات جنسها، من الموت على يد الملك، الذي تحول إلى سفاح نساء، يقتل كل يوم جارية بعد أن يضاجعها.
إنه إذًا الزمن في الحالتين، الذي يؤدي انقضاؤه إلى النجاة من الهلاك. ورغم هذا التشابه الكبير في الوظيفة بين عنوان الديكاميرون والليالي، إلا أن بوكاتشو قد أدرك هذه الحيلة من مجموعة أخرى تأكد أنها ترجمت إلى اللاتينية في عصره، وهي "الوزراء السبعة"، وهي نفسها التي تحكي قصة الأمير سندباد، الذي حكم عليه أبوه الملك بالإعدام، لأنه راود زوجة أبيه عن نفسها؛ فطلب الوزراء مهلة سبعة أيام قبل تنفيذ الحكم، لكي يثبتوا له براءته من تهمة زوجة أبيه الزائفة. وظل الوزراء يحكون للملك حكايات عن مكائد النساء، تردعه عن قراره لمدة سبعة أيام، وزوجته تحكي له هي الأخرى عن مكائد الرجال، لكي تثبت التهمة على ابنه، حتى يتم في النهاية إقناع الوالد ببراءة ابنه. والبنية- كما نرى- هي نفسها في حكاية شهرزاد، وفي الديكاميرون، الرقم والزمن والنجاة. ومرةً أخرى، فلسنا بعيدين عن ألف ليلة وليلة حتى في حكاية، أو حكايات الوزراء السبعة؛ فالحقيقة أن هذه الحكاية/ الحكايات قد انضمت إلى مجموعة ألف ليلة وليلة، في وقت متأخر، ولكن قبل اكتمال المجموعة، وجاءت فصلًا في المجموعة الحالية التي اشتهرت بأنها "المجموعة المصرية"، تحت عنوان "في مكر النساء وأن كيدهن عظيم" وهو عنوان- كما أسلفنا- كفيل بأن يشد انتباه بوكاتشو، الذي هو مَن هو في علاقته بالمرأة.
وكما هو الحال في المدلول الرقمي الزمني للحل الروائي في الديكاميرون، انتقلت إليه أيضًا تقنية الحكاية الإطارية، التي تصلح ذريعة لرواية العديد من الحكايات مختلفة الموضوعات والأبطال. هو نفسه منطق الحكواتي، أو جلسات الإنشاد الشعبي، التي كانت تحكي الملاحم المختلفة. وهذا- مرةً أخرى- ما يعيد أصول الديكاميرون إلى الأدب الشعبي الشفاهي. والحقيقة أن القارئ سوف يلمس خطابًا مباشرًا من الرواة إلى جمهور من الحضور، وكثيرًا ما سوف نصادف صيغًا مثل "سأروي لكم" أو "ساحكي لكم"، أو "سيداتي العزيزات". وتشترك المجموعات التي أشرنا إليها كلها في دوافع الحكي، التي تتمثل في "قضاء الوقت" أو "القضاء على الوقت"، وهو نفس منطق السَّمر، الذي يحكي أن الأمراء والملوك في غابر الأزمان كان يدركهم الملل والسأم ليلًا، فيستدعون المسامرين لكي يرووا لهم الحكايات التي تساعدهم على النوم. إنه الحكي من أجل المتعة، والإمتاع، والمؤانسة.
ويذهب الحكي في الديكاميرون إلى ما هو أبعد، ويلتقي مع شهرزاد والوزراء السبعة، في اعتبار الحكي نفسه وسيلة من وسائل الخلاص والنجاة. وكلما زاد الاتقان في الحكاية أصبح أمل النجاة أقرب إلى التحقيق. فلو أن شهرزاد قلت براعة الحكي عندها لما انتهت قصتها مع شهرزاد تلك النهاية السعيدة، بعد انقضاء ثلاث سنوات، أنجبت خلالها لشهرزاد أطفالًا، فاستعقلها واستبقاها. ولولا براعة الوزراء السبعة في الحكاية لتمكنت زوجة السلطان من الفتك بابن زوجها في الوزراء السبعة. ولو انفض سامر زمرة العشرة في الديكاميرون- قبل مرور العشرة أيام المنجيات- لعادوا إلى المدينة، وفتك بهم الطاعون.
على أن البنية القصصية في الديكاميرون أكثر انتظامًا وسيمترية من البنية في المجموعات الشرقية الأخرى. فقد نظم بوكاتشو الحكايات في ديباجة، ومقدمة روى من خلالها قصة وباء الطاعون الذي اجتاح مدينته فلورنسا، وبرع في وصفه لمجتمع المدينة، وهي- كما أسلفنا- مدينة بورجوازية تجارية، كما لمس أيضًا معلمًا هامًّا من معالم تكوين المدن منذ نشأتها الحديثة الأولى، وخاصة فيما يتعلق بالقيم؛ فالمدينة بلا قيم، والبورجوازية لا تتحمل الأزمات، وتفقد ترابطها كطبقة عندما تتعرض للضغوط. وبعد المقدمة التي قدم أيضًا من خلالها للحكاية الإطارية، عندما تقرر الزمرة من الشبان والفتيات التي التقت مصادفة في إحدى الكنائس، أن تنعزل عن الحياة، وتذهب إلى ضيعة أحدهم أو إحداهن، لكي تفلت من عقاب "القدر"، وهو الطاعون، قسم بوكاتشو الدكاميرون إلى عشر جلسات لرواية الحكايات، في كل جلسة تتم حكاية عشر حكايات خلال يوم روائي، يبدأ في النص الديكاميروني بمقدمة وينتهي بخاتمة، لتنتهي المجموعة عند اكتمال المائة حكاية، على عكس الليالي المفتوحة لإضافة المزيد من الحكايات؛ ذلك أن الليلة الواحدة تصلح لأن تحكي فيها حكاية واحدة، أو لأن الحكاية الواحدة قد تُحكى في أكثر من ليلة. ومن هذه الجهة، تعتبر مجموعة الوزراء السبعة أقرب إلى بنية الديكاميرون؛ فالحكايات محددة المدة تحديدًا أسبق على بدء السرد، ويتطابق فيهما الزمن الواقعي مع الزمن الروائي.
وإذا كانت الحكايات عند شهرزاد تنتظم في عقد التشويق، وليس لها فيما عدا التشويق هدف؛ فإن الديكاميرون قلد الوزراء السبعة أيضًا في تنظيم موضوعات الحكايات، في بنية موضوعية فنية برع فيها بوكاتشو على نحو خاص. فقد نظم "العِشرة" بين "العَشرة"، بحيث ينتخبون كل يوم ملكًا/ملكةً جديدًا عليهم، ويختص هذا الملك/الملكة باختيار موضوع حكايات اليوم، وفي نهاية اليوم ينظم المجتمعون "باليه"، ينتخبون بعده ملك اليوم التالي. وجعل بوكاتشو ملوك الحكايات يقررون مرتين (في اليومين الأول، والتاسع) أن يكون الموضوع الذين يختارون فيه حكاياتهم حرًّا، كما أعطى لأحد أعضاء الزمرة العشرة (ديونيو) ميزة ألا يلتزم بالموضوع الذي يحدده الملك. وقد أعطى هذا البناء مزيدًا من الحرية في اختيار الحكايات وتنوعها داخل هذا القالب شديد الانتظام.
ولا يهمنا في هذا المقام كثيرًا إثبات تأثر بوكاتشو بالأدب الشرقي عمومًا، وكذلك لا يهمنا نفي هذا التأثر. فإن كان قد تأثر، فهذا فضل منه ولا شك، لأنه في هذا الحالة يعد شخصًا منفتحًا على ثقافات العالم، قابلًا لها، مستمتعًا بها، ولا يدحض تأثره عبقريته الخاصة. وإن لم يكن قد تأثر، فهذا ولا شك ليس عيبًا فيه، وإنما ربما لم يصله من آداب العوالم الأخرى شيء. وإن كنت أرى- في نهاية الأمر- أن "هجرة" الآداب، وخاصة الشعبية، هي هجرة طبيعية على ألسنة الناس. ولأن الميناء الذي عمل به بوكاتشو- وهو شاب- رأى فيه كل صنوف البشر وحاورهم وحاوروه، فيكون من الجائز جدًّا تلقيه شفهيًّا آداب الشعوب الأخرى الشفاهية.
على أن هناك مراجع كثيرة غير شرقية يمكن أن يكون قد اعتمد عليها بوكاتشو في تأليف الديكاميرون. فالعنوان مثلًا يمكن أن نعزوه إلى نص لسانت امبروجو، وكان بعنوان "هيكساميرون"، وهو عن الأيام الستة لخلق الكون. كما أن هناك مجموعة قصصية سبقته مباشرةً، وكان عنوانها "النوفيللينو"، أي الكتاب الجامع للحكايات أو النوفيللا؛ بالإضافة إلى كتاب "المائة نوفيللا القديمة". ولدينا نسخة منه في مكتبة قسم اللغة الإيطالية بجامعة حلوان. غير أن الفارق الأساسي بين تلك المراجع والديكاميرون يكمن في استخدام الحكاية الإطارية. فكل ما سبق من نصوص لم تأخذ بهذه الحيلة الروائية، لكنها تتشابه كثيرًا في نوعية الحكايات المروية.
ومن الحيل الروائية التي انفرد بها بوكاتشو أيضًا هو ما يعرف باسم "ميزة ديونيو". وديونيو هو أكثر أعضاء هذه الزمرة انفلاتًا، لا يخضع للقانون العام للزمرة، وقد مُنح هذه الميزة منذ اليوم الأول. ووفقًا لهذه الميزة، فإنه يستطيع أن يروي ما يشاء دون التقيد بالموضوع الذي يفرضه الملك/ الملكة اليومية، ولكن ديونيو- الذي يأتي دوره الأخير دائمًا في رواية حكايته- كان يختار دائما الحكايات ذات الطابع الجنسي، الذي وصف أحيانًا بالطابع المتفسخ. وربما كان ديونيو بميزته هذه هو "الأنا العليا" لبوكاتشو نفسه. والحكايات التي رواها هي الأكثر تفضيلًا من الكاتب نفسه، وكأن الكاتب ميز نفسه بالخروج على القواعد واحتلال موقع خاص في الدور، حتى أن الملك/الملكة كان عليها التقيد بالموضوع الذي اقترحه/ اقترحته، كما كان عليها أن يحتل الدور قبل الأخير في الحكي، أي أنه وضع نفسه في مكانة أعلى من ملوك الأيام القصصية للديكاميرون.
يحيلنا هذا مباشرةً إلى حيلة روائية لجأ إليها بوكاتشو في هذا النص، وهي التماهي مع إحدى الشخصيات لكي يمارس "الدفاع الذاتي" عن نفسه، فضلا عن قيامه بهذا الدفاع الذاتي في الديباجة والخاتمة ومقدمة اليوم الرابع، متماهيًا هذه المرة مع الرواي، الذي تخبرنا الديباجة أنه هو نفسه المؤلف/الخطيب/الواعظ.
كان بوكاتشو في حقيقة الأمر مضطرًّا إلى الدفاع عن نفسه، نظرًا للمحتوى غير المألوف وغير العادي للحكايات التي سردها في هذه المجموعة، وقد استشعر- وهو يؤلف العمل- أنها سوف تثير ردود أفعال غاضبة ضده؛ وهو- في حد ذاته- ما يؤكد أنه كان قادرًا على تمثل القارئ الافتراضي له، وفهم واستيعاب طرق التلقي والتأويل لما يكتبه من حكايات، في السياقين التاريخي والاجتماعي للعصر الذي يعيش فيه. ومعنى أنه يثبت ذلك في المتن السردي أنه كان سابقًا عصره في تقنيات الرواية.
استشعر بوكاتشو أن الكتاب سوف يثير لغطًا في ناحيتين: الأولى، هي الميل الدائم لمعالجة موضوعات حسية ظلت عصية على المعالجة حتى ذلك الوقت، وخاصةً فيما يتعلق بالعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة. وقد لمسنا مدى حبه للمرأة، ومدى تعلقه بها، وفي الوقت نفسه مدى انتقاده العنيف لسلوك المرأة ومكائدها؛ وهو من الكُتاب الذين عبروا بشفافية عن هذه المشاعر المزدوجة التي تبدو متناقضة، لكنه قدم لها حلولًا رائقة، وفقت بين وجهي العملة الحب/الكراهية. نجد ذلك على نحوٍ جلي في الحكاية التي تعد الحكاية رقم مائة وواحد (مائة +1 = ألف +1، في منطق التشابه مع ألف ليلة وليلة)، وهي حكاية "الأوز"، التي حكاها كمؤلف وراوٍ في مقدمة اليوم الرابع. تحكي الحكاية- التي سوف تطالعونها في هذه الترجمة- باختصار شديد، عن رجل فقد زوجته، فقرر أن يقضي بقية عمره زاهدًا منعزلًا، فذهب إلى صومعة في الجبل يقضي فيها بقية عمره، واصطحب معه ابنه الصغير، وظل يحجبه عن التعرض للحياة العامة، فلم يعرف الابن أن العالم مختلف عما يعيشه في صومعة أبيه الزاهد، الذي حرص على ألا يعرف ابنه شيئًا عن المرأة، أو عن وجود هذا الجنس على الأرض. وكان يذهب إلى المدينة وحده لشراء احتياجاته، وعندما كبر الطفل وأصبح شابًّا، عرض على أبيه- الذي صار طاعنًا في السن- أن يذهب معه إلى المدينة لكي يساعده؛ فيذهب معه، ويكتشف المدينة، ويكتشف وجود المرأة. وعندما رأى مجموعة من النساء في أبهى حللهن، وهن عائدات من حفل زواج، سأل أبيه "ما هذه الأشياء؟" حار الأب في الرد عليه، فقال: "هذه أوز"، فيصر الولد أن يشتري أوزة منهن، ويحرص على أن يقدم لها يوميًّا ما "تلتقطه" بفمها. يقول بوكاتشو في هذه الحكاية: اكره المرأة كما تشاء، وارفض العلاقة الحسية كما تهوى، ولكنك لن تستطيع أبدًا أن تستغني عن المرأة في حياتك.
أما الناحية الأخرى، التي توقع أن يأتيه منها الهجوم، فعن طريق رجال الدين. كنا قد ألمحنا إلى أن بوكاتشو لم يلجأ إلى المعالجات الدينية والأخلاقية في حكاياته، وكان الواقع هو ملهمه الأول والأخير، ومن هذا الواقع "زيف" رجال الدين، وخاصة فيما يتعلق برجال ونساء (الراهبات) الدين، الذين اتهمهم بوكاتشو صراحةً بالنفاق والرياء، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، ويزعمون أنهم بلا علاقات حسية، بينما هم الواقع سادرون في هذه العلاقات، وعلى نحو فاسد ومفسد. وطبيعي أن يكون هذا التهكم اللاذع مصدرًا من مصادر الهجوم على الديكاميرون، وخاصةً في السياق التاريخي الذي صدرت فيه.
تتبقى الإشارة إلى أسماء الرواة في نص الديكاميرون ومدلولاتها؛ ذلك أن أسماء الأعلام لا تترجم في الغالب، ولكنها في الأعمال الفنية لها مدلول سيمانطيقي، ومن ثم فلها وظيفة روائية، لا تكتمل قراءة العمل إلا بفهم هذا المدلول. وهو ما ما يفسر استمتاع عارفي اللغات الأجنبية بقراءة النصوص في لغتها الأصلية أكثر من استمتاع القارئ العادي بالترجمة إلى اللغات المحلية. وجانب من هذا يعود إلى التآلف مع ثقافة اللغة الأجنبية، وجانب من هذا التآلف المعرفة والإحساس بمعاني الأسماء.
نعرف الآن أن شخصيات الزمرة تتألف من عشرة أشخاص، تتراوح أعمارهم بين 18 و28 سنة، وهم جميعًا من عائلات نبيلة، والأسماء التي أعطاها لهم بوكاتشو هي أسماء مستعارة تدل على صفاتهم الإنسانية ومواصفاتهم النفسية، وفقًا للمعاني الرمزية للأسماء اليونانية، أو أسماء شخصيات أدبية وكلاسيكية. أسماء الفتيات هي بامبنيا، ومعناها الفتاة المزدهرة، ولذلك فهي الحكاية الإطارية الأكبر سنًّا ورجاحةً في العقل؛ وفيلومينا، ومعناها "رفيقة القوة"، ولهذا فهي التي دعت الفتيات إلى البحث عن شبان أقوياء في مقدمة اليوم الأول، لأن النساء في رأيها لا يستطعن البقاء وحدهن دون رعاية من الرجال الأقوياء؛ أما نيفليه فمعناها "الجديدة على الحب"، وهي غير الخبيرة في شئون الحب، ولذلك نجدها هي التي تطلب إيقاف رواية الحكايات للانتقال إلى مكان آخر، أو يومي الجمعة والسبت للاحتفال بمناسبات دينية. وفياميتا هي المرأة التي يحبها بوكاتشو، ومعنى الكلمة "الجذوة المشتعلة"، التي ألهبت قلب كاتبنا حبًّا وغرامًا، وهذا هو آخر ظهور لها في كتبه، بعد أن ظهرت كثيرًا في كتبه الأولى. وإليسا هو الاسم الفينيقي لديدون، رمز العاشقة التعيسة؛ وإيميليا تحمل معنى الخصومة والخلاف. أما أسماء الشبان، فهي فيلوستراتو، والمعنى اللاتيني هو "المحب للكثرة"، ونعرف أنه أحب إحدى فتيات المجموعة، مثل رفيقيه، لكننا لا نعرف من هي، ليظل الاحتمال مفتوحًا أمام حب أكثر من فتاة في الوقت نفسه. لكن المعنى المجازي لهذا المحب أنه محب تعيس. وديونيو من ديونيس، الأم الأسطورية لفينوس، وهو الساخر والمتهكم وصاحب القفشات اللاذعة في الحكايات. ورغم أننا، كما أسلفنا، نرى فيه تماهيًا مع شخصية المؤلف، بوكاتشو، إلا أن كثيرًا من النقاد رأوا في بانفيلو، ثالث الشبان، الإيجو الأخرى لبوكاتشو، لأن اسمه يدل على صداقته للجميع، ولأنه اقترح في اليوم الأخير الحكايات التي تدل على الشهامة والعزة، وأبطالها من علية القوم. وهذا الافتراض هو عكس ما نراه في بوكاتشو، لأنه يفترض فيه صورة من صور الكمال، وبطلًا مثاليًّا من أبطال الملاحم، وهو في الواقع على العكس من ذلك؛ لأنه كان إنسانًا بكل ما فيه من قوة وضعف، وفضائل ومثالب، كما أوضحنا من قبل.
هذا عن أبطال الحكاية الإطارية، ويكاد الكلام نفسه ينطبق على أسماء أبطال الحكايات المختلفة، ولكننا سوف نقتصر هنا على الإشارة إلى بعض الأسماء العربية التي ذكرها المؤلف. وأول هذه الأسماء صلاح الدين، وهو بطل لأكثر من حكاية، الحكاية الثالثة من اليوم الأول، والحكاية التاسعة من اليوم العاشر؛ ويقدمه بوكاتشو بشكل إيجابي للغاية، فيه أخلاق الفروسية الحقيقية، وفيه الذكاء والدهاء والحيلة. وفي الحكاية الأولى، يظهر معه اسم عربي آخر، لشخص يهودي، هو ملكي صادق، وهو اسم مذكور في التوراة لكاهن يشك في وجوده، نظرا لاختفائه من سفر التكوين بلا مبرر، ويقدمه بوكاتشو لا على أنه الشخصية التوراتية، ولكن على أنه شخصية يهودية تحمل كل السمات، وخاصة المادية والمالية، لهذه الشخصية.
ومن الأسماء العربية الأخرى- التي وردت في المجموعة- نجد اسمين على درجة كبيرة من الأهمية، أحدهما لملك أو سلطان مصر، والآخر لابنته الأميرة.
يقول بوكاتشو إن سلطان مصر كان اسمه بيمينداب، وأن ابنته بالغة الجمال اسمها الاتييل، وفي بعض النسخ ظهر اسمها على شكل الياتيل. والبحث في ملوك وسلاطين مصر في الفترة التي سبقت بوكاتشو لم يسفر عن العثور على اسم مشابه، ومن ثم عمدت إلى تحليل هذه الأسماء وفقًا لما استقر عليه استخدام الأسماء الشرقية من الكتاب الغربيين. وأول ما يلاحظ في اسم السلطان المصري هو انتهاؤه بحرفي "اب"، وهو ما يمكن تفسيره على أنه اختزال لكلمة "أبو"، التي تستخدم كثيرًا في التسميات العربية، مثل أبو زيد، وقد لا تعني في الحقيقة كنيةً باستخدام اسم الابن لتعريف الشخص، وإنما قد يُكنى الابن بأبيه مثلما يحدث في صعيد مصر، ومن ثم يكون الأقرب هو أن بيمينداب هو بيميند أبو أو حتى بيميند ابن. وقد وجدنا حاكما بيزنطيًّا على طرابلس اللبنانية اسمه بيمينيد بن بيمنيد، وله قصة طويلة، انتهت بإخراج جثته من قبرها وإلقائها للكلاب. لكنه كان مشهورًا بالجمال، ومن المؤكد أن اسمه اشتهر في أوروبا إبان الحروب الصليبية باعتباره حاكمًا مسيحيًّا في الشرق.
وإذا استخدمنا القياس نفسه مع اسم الأميرة، ولكن مع حرفي "ايل" في نهاية الاسم، يمكن أن نرجعها إلى أداة التعريف "ال"، وهو قياس مرجح، إذا عرفنا أن الأجانب يختصرون معظم الأسماء المركبة مثل عبد الله وعبد الحميد إلخ، إلى الصيغة "عبدول"، عرفنا أن هذه الأميرة ربما يكون اسمها "الية ال"، فإذا أضفنا حرف العين، غير المنطوق في اللغة الإيطالية يصبح الاسم "علية ال"، ويصبح من المرجح أن يكون الاسم الثاني الناقص هو اسم العائلة، وقد وجدنا أميرة عربية تحمل اسم علية العقيلية، واسمها بالكامل علية بن الشيخ جابر العبيدي، وكانت بالغة الجمال كما وصفها بوكاتشو، كما كانت منخرطة في قصص حب متعددة، مثل بطلة الحكاية الإيطالية، وورد اسمها في السيرة الهلالية، التي هي من السير الشعبية التي ربما وصلت هي الأخرى شفاهة إلى الضفة الشمالية من البحر المتوسط.

لم يعد ضروريًّا- بعد هذه المقدمة- أن ننسب المجموعة الحالية من بواكير الفن القصصي في تاريخ الأدب العالمي إلى ثقافة مشتركة، جمعتنا معًا على ضفتي بحر واحد، وتحدثنا ذات يوم بلغات متشابهة، وشاعت بيننا المبادلات، ليس فقط المبادلات التجارية، على كثرتها، وإنما أيضًا المبادلات الفكرية والثقافية، حتى أصبح لنا إرثا مشتركا، يضاف إلى الثروة الفكرية للإنسانية في مجملها.

القاهــرة
د. حسـين محمـود
2015 .
المزيد..

تعليقات القرّاء:



سنة النشر : 2016م / 1437هـ .
عداد القراءة: عدد قراءة الديكاميرون - الجزء الأول

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:


شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

المؤلف:
مجموعة من المؤلفين - Amr Hashem Rabie

كتب مجموعة من المؤلفين "مجموعة من المؤلفين"، هو ركن للكتب التي شارك في تأليفها أكتر من كاتب ومؤلف، وهو قسم مميز مليء بالكتب التي تعددت الجهود في إخراجها على أكمل الوجوه. . المزيد..

كتب مجموعة من المؤلفين
الناشر:
الهيئة العامة لقصور الثقافة
كتب الهيئة العامة لقصور الثقافةالهيئة العامة لقصور الثقافة هي هيئة مصرية تهدف إلى المشاركة في رفع المستوى الثقافي وتوجيه الوعي القومي للجماهير في مجالات السينما والمسرح والموسيقى والفنون الشعبية والتشكيلية ونشاط الطفل وخدمات المكتبات في المحافظات. ❰ ناشرين لمجموعة من المؤلفات أبرزها ❞ المواطنة والعولمة - - تساؤل الزمن الصعب ❝ ❞ لسانيات الإختلاف ❝ ❞ التطور في الفنون ثلاثة أجزاءلـ توماس مونرو ❝ ❞ مصر والنيل بين التاريخ والفولكلور ❝ ❞ الكتاب الأسود للاستعمار البريطاني في مصر ❝ ❞ آل بودنبروك ❝ ❞ فن الحياة مع المراهق ❝ ❞ أشياء تتداعي ❝ ❞ هذا البيت لا تدخله الجرائد ❝ ❞ المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار الخطط المقريزية ❝ ومن أبرز المؤلفين : ❞ كاتب غير معروف ❝ ❞ مجموعة من المؤلفين ❝ ❞ عزيز نيسين ❝ ❞ محمد علي قطب ❝ ❞ فرانس كافكا ❝ ❞ يوسف زيدان ❝ ❞ أنطون تشيخوف ❝ ❞ تقى الدين أبى العباس أحمد بن على المقريزى ❝ ❞ عبد المتعال الصعيدي ❝ ❞ بينجامين سبوك ❝ ❞ فولتير ❝ ❞ ساويرس بن المقفع ❝ ❞ أحمد الزناتي ❝ ❞ توماس مان ❝ ❞ هانس كريستيان أندرسن ❝ ❞ أحمد محمد سالم ❝ ❞ جورج برنارد شو ❝ ❞ شحاته عيسى إبراهيم ❝ ❞ وليام سيدني بورتر ❝ ❞ عمرو عبد العزيز منير ❝ ❞ مكاوي سعيد ❝ ❞ عبد الحميد بشارة ❝ ❞ عزت القمحاوي ❝ ❞ أحمد سمير سعد ❝ ❞ حجاج حسن محمد ❝ ❞ تشنوا أتشيبي ❝ ❞ د. كمال شرقاوي غزالي ❝ ❞ منصور احمد محمد عبد المقصود ❝ ❞ محمد فكرى الجزار ❝ ❞ عبد الحميد حواس ❝ ❞ وجدى الاهدل ❝ ❞ عصام ستاتي ❝ ❞ عبد الله عبد العاطي النجار ❝ ❞ إيكه هولتكرانس ❝ ❞ عرفة عبده علي ❝ ❞ غالية قباني ❝ ❞ محمود القليني ❝ ❞ د. مصطفى بيومي عبد السلام ❝ ❞ حنان الشيخ ❝ ❞ أيمن الحكيم ❝ ❞ محمد مفيد الشوباشي ❝ ❞ صلاح السروى ❝ ❞ مصطفى الشيمي ❝ ❞ كرين برينتون ‏ ❝ ❞ عبد السلام إبراهيم ❝ ❞ شوقي بدر يوسف ❝ ❞ صبحي حديدي ❝ ❞ أحمد هلال يس ❝ ❱.المزيد.. كتب الهيئة العامة لقصور الثقافة