❞ رواية عدوس السرى ❝  ⏤ إبراهيم الكوني

❞ رواية عدوس السرى ❝ ⏤ إبراهيم الكوني

"كان ذلك زمن نفي البصر مقابل بعث البصيرة التي كانت حتى ذلك الوقت نائمة. إنّه حلقة أخرى من السلسلة العسيرة الملقّبة في المتون السالفة بـ "الميلاد الثاني". فبعين الميلاد الثاني تلقيت رسالة ذلك الرجل الذي لا يحضرني اليوم اسمه الأول، ولكن اسم عائلته هو "البكّوش" الذي علمت منه تالياً أنّه من قبيلة الزنتان التي نزحت بعض عشائرها إلى فيافي الجوار طلباً للكلأ... كنت في تلك المرحلة أبحث عن منفى أخلو فيه لنفسي فلا أرى أحداً، ولا يراني أحد، بعد أن فاض بي الكيل وأصابني العالم ومدن العالم بالغثيان، فاستيقظ حلمي الرومانسي القديم بأن أستعيد فردوسي المفقود الذي لم يكن سوى صحرائي المفقودة. حلُمٌ صار لي في تلك المرحلة هاجساً حتى أني لم أجد حرجاً أن أوجّه سؤالي لأول معترض سبيل (كما هو الحال مع السيد البكّوش) عن إمكان أن اجد مأوى للبيع في هذه الأركان لأني أنوي المقام. وهو سؤال مثير للشكوك، لا لأنه فقط من غريب موجّه لغريب، ولكنّه بسبب المرحلة السياسية التي خيّمت على الأنفاس، فكيف بِتَنَقّل الأشخاص؟ فمن يصدق بواقع كهذا أن يتحلّى بحسن النيّة ذلك الإنسان الذي أقبل من الشمال باحثاً في هذه البقعة عن سكن إن لم يخف نيّته مبيّتة والتي لن تكون في تلك الايام غير الفرار من بطش النظام؟
لا أنسى اليوم كيف صبر ذلك الإنسان على أسئلتي اللجوجة، وعندما خاض به الليل لم يجد مفرّاً من أن يترجم شكوكه بصريح العبارة: "أتكون هارباً أيها الرجل؟". لقد كان الهروب في تلك الفترة يجعل مدلولاً واحداً هو: الهروب السياسي، أيّ الفرار لقاء ارتكاب جرم سياسي، لأنه الجرم الوحيد الذي لا يغتفر، ليس في حقّ من ارتكب الجرم وحده، ولكن لا يغتفر في حق من آوى صاحب الجرم أيضاً. ولا أدري ما الذي قرأه الرجل في سيمائي في تلك المواجهة. ولكن مالا أنساه هو السرعة التي ألحق بها الرجل عبارته تلك بعبارة أخرى: "إذا جئت هارباً فأنت منذ الآن في بر الأمان!". قالها بعفوية إنسان الحرية فزعزعتني العبارة عميقاً جداً، لأنها استدعت في مجاهل نفسي القيم التي ظننت أنّي فقدتها في أهل وطني إلى الأبد. إنّه إنسان الذاكرة عندما يتجلى فتقول البراءة على لسانه الأشعار المنسية.
إنّه إنسان الطبيعة البكر الذي لا يتردّد في أن يضحّي في نفسه في سبيل أن يجبر غريباً كان في كل الثقافات رسولاً قدسيّاً. لقد تندرنا كلّما مررنا بالسيّد البكّوش (الذي اتضح أنه صاحب المطعم تالياً) في رحلاتي مع أشقائي في أعوام أُخَر، ولكن ما بذَرته هذه الحادثة في نفسي كان قوياً وثرياً وبعيداً وإلّا لما صار غنيمة الذاكرة لأنزف تفاصيلها اليوم.. فالواقع أنّ الرجل لم يخطئ في شأن هوّيتي الخفيّة، لا الدنيوية، لأنني كنت هارباً بالفعل، كنت هارباً هروباً يهون إلى جواره الهروب من شبح الأجهزة الأمنية، كنت هارباً من العالم بعد أن خيّب العالم ظنّي. كنت هارباً من نفسي لأن الدنيا التي عوّلت عليها خذلتني، وليس لي أن ألوم أحداً إلّا نفسي! كنت هارباً من ميلاد أسأت استخدامه فوأدّتُ أحلامي، وحملت فراري في يأسي دون أن أطمع في بعثي. وكل ما فعلتْه عبقرية الفطرة أن قرأت الرسالة المطلسمة التي تتستّر بعيداً في قلبي.. " كان طريق عدوس شاقّاً في اغترابه عن صحرائه.. ذاك الكيان العيني الذي لا يعترف بغير الأسطورة ديناً، وبابتكار لغة فوق واقعية أولى في أبجدية السرد.. لغة تغذيها ذاكرة نزفت أحداثاً امتدت على مدى فترة زمنية طويلة.. شخصيات تتوالى.. مؤتمرات وندوات ثقافية لها وقعها المؤثر سلباً وإيجاباً... أعتاب على امتداد العالم تطأها قدم عدوس وأماكن يسكنها.. ولكن تبقى لتلك المساحة التي تسكنه حضورها الطاغي في نززف الذاكرة هي صحراوه التي جعلته يلغي كل ما تعلمه في معهد غوركي للآداب من نظريات.. ماحياً داء خبيث اسمه المسلّمات.. ليضع حجر الأساس لأدب الصحراء، وبالأصح لرواية الصحراء... سيّما هذه الرواية ذات النفس الملحمي المتعدد الأجزاء مستعيناً بروح الصحراء المبثوثة في لغة ترفرف بألف جناح لأنها وحدها تستطيع أن تستجوب المجهول.. وتستطلع الحاضر.. تناقش.. تنتقد.. تحكي الألم.. وتمضي في رحلتها مع نزيف الذاكرة..
إبراهيم الكوني - إبراهيم الكوني كاتب ليبي طارقي يؤلف في الرواية والدراسات الأدبية والنقدية واللغوية والتاريخ والسياسة. اختارته مجلة لير الفرنسية أحدَ أبرز خمسين روائياً عالمياً معاصراً، وأشادت به الأوساط الثقافية والنقدية والأكاديمية والرسمية في أوروبا وأمريكا
❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ مراثي أوليس ❝ ❞ برق الخُلب ❝ ❞ نزيف الروح ❝ ❞ رسول السماوات السبع ❝ ❞ يعقوب وأبناؤه ❝ ❞ كلمة الليل في حق النهار ❝ ❞ نداء ما كان بعيدًا ❝ ❞ من أساطير الصحراء ❝ ❞ قابيل.. أين أخوك هابيل ❝ الناشرين : ❞ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ❝ ❞ دار التنوير للطباعة والنشر ❝ ❞ الدار المصرية اللبنانية ❝ ❞ دار كيان للنشر والتوزيع ❝ ❞ رياض الريس للكتب والنشر ❝ ❞ دار الآداب ❝ ❞ الدار الثقافية للنشر ❝ ❞ دار سؤال للنشر و التوزيع ❝ ❞ دار النهار للطباعة والنشر والتوزيع ❝ ❞ الدار الجماهيرية للنشر و التوزيع و الاعلان ❝ ❞ دار الملتقى للطباعة والنشر ❝ ❞ دار الصدي ❝ ❱
من كتب الروايات والقصص - مكتبة القصص والروايات والمجلّات.


اقتباسات من رواية عدوس السرى

نبذة عن الكتاب:
عدوس السرى

2016م - 1445هـ
"كان ذلك زمن نفي البصر مقابل بعث البصيرة التي كانت حتى ذلك الوقت نائمة. إنّه حلقة أخرى من السلسلة العسيرة الملقّبة في المتون السالفة بـ "الميلاد الثاني". فبعين الميلاد الثاني تلقيت رسالة ذلك الرجل الذي لا يحضرني اليوم اسمه الأول، ولكن اسم عائلته هو "البكّوش" الذي علمت منه تالياً أنّه من قبيلة الزنتان التي نزحت بعض عشائرها إلى فيافي الجوار طلباً للكلأ... كنت في تلك المرحلة أبحث عن منفى أخلو فيه لنفسي فلا أرى أحداً، ولا يراني أحد، بعد أن فاض بي الكيل وأصابني العالم ومدن العالم بالغثيان، فاستيقظ حلمي الرومانسي القديم بأن أستعيد فردوسي المفقود الذي لم يكن سوى صحرائي المفقودة. حلُمٌ صار لي في تلك المرحلة هاجساً حتى أني لم أجد حرجاً أن أوجّه سؤالي لأول معترض سبيل (كما هو الحال مع السيد البكّوش) عن إمكان أن اجد مأوى للبيع في هذه الأركان لأني أنوي المقام. وهو سؤال مثير للشكوك، لا لأنه فقط من غريب موجّه لغريب، ولكنّه بسبب المرحلة السياسية التي خيّمت على الأنفاس، فكيف بِتَنَقّل الأشخاص؟ فمن يصدق بواقع كهذا أن يتحلّى بحسن النيّة ذلك الإنسان الذي أقبل من الشمال باحثاً في هذه البقعة عن سكن إن لم يخف نيّته مبيّتة والتي لن تكون في تلك الايام غير الفرار من بطش النظام؟
لا أنسى اليوم كيف صبر ذلك الإنسان على أسئلتي اللجوجة، وعندما خاض به الليل لم يجد مفرّاً من أن يترجم شكوكه بصريح العبارة: "أتكون هارباً أيها الرجل؟". لقد كان الهروب في تلك الفترة يجعل مدلولاً واحداً هو: الهروب السياسي، أيّ الفرار لقاء ارتكاب جرم سياسي، لأنه الجرم الوحيد الذي لا يغتفر، ليس في حقّ من ارتكب الجرم وحده، ولكن لا يغتفر في حق من آوى صاحب الجرم أيضاً. ولا أدري ما الذي قرأه الرجل في سيمائي في تلك المواجهة. ولكن مالا أنساه هو السرعة التي ألحق بها الرجل عبارته تلك بعبارة أخرى: "إذا جئت هارباً فأنت منذ الآن في بر الأمان!". قالها بعفوية إنسان الحرية فزعزعتني العبارة عميقاً جداً، لأنها استدعت في مجاهل نفسي القيم التي ظننت أنّي فقدتها في أهل وطني إلى الأبد. إنّه إنسان الذاكرة عندما يتجلى فتقول البراءة على لسانه الأشعار المنسية.
إنّه إنسان الطبيعة البكر الذي لا يتردّد في أن يضحّي في نفسه في سبيل أن يجبر غريباً كان في كل الثقافات رسولاً قدسيّاً. لقد تندرنا كلّما مررنا بالسيّد البكّوش (الذي اتضح أنه صاحب المطعم تالياً) في رحلاتي مع أشقائي في أعوام أُخَر، ولكن ما بذَرته هذه الحادثة في نفسي كان قوياً وثرياً وبعيداً وإلّا لما صار غنيمة الذاكرة لأنزف تفاصيلها اليوم.. فالواقع أنّ الرجل لم يخطئ في شأن هوّيتي الخفيّة، لا الدنيوية، لأنني كنت هارباً بالفعل، كنت هارباً هروباً يهون إلى جواره الهروب من شبح الأجهزة الأمنية، كنت هارباً من العالم بعد أن خيّب العالم ظنّي. كنت هارباً من نفسي لأن الدنيا التي عوّلت عليها خذلتني، وليس لي أن ألوم أحداً إلّا نفسي! كنت هارباً من ميلاد أسأت استخدامه فوأدّتُ أحلامي، وحملت فراري في يأسي دون أن أطمع في بعثي. وكل ما فعلتْه عبقرية الفطرة أن قرأت الرسالة المطلسمة التي تتستّر بعيداً في قلبي.. " كان طريق عدوس شاقّاً في اغترابه عن صحرائه.. ذاك الكيان العيني الذي لا يعترف بغير الأسطورة ديناً، وبابتكار لغة فوق واقعية أولى في أبجدية السرد.. لغة تغذيها ذاكرة نزفت أحداثاً امتدت على مدى فترة زمنية طويلة.. شخصيات تتوالى.. مؤتمرات وندوات ثقافية لها وقعها المؤثر سلباً وإيجاباً... أعتاب على امتداد العالم تطأها قدم عدوس وأماكن يسكنها.. ولكن تبقى لتلك المساحة التي تسكنه حضورها الطاغي في نززف الذاكرة هي صحراوه التي جعلته يلغي كل ما تعلمه في معهد غوركي للآداب من نظريات.. ماحياً داء خبيث اسمه المسلّمات.. ليضع حجر الأساس لأدب الصحراء، وبالأصح لرواية الصحراء... سيّما هذه الرواية ذات النفس الملحمي المتعدد الأجزاء مستعيناً بروح الصحراء المبثوثة في لغة ترفرف بألف جناح لأنها وحدها تستطيع أن تستجوب المجهول.. وتستطلع الحاضر.. تناقش.. تنتقد.. تحكي الألم.. وتمضي في رحلتها مع نزيف الذاكرة.. .
المزيد..

تعليقات القرّاء:



سنة النشر : 2016م / 1437هـ .
عداد القراءة: عدد قراءة عدوس السرى

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:


شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

المؤلف:
إبراهيم الكوني - Ibrahim Al Koni

كتب إبراهيم الكوني إبراهيم الكوني كاتب ليبي طارقي يؤلف في الرواية والدراسات الأدبية والنقدية واللغوية والتاريخ والسياسة. اختارته مجلة لير الفرنسية أحدَ أبرز خمسين روائياً عالمياً معاصراً، وأشادت به الأوساط الثقافية والنقدية والأكاديمية والرسمية في أوروبا وأمريكا ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ مراثي أوليس ❝ ❞ برق الخُلب ❝ ❞ نزيف الروح ❝ ❞ رسول السماوات السبع ❝ ❞ يعقوب وأبناؤه ❝ ❞ كلمة الليل في حق النهار ❝ ❞ نداء ما كان بعيدًا ❝ ❞ من أساطير الصحراء ❝ ❞ قابيل.. أين أخوك هابيل ❝ الناشرين : ❞ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ❝ ❞ دار التنوير للطباعة والنشر ❝ ❞ الدار المصرية اللبنانية ❝ ❞ دار كيان للنشر والتوزيع ❝ ❞ رياض الريس للكتب والنشر ❝ ❞ دار الآداب ❝ ❞ الدار الثقافية للنشر ❝ ❞ دار سؤال للنشر و التوزيع ❝ ❞ دار النهار للطباعة والنشر والتوزيع ❝ ❞ الدار الجماهيرية للنشر و التوزيع و الاعلان ❝ ❞ دار الملتقى للطباعة والنشر ❝ ❞ دار الصدي ❝ ❱. المزيد..

كتب إبراهيم الكوني
الناشر:
المؤسسة العربية للدراسات والنشر
كتب المؤسسة العربية للدراسات والنشر ❰ ناشرين لمجموعة من المؤلفات أبرزها ❞ جحا و الحمار الناقص ❝ ❞ الأبجدية ❝ ❞ يسمعون حسيسها ❝ ❞ أسطورة ميسيا ❝ ❞ اسطورة بيت الأشباح ❝ ❞ المدخل الي علم النفس الحديث ❝ ❞ في ساعة نحس ❝ ❞ جحا والضيف المريض ❝ ❞ ذاكرة للنسيان ❝ ❞ يا صاحبى السجن ❝ ❱.المزيد.. كتب المؤسسة العربية للدراسات والنشر