❞  ملك اللؤلؤ العالمي رجل الأعمال اليمني الشيخ / علي بن عبد الرحمن النهاري. ❝

❞ ملك اللؤلؤ العالمي رجل الأعمال اليمني الشيخ / علي بن عبد الرحمن النهاري. ❝

قصة نجاح كبير
النهاري، ملك اللؤلؤ العالمي
علي محمد زيد

من الثابت في تاريخ اليمن أن البيئة الداخلية المنكوبة بحروب ما تكاد تتوقف حتى تعود من جديد، وبعجز الأنظمة السياسية الحاكمة عن فتح أبواب البناء والإنتاج والازدهار أمام المواطنين، قد ضيَّقَت على اليمنيين فرص العيش الكريم، واضطرت الكثيرين منهم للبحث عن منافذ للخروج من هذا الانسداد الداخلي. ولم تكتف الهمم العالية والقدرات الكبيرة والإرادات القوية بالخروج من هذا المأزق، بل عملت بجِد وصبر ومثابرة للاستفادة من الفرص المتاحة لصنع حياة أفضل لها ولمن تعول. وما تزال دائرة الضيق تدور، وما يزال النابهون والموهوبون يحاولون صنع فرصهم. وبالطبع، ليست الفرص ملقاة على الطرقات ليتناولها كل عابر. لكن القدرات الكبيرة والكفاءات العالية تلتقط أي إشارات تلوح أمامها في البيئات الجديدة وتستوعبها وتمسك بها بقوة وثبات وتبني عليها بذكاء نجاحها الكبير.
وها هو الأستاذ محمد يحيى النهاري، كاتب رسالة الماجستير التي تتناولها هذه السطور، يعرض للقراء واحدة من قصص النجاح اليمنية لرجل لم تكن البيئة الداخلية العاقر قادرة على إتاحة الفرصة أمامه ليبني مجده ويساهم في بناء بلده الأصلي وفي تحسين ظروف معيشة السكان، فازدهرت تجارته في مهجره الجديد حتى فاضت إلى العالم الحديث ممثلا بأوروبا، واقتحم ميدان التجارة العالمية حتى أصبح يلقب بـ"ملك اللؤلؤ العالمي". وتعد الرسالة نصا يضيف جديدا إلى معارفنا ويوسعها، بتناول موضوع مهمل في التأليف اليمني، ومن هنا قيمة هذا النص، لأنه يدرس قصة نجاح تجاري كبير، في ميدان يلاحظ المؤلف أننا كنا وما نزال لا نهتم بالكتابة عنه، وهو النجاح الاقتصادي.
تتناول هذه الدراسة قصة نجاح علي عبدالرحمن عبدالرحيم النهاري، الذي يعود أصله إلى رباط النهاري، الواقع في أحد وديان جبال ريمة المؤدية إلى تهامة، ويصب فيه إنتاج سفوح الجبال القريبة من البن لتصديره عبر ميناء الحديدة. وقد بدأ استقرار بيت النهاري في هذه المنطقة خلال الانتشار الصوفي من زبيد وتهامة نحو الجبال المطلة عليها خلال الازدهار الثقافي، والصوفي على وجه الخصوص، الذي بدأ في أيام الدولة الأيوبية وازدهر في عهد الدولة الرسولية. وكان أول من هاجر نحو الضفة الإفريقية من البحر الأحمر من هذه الأسرة عبدالرحيم النهاري، الجد المباشر لمن تتناوله هذه الرسالة. ولعله عمل بتجارة البن بين الرباط والحديدة حين كان البن ما يزال مصدرا مهما لثروة اليمن، قبل أن يعيِّنَه العثمانيون قاضيا شرعيا في ميناء مصوَّع، بوابة اليمنيين للهجرة إلى الحبشة في القرن التاسع عشر. وبعد وفاته واصل ابنه عبدالرحمن النهاري العمل بالقضاء وبتجارة اللؤلؤ التي ازدهرت في جزر البحر الأحمر، وبخاصة في أرخبيل جزر دهْلَك القريبة من ميناء مصوَّع، في وقت ازدياد الطلب العالمي على اللؤلؤ وارتفاع أسعاره بعد افتتاح قناة السويس.
وقد أدرك الحفيد علي عبدالرحمن عبدالرحيم النهاري، الذي تتناوله هذه الدراسة، ازدياد الطلب العالمي على اللؤلؤ، والفرص التي يفتحها استعمار إيطاليا لإريتريا بما يجعلها تابعة لاقتصاد أوروبا الحديث، فركَّز نشاطه على تنمية هذه التجارة وتوسيعها حتى اكتسب لقب "ملك اللؤلؤ العالمي" عن جدارة. فقد كان لديه من النباهة وبُعد التفكير للاستفادة من اتساع سوق التجارة الغربية وتضاعُف الطلب العالمي على اللؤلؤ بتغيُّر الذوق الجمالي في أوربا، وزيادة الإقبال على لؤلؤ البحر الأحمر والخليج، مما أدى إلى مضاعفة أسعاره وازدياد الأرباح الناتجة عنه.
ومع أنه كان لبعض أحفاد عبدالرحيم النهاري مساكن في قرية جُعْمُلي، في إحدى جزر أرخبيل دهلك، قضَى علي النهاري أغلب أوقاته في دهلك المنتجة لأجود أنواع اللؤلؤ، وابتنى له ولأبنائه منازل جميلة في تلك القرية، وحفر الآبار لتوفير المياه وتحسين سُبُل الحياة في الجزيرة، وزرع النخيل والمزروعات الأخرى اللازمة لتربية حيوانات الحليب، فجعل من مساكنه وما حولها واحة ظليلة في تلك الجزر القاحلة تشاهَد من بعيد بلونها الجميل، المطلية بالنورة البيضاء التي كانت تُلَوَّن بها المساجد والمساكن المميَّزة حتى عهد قريب.
وقد اختط علي النهاري سياسة استثمار قوامها إقراض الغواصين وتوفير قوارب الصيد مما شجع كثيرين على اقتحام مجال الغوص وصيد اللؤلؤ وضمِن له أن يصب الكثير من اللؤلؤ المستخرج في خزائنه. وامتلك عددا كبيرا من القوارب التي تعمل في الغوص، ووفر فرص العيش للكثير من السكان. ولأن تجارة العبيد الأفارقة المجلوبين مما وراء إثيوبيا والسودان كانت شائعة ومزدهرة في تلك الفترة، استخدم عددا كبيرا منهم في الخدمة المنزلية وفي قوارب الصيد، والزراعة في مزارعه في مصوع وربما في الضفة اليمنية من البحر الأحمر. ومع أنه قبل مماته سنة 1931 بنحو سنتين أعتق عبيده في محكمة مصوَّع، كما يقول المؤلف، ربما تحقق ذلك بفعل سياسة تحرير العبيد في المستعمرات الغربية تحت ضغط الليبرالية الحديثة والفكر المستنير والصحافة في أوربا، إلا أن تحرير العبيد قضية أعقد من مجرد صدور مرسوم قضائي. لأن تحرير مئات العبيد العاملين في الزراعة وفي الخدمة المنزلية، وبعضهم أصبح كبير السن ولا يعرف له مهنة يمكن أن يكسب عيشه منها، يطرح قضية توفير مصادر مستقلة للعيش الحر، وتوفير مساكن غير مساكنهم الملحقة بمالكهم، وإعادة تأهيلهم شعوريا وثقافيا على قبول الحرية واكتساب القدرة المستقلة على العيش فيها. وهي قضية معقدة تتجاوز النيات الحسنة لمالك العبيد السابق وكرم المساهمة في الانفاق على العبيد المحررين إلى ضرورة وجود نظام اجتماعي واقتصادي عادل يوفر لهم فرص العيش الكريم، ناهيك عن واقع الدعوة إلى المساواة بين البشر في تلك الفترة.
وقد بنى علي النهاري مكانته التجارية في مصوَّع على ركائز متينة كان أبوه وجده قد أسساها من قبله، لكنه واصلها بوعي واتخذها استراتيجية لتوسيع نفوذه التجاري والاجتماعي، مثل:
1. التزاوج مع أسر وجاهات دينية تجارية سياسية محلية،
2.التعاون مع التجار اليمنيين الحضارم الذين كانوا يتنافسون في أسواق البحر الأحمر وخليج عدن مع التجار البينيان الهنود الحائزين على ثقة السلطات الاستعمارية في مصوَّع وعدن،
3.التعامل مع السلطات الاستعمارية الإيطالية في مصوَّع ولكن بحذر من أن تستحوذ على ثروته أو تعرقل حركته التجارية.
ومع أن الشركات الإيطالية حاولت في مطلع القرن العشرين اقتحام مجال اصطياد اللؤلؤ وتجارته للاستفادة من أرباحها الكبيرة، وجدت الغوص عملية شاقة، واللؤلؤ غير متاح لمن أراد، بل يحتاج إلى بذل جهود مضاعفة وصبر طويل ومعرفة أسرار البحر ومواقع توفر القواقع المحتوية على اللؤلؤ، واستخراجه وتصفيته وصقله، وهي عمليات صعبة ومكلِّفة كان التجار العرب يعرفون أسرارها، ولذلك أخفقت محاولة الشركات الإيطالية للمنافسة في هذا المجال. كما أن سوق اللؤلؤ العالمي كان قد استقر في باريس وأرسلت الشركات الباريسية المعنية مندوبيها لشراء اللؤلؤ ولم تهتم بالغوص والاصطياد، واكتفت السلطات الاستعمارية الإيطالية بملاحقة تجار اللؤلؤ للحصول على ضرائب مبيعاتهم.
وقد بذل المؤلف الكثير من الجهد للحصول على المراجع والوثائق التي تساعده في إلقاء الضوء على هذه التجربة المميَّزة، وفي دراسة هذا الشخص الأسطوري، الذي لم يكتف بنصيبه مما خلَّف والده من تركة تقسَّمت بين الورثة، بل بنى أسطورته الخاصة التي تجاوزت بكثير ميراث عائلته حتى أصبح أغنى تاجر في مصوَّع وفي إثيوبيا كلها.
ولكي ندرك مدى ما بذل المؤلف من جهود في تحضير هذه الدراسة، يكفي أن نعود إلى قائمة المصادر والمراجع في آخر الرسالة لنعرف أنه لم يكن قد نُشِر عن علي النهاري بالعربية سوى معلومات قليلة في مواقع إريترية، وهي معلومات ذات قيمة أولية محدودة وليست بحوثا تاريخية موثقة وموثوقة، بالإضافة إلى ملحق متواضع في صحيفة القبس الكويتية نُشِر سنة 1967 في تقرير صحفي محدود القيمة وإن ظل بالنظر إلى ندرة المراجع عن موضوع الدراسة سبقا صحفيا نادرا. ولذلك اتَّكأ المؤلف على النصوص التالية المترجمة من اللغات الأجنبية:
ـ رواية "أسرار البحر الأحمر" للمغامر الفرنسي وتاجر اللؤلؤ والسلاح في البحر الأحمر هنري دو منفريد، الذي استمد مادة روايته من مغامراته في البحر الأحمر وقابل علي النهاري. وكما هو متوقع من عمل روائي، تختلط فيه المعلومات بالخيال الروائي لدرجة يصعب التمييز بين الحقيقة والخيال. وقد قرأتُ النص الأصلي لهذه الرواية باللغة الفرنسية، وفحصتُ الفصول الأربعة التي ذكر فيها مَن يسميه (سعيد علي) أو السيد علي، وقال إنه زاره في بيته في قرية جُعملي، في جزيرة صغيرة من أرخبيل دهلك، والتقى ابنه محمد الذي سيصبح وصيه عند وفاته. وتعد هذه الرواية مصدرنا الوحيد عن مشهَد الواحة الجميلة التي تحيط بمنازل علي النهاري في دهلك، وعن الحركة في داخل منزله، ومرضه والعلاج الذي كان يستخدمه وعن وفاته ودفنه، بطريقة تنتمي إلى الخيال الاستشراقي. وبالنظر إلى شح المراجع عن حياة علي النهاري ومرضه وموته، نقلت الرسالة هذه الرواية الموسَّعة التي تسرد بالتفصيل في عدة صفحات مرض النهاري وعلاجه وتسميمه واللحظات الأخيرة في حياته وحَمْل نعشه إلى مثواه الأخير ودفنه في دهلك، وهي تفاصيل تستمد مادتها من الخيال الأسطوري عن الشرق وكنوزه ومؤامراته. لكنه يُورِدُ في الصفحة 185 من الرسالة خبرا قصيرا يقول إن ورثة النهاري يؤكدون أنه دُفِن في مقبرة باجنيد في مصوَّع، وهو ما يوحي بأنه ربما مات ودُفِن في مصوَّع، لأن أبناءه وورثته أعرف بمكان دفن مورِّثهم. وتضيف الرسالة إلى هذا الارتباك احتمال أن المُغامِر الذي كتب الرواية (هنري دو منفريد) ربما كان ضالعا في مؤامرة اغتيال النهاري وأراد بسرد هذه الرواية المفصلة، كأن راويها كان شاهدا على كل الخطوات والمؤامرات، صَرْف النظر عن مسئوليته في قتل النهاري البالغ من العمر اثنين وثمانين سنة، سواء مباشرة عن طريق التواطؤ مع الممرِّض الذي أرسله الطبيب من مصوع ليعمل عند النهاري فحَقنه بجرعة زائدة من مسكِّن الألم (المورفين)، أم قتله البطيء عن طريق إعطائه مسكِّن ألم دون أن يقول له إن هذا العلاج يسبب الإدمان، ويُلحِق أضرارا كبيرة بصحة الشيخ الذي يعاني من مرض السكر لدرجة بتر أحد ساقيه، في وقت لم يكن علاج السكر منتشرا كما هو الآن، مع نقص المعرفة بما لتنظيم الغذاء من أثر في تخفيف معدل السكر في الدم.
ـ واستعان المؤلف كذلك بما كتب جوناثان ميران، وهو أستاذ جامعي أمريكي كتب الكثير عن إريتريا، وله دراسة أكاديمية مهمة عن مصوَّع وضواحيها نُشرت بعنوان "مواطنو البحر الأحمر": Red Sea Citizens
ـ واستعان المؤلف بما استطاع الوصول إليه من الوثائق التي تركها علي النهاري وتتحدث عن تجارته وتعاملاته مع البنوك الأوربية في عدن وباريس عند رحلتيه إلى العاصمة الفرنسية سنة 1907 وسنة 1924، وكل النصوص التي أمكن الاستناد إليها، مثل مشجرات الانساب، ووصية النهاري التي كتبها بخطه سنة 1923، ومرسوم ملكي إيطالي بمنحه وسام نجمة إيطاليا باعتباره "وجيه مصوَّع".
ـ ولكي يسد ما واجه من نقص كبير في المراجع التي تتحدث مباشرة عن موضوع دراسته، أو تذكُرُه بصورة عابرة قد يستفيد منها، أسعفته ثقافته الفقهية وسعة اطلاعه على التراث بالكثير من مصادر التراث، مثل البخاري، ومسلم، والترمذي، والجاحظ، والسيوطي والأصفهاني، ومرتضى الزبيدي وغيرها من كتب الحديث والتاريخ واللغة.
وتَتَبَّع المؤلف قصة الاختفاء الغريب لثروة النهاري الكبيرة بالتدريج. فقد كان في تنافس تجاري شديد مع التجارة التي قدِمت إلى إريتريا بقدوم الاستعمار الإيطالي، وكان أحد أهم من ساهم في إحباط محاولة الشركات الإيطالية التغلغل في تجارة اللؤلؤ. وكان الاستعمار الإيطالي يحاول التوسع التجاري ويبحث في المستعمرات عن مساهمة الثروات المحلية في تمويل بناء إيطاليا. وحاول النهاري تفادي الصدام مع الإيطاليين بتقديم قرض للحاكم الاستعماري الإيطالي في مصوَّع. لكنه تعرض فيما بعد لنقد قاسٍ في الصحافة الإيطالية ومن الحاكم الاستعماري الإيطالي في مصوع، لأنه باعتباره مواطنا إيطاليا يخفي ثروته ويضعها في البنوك الفرنسية وليس في البنوك الإيطالية، ولا يساهم في اقتصاد إيطاليا.
ومع أن النهاري بذل بعض الجهود لتنويع تجارته، ظلت ثروته قائمة أساسا على الغوص واستخراج اللؤلؤ، فأدى نجاح اليابان في زراعة اللؤلؤ إلى تراجع أسعار اللؤلؤ الطبيعي في السوق العالمي بالتدريج حتى انهارت تجارته في البحر الأحمر والخليج العربي في النهاية، وهو ما أسهم في تراجع تجارة النهاري وعدم تواصلها من بعده.
كما أنه كان يمارس التجارة كما مارسها أبوه ومن يتعاون معهم من التجار اليمنيين الحضارم في مصوَّع وعدن، وهي تجارة يقوم بها في الغالب أفراد لهم قدرات غير عادية، وطموحات كبيرة، وترتكز على قيم موروثة مثل الأمانة والثقة واحترام الكلمة المُعطاة والمنافسة التجارية الشريفة. لكنه حين مد نظره إلى أسواق أوروبا المالية والعقارية أصبح يتعامل مع مؤسسات مالية لها مطامع واسعة وتقوم على السجلات والعقود والمحاسبين القانونيين والمستشارين القانونيين والمحامين، ولا يوجد فيها مجال للنوايا الحسنة ولا للتسامح مع المنافسين. وإذا لم تحصِّن نفسك بكل هذه الوسائل الحديثة وتمتلك القدرة والحذر للدفاع عن حقوقك افترستك دون رحمة.
ومع أن النهاري امتلك إيصالات ووثائق حسابات في البنوك وأرقام خزنات أودع فيها كميات كبيرة من اللؤلؤ، وصل وزنها في أحد الإيداعات في بنك باريسي أربعة عشر كيلو جراما من اللؤلؤ الطبيعي، ووضع فيها كذلك عقود العقارات التي اشتراها في باريس ومارسيليا وإيطاليا، فإن عودته إلى مصؤَّع ودهلك، وعدم وجود شركة أو مؤسسة تدير هذه الثروة وتستثمرها في سوق باريس، قبل وجود الانترنت والتجارة الإلكترونية التي تمكِّن رجل الأعمال من إدارة تجارته عن بُعد، قد جعلته يبتعد عن أمواله وأصوله في باريس محتفظا بإيصالات البنوك وأرقام الحسابات وكذلك أرقام الخزنات ومفاتيحها. وقد احتفظ بهذه الوثائق لنفسه، وربما أطلع عليها ابنه محمد الذي عيَّنه وصيا على تجارته من بعده. لكن محمد مات بعد وفاة أبيه بست سنوات. ولا ندري إن كان علي النهاري نفسه أم ابنه قد أخفى كل هذه الوثائق عن أعين الجميع في جدار منزله في مصوَّع إلى أن تم اكتشافها سنة 1967، أي بعد وفاته بخمس وثلاثين سنة، بعد أن كانت عوامل التعرية قد أتت على بعض تفاصيلها، وبعد أن أدت الحرب العالمية الثانية إلى اضطراب العالم وبداية تشكُّله في مرحلة جديدة مختلفة. وزاد الطين بلة، كما يقال، أن أبناء علي النهاري من زوجاته المختلفات قد تصارعوا على اقتسام ما تبقى من تجارته وثروته وممتلكاته العقارية الواسعة في دهلك ومصوَّع. وأدى هذا الصراع إلى فوات فرصة القيام بجهد مشترك لتوكيل محامين مؤهلين لدراسة المستندات وجمع تفاصل اللغز من جديد، وتكوين ملف قانوني مكتمل والتقدم بدعوى أمام القضاء الفرنسي بهدف استعادة ما يمكن استعادته من ثروة النهاري الضائعة. ولم يبق سوى محاولات فردية مشتتة ومتنافرة لم تؤدِّ إلى شيء. ومع أن لجنة مصالحة بين الورثة قد تشكلت مؤخرا، لم تنجح في مساعيها، وكان أهم مقترح تقدمت به جمع توكيلات من الورثة المتصارعين، والمنتشرين في أكثر من مكان وأكثر من بلد، لمحامين يتولون دراسة الملف والتقدم بدعوى أمام القضاء المختص.
والواقع أن هذه الدراسة التي أعدها الأستاذ محمد يحيى النهاري عن علي النهاري تسجل ملحمة مهمة من ملاحم اليمنيين الطامحين الذين أُغلِقت أمامهم أبواب المساهمة في تطوير بلادهم فبحثوا لقدراتهم الكبيرة عن مجالات مواتية للعمل والإنتاج واكتساب الثروة، وصنعوا قصص نجاح كبيرة. لأن علي النهاري كان رجلا استثنائيا امتلك قدرات غير عادية مكنته من بناء ثروته في مجال صعب هو استخراج اللؤلؤ في وجه منافسة كبيرة، ولم يكتف بتجارة اللؤلؤ المتوفر في السوق، بل ركز جهوده على الإنتاج وتنظيم عملية الاستخراج والاستثمار في الغوص والاصطياد، فأفاد واستفاد واكتسب ثروة كبيرة.
وقد تتبَّعت هذه الرسالة مأساة مرضه واحتمال تآمر المنافسين لقتله، على الأقل عن طريق وصف العلاج غير المناسب لحالته الصحية ولسنِّه. لكن القتل الأكبر له ولثروته قد تحقق بتدهور تجارة اللؤلؤ الطبيعي بعد اكتشاف اليابان لزراعة اللؤلؤ بكميات تجارية وبمواصفات تستجيب لاحتياجات سوق اللؤلؤ العالمي، وكذلك افتراس ما أودَع من أموال ولؤلؤ ثمين وما امتلك من عقارات في أوروبا. وبذلك وُضِعت نهاية لهذه الأسطورة التي نشأت وترعرعت في جزر أرخبيل دهلك وفي مصوَّع وفاضت في تلك الفترة المبكرة حتى بلغت فرنسا وإيطاليا.
-
من - مكتبة .

نبذة عن الكتاب:
ملك اللؤلؤ العالمي رجل الأعمال اليمني الشيخ / علي بن عبد الرحمن النهاري.

2024م - 1446هـ
قصة نجاح كبير
النهاري، ملك اللؤلؤ العالمي
علي محمد زيد

من الثابت في تاريخ اليمن أن البيئة الداخلية المنكوبة بحروب ما تكاد تتوقف حتى تعود من جديد، وبعجز الأنظمة السياسية الحاكمة عن فتح أبواب البناء والإنتاج والازدهار أمام المواطنين، قد ضيَّقَت على اليمنيين فرص العيش الكريم، واضطرت الكثيرين منهم للبحث عن منافذ للخروج من هذا الانسداد الداخلي. ولم تكتف الهمم العالية والقدرات الكبيرة والإرادات القوية بالخروج من هذا المأزق، بل عملت بجِد وصبر ومثابرة للاستفادة من الفرص المتاحة لصنع حياة أفضل لها ولمن تعول. وما تزال دائرة الضيق تدور، وما يزال النابهون والموهوبون يحاولون صنع فرصهم. وبالطبع، ليست الفرص ملقاة على الطرقات ليتناولها كل عابر. لكن القدرات الكبيرة والكفاءات العالية تلتقط أي إشارات تلوح أمامها في البيئات الجديدة وتستوعبها وتمسك بها بقوة وثبات وتبني عليها بذكاء نجاحها الكبير.
وها هو الأستاذ محمد يحيى النهاري، كاتب رسالة الماجستير التي تتناولها هذه السطور، يعرض للقراء واحدة من قصص النجاح اليمنية لرجل لم تكن البيئة الداخلية العاقر قادرة على إتاحة الفرصة أمامه ليبني مجده ويساهم في بناء بلده الأصلي وفي تحسين ظروف معيشة السكان، فازدهرت تجارته في مهجره الجديد حتى فاضت إلى العالم الحديث ممثلا بأوروبا، واقتحم ميدان التجارة العالمية حتى أصبح يلقب بـ"ملك اللؤلؤ العالمي". وتعد الرسالة نصا يضيف جديدا إلى معارفنا ويوسعها، بتناول موضوع مهمل في التأليف اليمني، ومن هنا قيمة هذا النص، لأنه يدرس قصة نجاح تجاري كبير، في ميدان يلاحظ المؤلف أننا كنا وما نزال لا نهتم بالكتابة عنه، وهو النجاح الاقتصادي.
تتناول هذه الدراسة قصة نجاح علي عبدالرحمن عبدالرحيم النهاري، الذي يعود أصله إلى رباط النهاري، الواقع في أحد وديان جبال ريمة المؤدية إلى تهامة، ويصب فيه إنتاج سفوح الجبال القريبة من البن لتصديره عبر ميناء الحديدة. وقد بدأ استقرار بيت النهاري في هذه المنطقة خلال الانتشار الصوفي من زبيد وتهامة نحو الجبال المطلة عليها خلال الازدهار الثقافي، والصوفي على وجه الخصوص، الذي بدأ في أيام الدولة الأيوبية وازدهر في عهد الدولة الرسولية. وكان أول من هاجر نحو الضفة الإفريقية من البحر الأحمر من هذه الأسرة عبدالرحيم النهاري، الجد المباشر لمن تتناوله هذه الرسالة. ولعله عمل بتجارة البن بين الرباط والحديدة حين كان البن ما يزال مصدرا مهما لثروة اليمن، قبل أن يعيِّنَه العثمانيون قاضيا شرعيا في ميناء مصوَّع، بوابة اليمنيين للهجرة إلى الحبشة في القرن التاسع عشر. وبعد وفاته واصل ابنه عبدالرحمن النهاري العمل بالقضاء وبتجارة اللؤلؤ التي ازدهرت في جزر البحر الأحمر، وبخاصة في أرخبيل جزر دهْلَك القريبة من ميناء مصوَّع، في وقت ازدياد الطلب العالمي على اللؤلؤ وارتفاع أسعاره بعد افتتاح قناة السويس.
وقد أدرك الحفيد علي عبدالرحمن عبدالرحيم النهاري، الذي تتناوله هذه الدراسة، ازدياد الطلب العالمي على اللؤلؤ، والفرص التي يفتحها استعمار إيطاليا لإريتريا بما يجعلها تابعة لاقتصاد أوروبا الحديث، فركَّز نشاطه على تنمية هذه التجارة وتوسيعها حتى اكتسب لقب "ملك اللؤلؤ العالمي" عن جدارة. فقد كان لديه من النباهة وبُعد التفكير للاستفادة من اتساع سوق التجارة الغربية وتضاعُف الطلب العالمي على اللؤلؤ بتغيُّر الذوق الجمالي في أوربا، وزيادة الإقبال على لؤلؤ البحر الأحمر والخليج، مما أدى إلى مضاعفة أسعاره وازدياد الأرباح الناتجة عنه.
ومع أنه كان لبعض أحفاد عبدالرحيم النهاري مساكن في قرية جُعْمُلي، في إحدى جزر أرخبيل دهلك، قضَى علي النهاري أغلب أوقاته في دهلك المنتجة لأجود أنواع اللؤلؤ، وابتنى له ولأبنائه منازل جميلة في تلك القرية، وحفر الآبار لتوفير المياه وتحسين سُبُل الحياة في الجزيرة، وزرع النخيل والمزروعات الأخرى اللازمة لتربية حيوانات الحليب، فجعل من مساكنه وما حولها واحة ظليلة في تلك الجزر القاحلة تشاهَد من بعيد بلونها الجميل، المطلية بالنورة البيضاء التي كانت تُلَوَّن بها المساجد والمساكن المميَّزة حتى عهد قريب.
وقد اختط علي النهاري سياسة استثمار قوامها إقراض الغواصين وتوفير قوارب الصيد مما شجع كثيرين على اقتحام مجال الغوص وصيد اللؤلؤ وضمِن له أن يصب الكثير من اللؤلؤ المستخرج في خزائنه. وامتلك عددا كبيرا من القوارب التي تعمل في الغوص، ووفر فرص العيش للكثير من السكان. ولأن تجارة العبيد الأفارقة المجلوبين مما وراء إثيوبيا والسودان كانت شائعة ومزدهرة في تلك الفترة، استخدم عددا كبيرا منهم في الخدمة المنزلية وفي قوارب الصيد، والزراعة في مزارعه في مصوع وربما في الضفة اليمنية من البحر الأحمر. ومع أنه قبل مماته سنة 1931 بنحو سنتين أعتق عبيده في محكمة مصوَّع، كما يقول المؤلف، ربما تحقق ذلك بفعل سياسة تحرير العبيد في المستعمرات الغربية تحت ضغط الليبرالية الحديثة والفكر المستنير والصحافة في أوربا، إلا أن تحرير العبيد قضية أعقد من مجرد صدور مرسوم قضائي. لأن تحرير مئات العبيد العاملين في الزراعة وفي الخدمة المنزلية، وبعضهم أصبح كبير السن ولا يعرف له مهنة يمكن أن يكسب عيشه منها، يطرح قضية توفير مصادر مستقلة للعيش الحر، وتوفير مساكن غير مساكنهم الملحقة بمالكهم، وإعادة تأهيلهم شعوريا وثقافيا على قبول الحرية واكتساب القدرة المستقلة على العيش فيها. وهي قضية معقدة تتجاوز النيات الحسنة لمالك العبيد السابق وكرم المساهمة في الانفاق على العبيد المحررين إلى ضرورة وجود نظام اجتماعي واقتصادي عادل يوفر لهم فرص العيش الكريم، ناهيك عن واقع الدعوة إلى المساواة بين البشر في تلك الفترة.
وقد بنى علي النهاري مكانته التجارية في مصوَّع على ركائز متينة كان أبوه وجده قد أسساها من قبله، لكنه واصلها بوعي واتخذها استراتيجية لتوسيع نفوذه التجاري والاجتماعي، مثل:
1. التزاوج مع أسر وجاهات دينية تجارية سياسية محلية،
2.التعاون مع التجار اليمنيين الحضارم الذين كانوا يتنافسون في أسواق البحر الأحمر وخليج عدن مع التجار البينيان الهنود الحائزين على ثقة السلطات الاستعمارية في مصوَّع وعدن،
3.التعامل مع السلطات الاستعمارية الإيطالية في مصوَّع ولكن بحذر من أن تستحوذ على ثروته أو تعرقل حركته التجارية.
ومع أن الشركات الإيطالية حاولت في مطلع القرن العشرين اقتحام مجال اصطياد اللؤلؤ وتجارته للاستفادة من أرباحها الكبيرة، وجدت الغوص عملية شاقة، واللؤلؤ غير متاح لمن أراد، بل يحتاج إلى بذل جهود مضاعفة وصبر طويل ومعرفة أسرار البحر ومواقع توفر القواقع المحتوية على اللؤلؤ، واستخراجه وتصفيته وصقله، وهي عمليات صعبة ومكلِّفة كان التجار العرب يعرفون أسرارها، ولذلك أخفقت محاولة الشركات الإيطالية للمنافسة في هذا المجال. كما أن سوق اللؤلؤ العالمي كان قد استقر في باريس وأرسلت الشركات الباريسية المعنية مندوبيها لشراء اللؤلؤ ولم تهتم بالغوص والاصطياد، واكتفت السلطات الاستعمارية الإيطالية بملاحقة تجار اللؤلؤ للحصول على ضرائب مبيعاتهم.
وقد بذل المؤلف الكثير من الجهد للحصول على المراجع والوثائق التي تساعده في إلقاء الضوء على هذه التجربة المميَّزة، وفي دراسة هذا الشخص الأسطوري، الذي لم يكتف بنصيبه مما خلَّف والده من تركة تقسَّمت بين الورثة، بل بنى أسطورته الخاصة التي تجاوزت بكثير ميراث عائلته حتى أصبح أغنى تاجر في مصوَّع وفي إثيوبيا كلها.
ولكي ندرك مدى ما بذل المؤلف من جهود في تحضير هذه الدراسة، يكفي أن نعود إلى قائمة المصادر والمراجع في آخر الرسالة لنعرف أنه لم يكن قد نُشِر عن علي النهاري بالعربية سوى معلومات قليلة في مواقع إريترية، وهي معلومات ذات قيمة أولية محدودة وليست بحوثا تاريخية موثقة وموثوقة، بالإضافة إلى ملحق متواضع في صحيفة القبس الكويتية نُشِر سنة 1967 في تقرير صحفي محدود القيمة وإن ظل بالنظر إلى ندرة المراجع عن موضوع الدراسة سبقا صحفيا نادرا. ولذلك اتَّكأ المؤلف على النصوص التالية المترجمة من اللغات الأجنبية:
ـ رواية "أسرار البحر الأحمر" للمغامر الفرنسي وتاجر اللؤلؤ والسلاح في البحر الأحمر هنري دو منفريد، الذي استمد مادة روايته من مغامراته في البحر الأحمر وقابل علي النهاري. وكما هو متوقع من عمل روائي، تختلط فيه المعلومات بالخيال الروائي لدرجة يصعب التمييز بين الحقيقة والخيال. وقد قرأتُ النص الأصلي لهذه الرواية باللغة الفرنسية، وفحصتُ الفصول الأربعة التي ذكر فيها مَن يسميه (سعيد علي) أو السيد علي، وقال إنه زاره في بيته في قرية جُعملي، في جزيرة صغيرة من أرخبيل دهلك، والتقى ابنه محمد الذي سيصبح وصيه عند وفاته. وتعد هذه الرواية مصدرنا الوحيد عن مشهَد الواحة الجميلة التي تحيط بمنازل علي النهاري في دهلك، وعن الحركة في داخل منزله، ومرضه والعلاج الذي كان يستخدمه وعن وفاته ودفنه، بطريقة تنتمي إلى الخيال الاستشراقي. وبالنظر إلى شح المراجع عن حياة علي النهاري ومرضه وموته، نقلت الرسالة هذه الرواية الموسَّعة التي تسرد بالتفصيل في عدة صفحات مرض النهاري وعلاجه وتسميمه واللحظات الأخيرة في حياته وحَمْل نعشه إلى مثواه الأخير ودفنه في دهلك، وهي تفاصيل تستمد مادتها من الخيال الأسطوري عن الشرق وكنوزه ومؤامراته. لكنه يُورِدُ في الصفحة 185 من الرسالة خبرا قصيرا يقول إن ورثة النهاري يؤكدون أنه دُفِن في مقبرة باجنيد في مصوَّع، وهو ما يوحي بأنه ربما مات ودُفِن في مصوَّع، لأن أبناءه وورثته أعرف بمكان دفن مورِّثهم. وتضيف الرسالة إلى هذا الارتباك احتمال أن المُغامِر الذي كتب الرواية (هنري دو منفريد) ربما كان ضالعا في مؤامرة اغتيال النهاري وأراد بسرد هذه الرواية المفصلة، كأن راويها كان شاهدا على كل الخطوات والمؤامرات، صَرْف النظر عن مسئوليته في قتل النهاري البالغ من العمر اثنين وثمانين سنة، سواء مباشرة عن طريق التواطؤ مع الممرِّض الذي أرسله الطبيب من مصوع ليعمل عند النهاري فحَقنه بجرعة زائدة من مسكِّن الألم (المورفين)، أم قتله البطيء عن طريق إعطائه مسكِّن ألم دون أن يقول له إن هذا العلاج يسبب الإدمان، ويُلحِق أضرارا كبيرة بصحة الشيخ الذي يعاني من مرض السكر لدرجة بتر أحد ساقيه، في وقت لم يكن علاج السكر منتشرا كما هو الآن، مع نقص المعرفة بما لتنظيم الغذاء من أثر في تخفيف معدل السكر في الدم.
ـ واستعان المؤلف كذلك بما كتب جوناثان ميران، وهو أستاذ جامعي أمريكي كتب الكثير عن إريتريا، وله دراسة أكاديمية مهمة عن مصوَّع وضواحيها نُشرت بعنوان "مواطنو البحر الأحمر": Red Sea Citizens
ـ واستعان المؤلف بما استطاع الوصول إليه من الوثائق التي تركها علي النهاري وتتحدث عن تجارته وتعاملاته مع البنوك الأوربية في عدن وباريس عند رحلتيه إلى العاصمة الفرنسية سنة 1907 وسنة 1924، وكل النصوص التي أمكن الاستناد إليها، مثل مشجرات الانساب، ووصية النهاري التي كتبها بخطه سنة 1923، ومرسوم ملكي إيطالي بمنحه وسام نجمة إيطاليا باعتباره "وجيه مصوَّع".
ـ ولكي يسد ما واجه من نقص كبير في المراجع التي تتحدث مباشرة عن موضوع دراسته، أو تذكُرُه بصورة عابرة قد يستفيد منها، أسعفته ثقافته الفقهية وسعة اطلاعه على التراث بالكثير من مصادر التراث، مثل البخاري، ومسلم، والترمذي، والجاحظ، والسيوطي والأصفهاني، ومرتضى الزبيدي وغيرها من كتب الحديث والتاريخ واللغة.
وتَتَبَّع المؤلف قصة الاختفاء الغريب لثروة النهاري الكبيرة بالتدريج. فقد كان في تنافس تجاري شديد مع التجارة التي قدِمت إلى إريتريا بقدوم الاستعمار الإيطالي، وكان أحد أهم من ساهم في إحباط محاولة الشركات الإيطالية التغلغل في تجارة اللؤلؤ. وكان الاستعمار الإيطالي يحاول التوسع التجاري ويبحث في المستعمرات عن مساهمة الثروات المحلية في تمويل بناء إيطاليا. وحاول النهاري تفادي الصدام مع الإيطاليين بتقديم قرض للحاكم الاستعماري الإيطالي في مصوَّع. لكنه تعرض فيما بعد لنقد قاسٍ في الصحافة الإيطالية ومن الحاكم الاستعماري الإيطالي في مصوع، لأنه باعتباره مواطنا إيطاليا يخفي ثروته ويضعها في البنوك الفرنسية وليس في البنوك الإيطالية، ولا يساهم في اقتصاد إيطاليا.
ومع أن النهاري بذل بعض الجهود لتنويع تجارته، ظلت ثروته قائمة أساسا على الغوص واستخراج اللؤلؤ، فأدى نجاح اليابان في زراعة اللؤلؤ إلى تراجع أسعار اللؤلؤ الطبيعي في السوق العالمي بالتدريج حتى انهارت تجارته في البحر الأحمر والخليج العربي في النهاية، وهو ما أسهم في تراجع تجارة النهاري وعدم تواصلها من بعده.
كما أنه كان يمارس التجارة كما مارسها أبوه ومن يتعاون معهم من التجار اليمنيين الحضارم في مصوَّع وعدن، وهي تجارة يقوم بها في الغالب أفراد لهم قدرات غير عادية، وطموحات كبيرة، وترتكز على قيم موروثة مثل الأمانة والثقة واحترام الكلمة المُعطاة والمنافسة التجارية الشريفة. لكنه حين مد نظره إلى أسواق أوروبا المالية والعقارية أصبح يتعامل مع مؤسسات مالية لها مطامع واسعة وتقوم على السجلات والعقود والمحاسبين القانونيين والمستشارين القانونيين والمحامين، ولا يوجد فيها مجال للنوايا الحسنة ولا للتسامح مع المنافسين. وإذا لم تحصِّن نفسك بكل هذه الوسائل الحديثة وتمتلك القدرة والحذر للدفاع عن حقوقك افترستك دون رحمة.
ومع أن النهاري امتلك إيصالات ووثائق حسابات في البنوك وأرقام خزنات أودع فيها كميات كبيرة من اللؤلؤ، وصل وزنها في أحد الإيداعات في بنك باريسي أربعة عشر كيلو جراما من اللؤلؤ الطبيعي، ووضع فيها كذلك عقود العقارات التي اشتراها في باريس ومارسيليا وإيطاليا، فإن عودته إلى مصؤَّع ودهلك، وعدم وجود شركة أو مؤسسة تدير هذه الثروة وتستثمرها في سوق باريس، قبل وجود الانترنت والتجارة الإلكترونية التي تمكِّن رجل الأعمال من إدارة تجارته عن بُعد، قد جعلته يبتعد عن أمواله وأصوله في باريس محتفظا بإيصالات البنوك وأرقام الحسابات وكذلك أرقام الخزنات ومفاتيحها. وقد احتفظ بهذه الوثائق لنفسه، وربما أطلع عليها ابنه محمد الذي عيَّنه وصيا على تجارته من بعده. لكن محمد مات بعد وفاة أبيه بست سنوات. ولا ندري إن كان علي النهاري نفسه أم ابنه قد أخفى كل هذه الوثائق عن أعين الجميع في جدار منزله في مصوَّع إلى أن تم اكتشافها سنة 1967، أي بعد وفاته بخمس وثلاثين سنة، بعد أن كانت عوامل التعرية قد أتت على بعض تفاصيلها، وبعد أن أدت الحرب العالمية الثانية إلى اضطراب العالم وبداية تشكُّله في مرحلة جديدة مختلفة. وزاد الطين بلة، كما يقال، أن أبناء علي النهاري من زوجاته المختلفات قد تصارعوا على اقتسام ما تبقى من تجارته وثروته وممتلكاته العقارية الواسعة في دهلك ومصوَّع. وأدى هذا الصراع إلى فوات فرصة القيام بجهد مشترك لتوكيل محامين مؤهلين لدراسة المستندات وجمع تفاصل اللغز من جديد، وتكوين ملف قانوني مكتمل والتقدم بدعوى أمام القضاء الفرنسي بهدف استعادة ما يمكن استعادته من ثروة النهاري الضائعة. ولم يبق سوى محاولات فردية مشتتة ومتنافرة لم تؤدِّ إلى شيء. ومع أن لجنة مصالحة بين الورثة قد تشكلت مؤخرا، لم تنجح في مساعيها، وكان أهم مقترح تقدمت به جمع توكيلات من الورثة المتصارعين، والمنتشرين في أكثر من مكان وأكثر من بلد، لمحامين يتولون دراسة الملف والتقدم بدعوى أمام القضاء المختص.
والواقع أن هذه الدراسة التي أعدها الأستاذ محمد يحيى النهاري عن علي النهاري تسجل ملحمة مهمة من ملاحم اليمنيين الطامحين الذين أُغلِقت أمامهم أبواب المساهمة في تطوير بلادهم فبحثوا لقدراتهم الكبيرة عن مجالات مواتية للعمل والإنتاج واكتساب الثروة، وصنعوا قصص نجاح كبيرة. لأن علي النهاري كان رجلا استثنائيا امتلك قدرات غير عادية مكنته من بناء ثروته في مجال صعب هو استخراج اللؤلؤ في وجه منافسة كبيرة، ولم يكتف بتجارة اللؤلؤ المتوفر في السوق، بل ركز جهوده على الإنتاج وتنظيم عملية الاستخراج والاستثمار في الغوص والاصطياد، فأفاد واستفاد واكتسب ثروة كبيرة.
وقد تتبَّعت هذه الرسالة مأساة مرضه واحتمال تآمر المنافسين لقتله، على الأقل عن طريق وصف العلاج غير المناسب لحالته الصحية ولسنِّه. لكن القتل الأكبر له ولثروته قد تحقق بتدهور تجارة اللؤلؤ الطبيعي بعد اكتشاف اليابان لزراعة اللؤلؤ بكميات تجارية وبمواصفات تستجيب لاحتياجات سوق اللؤلؤ العالمي، وكذلك افتراس ما أودَع من أموال ولؤلؤ ثمين وما امتلك من عقارات في أوروبا. وبذلك وُضِعت نهاية لهذه الأسطورة التي نشأت وترعرعت في جزر أرخبيل دهلك وفي مصوَّع وفاضت في تلك الفترة المبكرة حتى بلغت فرنسا وإيطاليا. .
المزيد..

تعليقات القرّاء:



سنة النشر : 2024م / 1445هـ .
عداد القراءة: عدد قراءة ملك اللؤلؤ العالمي رجل الأعمال اليمني الشيخ / علي بن عبد الرحمن النهاري.

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:


شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف: