❞ كتاب المرجعية في ضوء السياسة الشرعية ❝  ⏤ طه أحمد الزيدي

❞ كتاب المرجعية في ضوء السياسة الشرعية ❝ ⏤ طه أحمد الزيدي

السياسة الشرعية باب من أبواب العلم والفقه في الدين، وفي قيادة الأمة وتحقيق مصالحها الدينية الدنيوية، جليل القدر عظيم النفع، أفرده جماعة من العلماء بالتصنيف في القديم والحديث، وانتشرت كثير من مباحثه أو مسائلة في بطون كتب التفسير والفقه والتاريخ وشروح الحديث، وهذا الباب خطره عظيم ينتج عن الغلط فيه وعدم الفهم له شر مستطير، والخطأ في التفريط فيه كالخطأ في الإفراط؛ إذ كلاهما يقود إلى نتائج مرذولة غير مقبولة، وقد وضح ذلك شيخ الإسلام ابن القيم فقال:

وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرءوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها .. وأفرطت فيه طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه'

وإدراكًا منَّا لأهمية هذا الباب وموقعه من الدين وحاجة الناس إليه، فقد رأينا أن نجعل له زاوية دورية في المجلة؛ سائلين الله تعالى أن يتحقق المقصود منها، وأن تقوم بالدور المراد منها على الوجه الذي يحب ربنا ويرضى، الله من وراء القصد.

ـ السياسة في النص الشرعي:
لم يرد لفظ 'السياسة' ولا شيء من مادته في كتاب الله سبحانه وتعالى، وإن جاء الحديث فيه عن الصلاح والإصلاح والأمر والنهي والحكم وغير ذلك من المعاني التي اشتمل عليها لفظ 'السياسة'. وإما السنة فقد جاء قوله صلى الله عليه وسلم: 'كادت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي ...'، وقوله صلى الله عليه وسلم: 'تسوسهم الأنبياء'؛ أي: تتولى أمورهم كما يفعل الأمراء والولاة بالرعية'.

ويتبين بما تقدم أن السياسة في الشريعة استخدمت بمعناها اللغوي. وهي تعني:
القيام على شأن الرعية من قِبَل ولاتهم بما يصلحهم من الأمر والنهي والإرشاد والتهذيب، وما يحتاج إليه ذلك من وضع تنظيمات أو ترتيبات إدارية تؤدي إلى تحقيق مصالح الرعية بجلب المنافع أو الأمور الملائمة، ودفع المضار والشرور أو الأمور المنافية.

وهذا التعريف يبرز الجانب العملي للسياسة، فالسياسة هنا إجراءات وأعمال وتصرفات للإصلاح، وعلى ذلك فإن سياسة الرعية تتطلب القدرة على القيادة الحكيمة التي تتمكن من تحقيق الصلاح عن طريق إتقان التدبير وحسن التأتي لما يراد فعله أو تركه، وهذا بدوره يحتاج إلى معرفة تامة بما تتطلبه القيادة والرئاسة من خبرة وحنكة، وقدرة على استعمال واستغلال الإمكانات المتاحة على الوجه الأمثل الذي يتحقق المراد المطلوب.
وقد جاء من كلام أهل العلم عن السياسة ما يدل لذلك، فمن ذلك: قال ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ في بيان السبب الذي من أجله جعل عمر ـ رضي الله عنه ـ أمر الخلافة في الستة الذين اختارهم: 'لم يكن في أهل الإسلام أحد له من المنزلة في الدين والهجرة والسابقة والعقل والعلم، والمعرفة بالسياسة؛ ما للستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم'.

وقال ابن حجر ـ رحمه الله ـ: 'والذي يظهر من سيرة عمر في أمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع منها'، ومما ورد في ذلك أيضًا ما جاء في شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم: 'يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين؛ باب يدخل الناس، وباب يخرجون'، والذي ترجم له البخاري في صحيحه بقوله: باب من ترك بعض الاختيار مخالفة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه'، قال ابن حجر: 'ويستفاد منه أن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم، ولو كان مفضولاً، ما لم يكن محرمًا'.

والسياسة فيما تقدم مجالها رحب فسيح، فهي ليست مقصورة على شيء أو محجوزة عن شيء؛ إذ هي 'القيام على الشيء ـ بما يحمله لفظ الشيء من العموم والشمول، ـ بما يصلحه'، فيعمل بنا كل صاحب ولاية في تدبير أمر ولايته.

ومن أمثلة السياسة في عصر الراشدين ـ رضي الله عنهم ـ ما قام به أبو بكر رضي الله عنه من استخلافه لعمر رضي الله عنه، وما قام به عمر من جعل أمر الخلافة شورى في ستة من أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رعاية لمصلحة الأمة وتجنيبها مضرة الاختلاف، ومن ذلك جمع عثمان رضي الله عنه المسلمين على مصحف واحد، وإحراق ما سواه من المصاحف؛ لأن ذلك يحقق المصلحة من الائتلاف والاتفاق، ويدفع مضرة التفرق والاختلاف، وكذلك ما أمر به عثمان من إمساك ضوال الإبل لما ضعفت الأمانة، وصار تركها مضيعًا لها على أصحابها، ومن ذلك نفي عمر بن الخطاب لنصر بن حجاج لما افتتنت بعض النساء بجماله ـ من غير ذنب أتاه ـ لما كان في ذلك تحقيق مصلحة العفة والطهارة، ودفع مضرة تعلق القلوب به، ومن أمثلة ما تلاهم من عصور تسعير السلع التي يضطر إليها الناس إذا تمالأ التجار على رفع سعرها بغير مسوغ يدعو لذلك، فكان في التسعير دفع مضرة الظلم عن الرعية من غير ظلم للتجار، والأمثلة في هذا كثيرة، والجامع بينها تحقيق المصلحة ودفع المضرة من غير مخالفة للشريعة.

ـ السياسة عند الفقهاء:
هناك اتجاهان عند الفقهاء في نظرتهم للسياسة:
الاتجاه الأول:
ويمثله قول أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي: 'السياسة ما كان من الأفعال؛ بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي'، وقد قيده بقوله: 'ما لم يخالف ما نطق به الوحي' وعلى هذا النحو يحمل كلام ابن نجيم الحنفي، حيث يقول في باب حد الزنا: 'وظاهر كلامهم هاهنا أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي'، وكلام ابن نجيم يحتمل أن يصيب في الاتجاه الثاني كما يأتي، وكلام ابن عقيل أدق منه وأسد؛ لأنه قيد تحقيق المصالح ودرء المفاسد بعدم مخالفة الشريعة، وقد يكون هذا أيضًا مراد ابن نجيم، لكن عبارته قصرت عن ذلك، وهذا الاتجاه موافق لما تقدم ذكره من أمثلة السياسة.

والاتجاه الثاني:
وهو اتجاه يضيق مجال السياسة ويحصرها في باب الجنايات أو العقوبات المغلظة، وقد تجعل أحيانًا مرادفة التعزير، وهذا الاتجاه غالب على الفقه الحنفي في نظرته للسياسة، قال علاء الدين الطرابلسي الحنفي: 'السياسة شرع مغلظ'.

وقد 'نقل العلامة ابن عابدين ـ الحنفي ـ عن كتب المذهب: أن السياسة تجوز في كل جناية والرأي فيها إلى الإمام، كقتل مبتدع يتوهم منه انتشار بدعته وإن لم يحكم بكفره .. ولذا عرفها بعضهم بأنها تغليط جناية لها حكم شرعي حسمًا لمادة الفساد، وقوله: لها حكم شرعي معناه أنها داخلة تحت وقاعد الشرع وإن لم ينص عليها بخصوصه .. ولذا قال في البحر: ظاهر كلامهم أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي'.

وقال بعض علماء الحنفية: 'والظاهر أن السياسة والتعزيز مترادفان، ولذا عطفوا أحدهما على الآخر لبيان التفسير كما وقع في الهداية والزيلعي وغيرهما'.

وتضييق هذا الاتجاه لمعنى السياسة وحصرها فيما حصرها فيه ليس بسديد؛ 'إذ السياسة قد تكون بغير التغليظ، وبغير العقوبة، وقد تكون بتخفيف العقوبة أو تأجيلها أو إسقاطها إذا وجدت موجبات التخفيف أو الإسقاط، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين مع علمه بأعيانهم لما يترتب على ذلك من المفسدة، وقال: 'لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه'، وترك تأديب أو تعنيف الأعرابي الذي بال في المسجد تقديرًا لظروف بداوته وجهله، ونهى عن قطع الأيدي أو إقامة الحد في الغزو تأخيرًا للحد لمصلحة راجحة؛ إما لحاجة المسلمين إليه، أو خوف اللحاق بالمشركين'.

وأيضًا فإن عهد أبي بكر لعمر بالخلافة، وكذلك جعلها عمر شورى في ستة من الصحابة، وعمل عمر الديوان، وجمع عثمان للمصحف الإمام وتحريق ما عداه ليس من العقوبة في شيء.

ـ السياسة الشرعية:
تنقسم السياسة بحسب مصدرها على قسمين كبيرين: سياسة دينية، وسياسة عقلية، وقد بين ذلك ابن خًُلدون عندما تحدث عن وجوب وجود قوانين سياسية مفروضة في الدولة يسلم بها الكافة، فقال: 'فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت سياسة عقلية، وإن كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية'.

وانطلاقًا من تقسيم ابن خُلدون للسياسة؛ فإنه بين أنواع النظم السياسية القائمة عليه، فيقول: 'الملك السياسي: هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها'.

وابن خلدون رحمه الله في حديثه عن القوانين السياسية يبرز الجانب الكلي أو المعياري لها بوصفها تشريعات ضابطة أو حاكمة، وحديثه في هذا المجال يقترب من الحديث عن 'الأحكام السلطانية'.

ومن هنا ومما تقدم يتبين أن للسياسة جانبين: أحدهما معياري كلي 'تأصيلي'، والآخر عملي تطبيقي، والسياسة الشرعية ما كانت مراعية للشرع في الجانبي، تلتزم به وتتقيد، ولا تخرج عنه.

والذي يظهر لي أن عبارة 'السياسة الشرعية' لم تكن مقيدة أولاً بقيد 'الشرعية'؛ انطلاقًا من أن السياسة هي الإصلاح، ولا إصلاح حقيقيًا إلا بالشرع، فكان إطلاق لفظ 'السياسة' بدون قيد كافيًا في إفادة المطلوب من عبارة 'السياسة الشرعية'، ثم مع ضعف العلم وعدم الفقه الجيد لسياسة الرسول صلى الله عليه وسلم عند الولاة وعند من تقلد لهم القضاء؛ صارت 'السياسة' تخالف الشرع، فاحتيج إلى تقييد السياسة بالشرعية لإخراج تلك السياسة الظالمة من حد القبول، وتسمى السياسة الشرعية أحيانًا بالسياسة العادلة. وقد تحدث شيخ الإسلام عن هذا التغيير الحاصل في السياسة وبَيَّن سببه، فقال:

'لما صارت الخلافة في ولد العباس، واحتاجوا إلى سياسة الناس وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافيًا في السياسة العادلة؛ احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال: الشرع والسياسة ... والسبب في ذلك أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصروا في معرفة السنة، فصارت أمور كثيرة إذا حكموا ضيعوا الحقوق، وعطلوا الحدود، حتى تسفك الدماء، وتؤخذ الأموال وتستباح المحرمات، والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوع من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسنة'.

ويقول ابن القيم رحمه الله: 'ومن له ذوق في الشريعة، وإطلاع على كمالاتها، وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها، وأن من له معرفة بمقاصدها ووضعها، وحسن فهمه فيها؛ لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة، فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الشرعية، علمها من علمها وجهلها من جهلها'، إلى أن يقول: 'فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعًا لمصطلحهم، وإنما هي عدل الله ورسوله'.
طه أحمد الزيدي - ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ المرجعية الإعلامية في الإسلام ❝ ❞ المرجعية في ضوء السياسة الشرعية ❝ ❞ معجم مصطلحات الدعوة والإعلام الإسلامي عربي إنجليزي ❝ الناشرين : ❞ دار النفائس للنشر والتوزيع ❝ ❱
من كتب السياسة الشرعية كتب إسلامية متنوعة - مكتبة الكتب والموسوعات العامة.

نبذة عن الكتاب:
المرجعية في ضوء السياسة الشرعية

السياسة الشرعية باب من أبواب العلم والفقه في الدين، وفي قيادة الأمة وتحقيق مصالحها الدينية الدنيوية، جليل القدر عظيم النفع، أفرده جماعة من العلماء بالتصنيف في القديم والحديث، وانتشرت كثير من مباحثه أو مسائلة في بطون كتب التفسير والفقه والتاريخ وشروح الحديث، وهذا الباب خطره عظيم ينتج عن الغلط فيه وعدم الفهم له شر مستطير، والخطأ في التفريط فيه كالخطأ في الإفراط؛ إذ كلاهما يقود إلى نتائج مرذولة غير مقبولة، وقد وضح ذلك شيخ الإسلام ابن القيم فقال:

وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرءوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها .. وأفرطت فيه طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه'

وإدراكًا منَّا لأهمية هذا الباب وموقعه من الدين وحاجة الناس إليه، فقد رأينا أن نجعل له زاوية دورية في المجلة؛ سائلين الله تعالى أن يتحقق المقصود منها، وأن تقوم بالدور المراد منها على الوجه الذي يحب ربنا ويرضى، الله من وراء القصد.

ـ السياسة في النص الشرعي:
لم يرد لفظ 'السياسة' ولا شيء من مادته في كتاب الله سبحانه وتعالى، وإن جاء الحديث فيه عن الصلاح والإصلاح والأمر والنهي والحكم وغير ذلك من المعاني التي اشتمل عليها لفظ 'السياسة'. وإما السنة فقد جاء قوله صلى الله عليه وسلم: 'كادت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي ...'، وقوله صلى الله عليه وسلم: 'تسوسهم الأنبياء'؛ أي: تتولى أمورهم كما يفعل الأمراء والولاة بالرعية'.

ويتبين بما تقدم أن السياسة في الشريعة استخدمت بمعناها اللغوي. وهي تعني:
القيام على شأن الرعية من قِبَل ولاتهم بما يصلحهم من الأمر والنهي والإرشاد والتهذيب، وما يحتاج إليه ذلك من وضع تنظيمات أو ترتيبات إدارية تؤدي إلى تحقيق مصالح الرعية بجلب المنافع أو الأمور الملائمة، ودفع المضار والشرور أو الأمور المنافية.

وهذا التعريف يبرز الجانب العملي للسياسة، فالسياسة هنا إجراءات وأعمال وتصرفات للإصلاح، وعلى ذلك فإن سياسة الرعية تتطلب القدرة على القيادة الحكيمة التي تتمكن من تحقيق الصلاح عن طريق إتقان التدبير وحسن التأتي لما يراد فعله أو تركه، وهذا بدوره يحتاج إلى معرفة تامة بما تتطلبه القيادة والرئاسة من خبرة وحنكة، وقدرة على استعمال واستغلال الإمكانات المتاحة على الوجه الأمثل الذي يتحقق المراد المطلوب.
وقد جاء من كلام أهل العلم عن السياسة ما يدل لذلك، فمن ذلك: قال ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ في بيان السبب الذي من أجله جعل عمر ـ رضي الله عنه ـ أمر الخلافة في الستة الذين اختارهم: 'لم يكن في أهل الإسلام أحد له من المنزلة في الدين والهجرة والسابقة والعقل والعلم، والمعرفة بالسياسة؛ ما للستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم'.

وقال ابن حجر ـ رحمه الله ـ: 'والذي يظهر من سيرة عمر في أمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع منها'، ومما ورد في ذلك أيضًا ما جاء في شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم: 'يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين؛ باب يدخل الناس، وباب يخرجون'، والذي ترجم له البخاري في صحيحه بقوله: باب من ترك بعض الاختيار مخالفة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه'، قال ابن حجر: 'ويستفاد منه أن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم، ولو كان مفضولاً، ما لم يكن محرمًا'.

والسياسة فيما تقدم مجالها رحب فسيح، فهي ليست مقصورة على شيء أو محجوزة عن شيء؛ إذ هي 'القيام على الشيء ـ بما يحمله لفظ الشيء من العموم والشمول، ـ بما يصلحه'، فيعمل بنا كل صاحب ولاية في تدبير أمر ولايته.

ومن أمثلة السياسة في عصر الراشدين ـ رضي الله عنهم ـ ما قام به أبو بكر رضي الله عنه من استخلافه لعمر رضي الله عنه، وما قام به عمر من جعل أمر الخلافة شورى في ستة من أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رعاية لمصلحة الأمة وتجنيبها مضرة الاختلاف، ومن ذلك جمع عثمان رضي الله عنه المسلمين على مصحف واحد، وإحراق ما سواه من المصاحف؛ لأن ذلك يحقق المصلحة من الائتلاف والاتفاق، ويدفع مضرة التفرق والاختلاف، وكذلك ما أمر به عثمان من إمساك ضوال الإبل لما ضعفت الأمانة، وصار تركها مضيعًا لها على أصحابها، ومن ذلك نفي عمر بن الخطاب لنصر بن حجاج لما افتتنت بعض النساء بجماله ـ من غير ذنب أتاه ـ لما كان في ذلك تحقيق مصلحة العفة والطهارة، ودفع مضرة تعلق القلوب به، ومن أمثلة ما تلاهم من عصور تسعير السلع التي يضطر إليها الناس إذا تمالأ التجار على رفع سعرها بغير مسوغ يدعو لذلك، فكان في التسعير دفع مضرة الظلم عن الرعية من غير ظلم للتجار، والأمثلة في هذا كثيرة، والجامع بينها تحقيق المصلحة ودفع المضرة من غير مخالفة للشريعة.

ـ السياسة عند الفقهاء:
هناك اتجاهان عند الفقهاء في نظرتهم للسياسة:
الاتجاه الأول:
ويمثله قول أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي: 'السياسة ما كان من الأفعال؛ بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي'، وقد قيده بقوله: 'ما لم يخالف ما نطق به الوحي' وعلى هذا النحو يحمل كلام ابن نجيم الحنفي، حيث يقول في باب حد الزنا: 'وظاهر كلامهم هاهنا أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي'، وكلام ابن نجيم يحتمل أن يصيب في الاتجاه الثاني كما يأتي، وكلام ابن عقيل أدق منه وأسد؛ لأنه قيد تحقيق المصالح ودرء المفاسد بعدم مخالفة الشريعة، وقد يكون هذا أيضًا مراد ابن نجيم، لكن عبارته قصرت عن ذلك، وهذا الاتجاه موافق لما تقدم ذكره من أمثلة السياسة.

والاتجاه الثاني:
وهو اتجاه يضيق مجال السياسة ويحصرها في باب الجنايات أو العقوبات المغلظة، وقد تجعل أحيانًا مرادفة التعزير، وهذا الاتجاه غالب على الفقه الحنفي في نظرته للسياسة، قال علاء الدين الطرابلسي الحنفي: 'السياسة شرع مغلظ'.

وقد 'نقل العلامة ابن عابدين ـ الحنفي ـ عن كتب المذهب: أن السياسة تجوز في كل جناية والرأي فيها إلى الإمام، كقتل مبتدع يتوهم منه انتشار بدعته وإن لم يحكم بكفره .. ولذا عرفها بعضهم بأنها تغليط جناية لها حكم شرعي حسمًا لمادة الفساد، وقوله: لها حكم شرعي معناه أنها داخلة تحت وقاعد الشرع وإن لم ينص عليها بخصوصه .. ولذا قال في البحر: ظاهر كلامهم أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي'.

وقال بعض علماء الحنفية: 'والظاهر أن السياسة والتعزيز مترادفان، ولذا عطفوا أحدهما على الآخر لبيان التفسير كما وقع في الهداية والزيلعي وغيرهما'.

وتضييق هذا الاتجاه لمعنى السياسة وحصرها فيما حصرها فيه ليس بسديد؛ 'إذ السياسة قد تكون بغير التغليظ، وبغير العقوبة، وقد تكون بتخفيف العقوبة أو تأجيلها أو إسقاطها إذا وجدت موجبات التخفيف أو الإسقاط، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين مع علمه بأعيانهم لما يترتب على ذلك من المفسدة، وقال: 'لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه'، وترك تأديب أو تعنيف الأعرابي الذي بال في المسجد تقديرًا لظروف بداوته وجهله، ونهى عن قطع الأيدي أو إقامة الحد في الغزو تأخيرًا للحد لمصلحة راجحة؛ إما لحاجة المسلمين إليه، أو خوف اللحاق بالمشركين'.

وأيضًا فإن عهد أبي بكر لعمر بالخلافة، وكذلك جعلها عمر شورى في ستة من الصحابة، وعمل عمر الديوان، وجمع عثمان للمصحف الإمام وتحريق ما عداه ليس من العقوبة في شيء.

ـ السياسة الشرعية:
تنقسم السياسة بحسب مصدرها على قسمين كبيرين: سياسة دينية، وسياسة عقلية، وقد بين ذلك ابن خًُلدون عندما تحدث عن وجوب وجود قوانين سياسية مفروضة في الدولة يسلم بها الكافة، فقال: 'فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت سياسة عقلية، وإن كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية'.

وانطلاقًا من تقسيم ابن خُلدون للسياسة؛ فإنه بين أنواع النظم السياسية القائمة عليه، فيقول: 'الملك السياسي: هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها'.

وابن خلدون رحمه الله في حديثه عن القوانين السياسية يبرز الجانب الكلي أو المعياري لها بوصفها تشريعات ضابطة أو حاكمة، وحديثه في هذا المجال يقترب من الحديث عن 'الأحكام السلطانية'.

ومن هنا ومما تقدم يتبين أن للسياسة جانبين: أحدهما معياري كلي 'تأصيلي'، والآخر عملي تطبيقي، والسياسة الشرعية ما كانت مراعية للشرع في الجانبي، تلتزم به وتتقيد، ولا تخرج عنه.

والذي يظهر لي أن عبارة 'السياسة الشرعية' لم تكن مقيدة أولاً بقيد 'الشرعية'؛ انطلاقًا من أن السياسة هي الإصلاح، ولا إصلاح حقيقيًا إلا بالشرع، فكان إطلاق لفظ 'السياسة' بدون قيد كافيًا في إفادة المطلوب من عبارة 'السياسة الشرعية'، ثم مع ضعف العلم وعدم الفقه الجيد لسياسة الرسول صلى الله عليه وسلم عند الولاة وعند من تقلد لهم القضاء؛ صارت 'السياسة' تخالف الشرع، فاحتيج إلى تقييد السياسة بالشرعية لإخراج تلك السياسة الظالمة من حد القبول، وتسمى السياسة الشرعية أحيانًا بالسياسة العادلة. وقد تحدث شيخ الإسلام عن هذا التغيير الحاصل في السياسة وبَيَّن سببه، فقال:

'لما صارت الخلافة في ولد العباس، واحتاجوا إلى سياسة الناس وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافيًا في السياسة العادلة؛ احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال: الشرع والسياسة ... والسبب في ذلك أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصروا في معرفة السنة، فصارت أمور كثيرة إذا حكموا ضيعوا الحقوق، وعطلوا الحدود، حتى تسفك الدماء، وتؤخذ الأموال وتستباح المحرمات، والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوع من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسنة'.

ويقول ابن القيم رحمه الله: 'ومن له ذوق في الشريعة، وإطلاع على كمالاتها، وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها، وأن من له معرفة بمقاصدها ووضعها، وحسن فهمه فيها؛ لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة، فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الشرعية، علمها من علمها وجهلها من جهلها'، إلى أن يقول: 'فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعًا لمصطلحهم، وإنما هي عدل الله ورسوله'. .
المزيد..

تعليقات القرّاء:

 

السياسة الشرعية باب من أبواب العلم والفقه في الدين، وفي قيادة الأمة وتحقيق مصالحها الدينية الدنيوية، جليل القدر عظيم النفع، أفرده جماعة من العلماء بالتصنيف في القديم والحديث، وانتشرت كثير من مباحثه أو مسائلة في بطون كتب التفسير والفقه والتاريخ وشروح الحديث، وهذا الباب خطره عظيم ينتج عن الغلط فيه وعدم الفهم له شر مستطير، والخطأ في التفريط فيه كالخطأ في الإفراط؛ إذ كلاهما يقود إلى نتائج مرذولة غير مقبولة، وقد وضح ذلك شيخ الإسلام ابن القيم فقال: 

وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرءوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها .. وأفرطت فيه طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه'

وإدراكًا منَّا لأهمية هذا الباب وموقعه من الدين وحاجة الناس إليه، فقد رأينا أن نجعل له زاوية دورية في المجلة؛ سائلين الله تعالى أن يتحقق المقصود منها، وأن تقوم بالدور المراد منها على الوجه الذي يحب ربنا ويرضى، الله من وراء القصد.

ـ السياسة في النص الشرعي:
لم يرد لفظ 'السياسة' ولا شيء من مادته في كتاب الله سبحانه وتعالى، وإن جاء الحديث فيه عن الصلاح والإصلاح والأمر والنهي والحكم وغير ذلك من المعاني التي اشتمل عليها لفظ 'السياسة'. وإما السنة فقد جاء قوله صلى الله عليه وسلم: 'كادت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي ...'، وقوله صلى الله عليه وسلم: 'تسوسهم الأنبياء'؛ أي: تتولى أمورهم كما يفعل الأمراء والولاة بالرعية'.

ويتبين بما تقدم أن السياسة في الشريعة استخدمت بمعناها اللغوي. وهي تعني:
القيام على شأن الرعية من قِبَل ولاتهم بما يصلحهم من الأمر والنهي والإرشاد والتهذيب، وما يحتاج إليه ذلك من وضع تنظيمات أو ترتيبات إدارية تؤدي إلى تحقيق مصالح الرعية بجلب المنافع أو الأمور الملائمة، ودفع المضار والشرور أو الأمور المنافية.

وهذا التعريف يبرز الجانب العملي للسياسة، فالسياسة هنا إجراءات وأعمال وتصرفات للإصلاح، وعلى ذلك فإن سياسة الرعية تتطلب القدرة على القيادة الحكيمة التي تتمكن من تحقيق الصلاح عن طريق إتقان التدبير وحسن التأتي لما يراد فعله أو تركه، وهذا بدوره يحتاج إلى معرفة تامة بما تتطلبه القيادة والرئاسة من خبرة وحنكة، وقدرة على استعمال واستغلال الإمكانات المتاحة على الوجه الأمثل الذي يتحقق المراد المطلوب.
وقد جاء من كلام أهل العلم عن السياسة ما يدل لذلك، فمن ذلك: قال ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ في بيان السبب الذي من أجله جعل عمر ـ رضي الله عنه ـ أمر الخلافة في الستة الذين اختارهم: 'لم يكن في أهل الإسلام أحد له من المنزلة في الدين والهجرة والسابقة والعقل والعلم، والمعرفة بالسياسة؛ ما للستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم'.

وقال ابن حجر ـ رحمه الله ـ: 'والذي يظهر من سيرة عمر في أمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع منها'، ومما ورد في ذلك أيضًا ما جاء في شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم: 'يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين؛ باب يدخل الناس، وباب يخرجون'، والذي ترجم له البخاري في صحيحه بقوله: باب من ترك بعض الاختيار مخالفة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه'، قال ابن حجر: 'ويستفاد منه أن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم، ولو كان مفضولاً، ما لم يكن محرمًا'.

والسياسة فيما تقدم مجالها رحب فسيح، فهي ليست مقصورة على شيء أو محجوزة عن شيء؛ إذ هي 'القيام على الشيء ـ بما يحمله لفظ الشيء من العموم والشمول، ـ بما يصلحه'، فيعمل بنا كل صاحب ولاية في تدبير أمر ولايته.

ومن أمثلة السياسة في عصر الراشدين ـ رضي الله عنهم ـ ما قام به أبو بكر رضي الله عنه من استخلافه لعمر رضي الله عنه، وما قام به عمر من جعل أمر الخلافة شورى في ستة من أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رعاية لمصلحة الأمة وتجنيبها مضرة الاختلاف، ومن ذلك جمع عثمان رضي الله عنه المسلمين على مصحف واحد، وإحراق ما سواه من المصاحف؛ لأن ذلك يحقق المصلحة من الائتلاف والاتفاق، ويدفع مضرة التفرق والاختلاف، وكذلك ما أمر به عثمان من إمساك ضوال الإبل لما ضعفت الأمانة، وصار تركها مضيعًا لها على أصحابها، ومن ذلك نفي عمر بن الخطاب لنصر بن حجاج لما افتتنت بعض النساء بجماله ـ من غير ذنب أتاه ـ لما كان في ذلك تحقيق مصلحة العفة والطهارة، ودفع مضرة تعلق القلوب به، ومن أمثلة ما تلاهم من عصور تسعير السلع التي يضطر إليها الناس إذا تمالأ التجار على رفع سعرها بغير مسوغ يدعو لذلك، فكان في التسعير دفع مضرة الظلم عن الرعية من غير ظلم للتجار، والأمثلة في هذا كثيرة، والجامع بينها تحقيق المصلحة ودفع المضرة من غير مخالفة للشريعة.

ـ السياسة عند الفقهاء:
هناك اتجاهان عند الفقهاء في نظرتهم للسياسة:
الاتجاه الأول:
ويمثله قول أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي: 'السياسة ما كان من الأفعال؛ بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي'، وقد قيده بقوله: 'ما لم يخالف ما نطق به الوحي' وعلى هذا النحو يحمل كلام ابن نجيم الحنفي، حيث يقول في باب حد الزنا: 'وظاهر كلامهم هاهنا أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي'، وكلام ابن نجيم يحتمل أن يصيب في الاتجاه الثاني كما يأتي، وكلام ابن عقيل أدق منه وأسد؛ لأنه قيد تحقيق المصالح ودرء المفاسد بعدم مخالفة الشريعة، وقد يكون هذا أيضًا مراد ابن نجيم، لكن عبارته قصرت عن ذلك، وهذا الاتجاه موافق لما تقدم ذكره من أمثلة السياسة.

والاتجاه الثاني:
وهو اتجاه يضيق مجال السياسة ويحصرها في باب الجنايات أو العقوبات المغلظة، وقد تجعل أحيانًا مرادفة التعزير، وهذا الاتجاه غالب على الفقه الحنفي في نظرته للسياسة، قال علاء الدين الطرابلسي الحنفي: 'السياسة شرع مغلظ'.

وقد 'نقل العلامة ابن عابدين ـ الحنفي ـ عن كتب المذهب: أن السياسة تجوز في كل جناية والرأي فيها إلى الإمام، كقتل مبتدع يتوهم منه انتشار بدعته وإن لم يحكم بكفره .. ولذا عرفها بعضهم بأنها تغليط جناية لها حكم شرعي حسمًا لمادة الفساد، وقوله: لها حكم شرعي معناه أنها داخلة تحت وقاعد الشرع وإن لم ينص عليها بخصوصه .. ولذا قال في البحر: ظاهر كلامهم أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي'.

وقال بعض علماء الحنفية: 'والظاهر أن السياسة والتعزيز مترادفان، ولذا عطفوا أحدهما على الآخر لبيان التفسير كما وقع في الهداية والزيلعي وغيرهما'.

وتضييق هذا الاتجاه لمعنى السياسة وحصرها فيما حصرها فيه ليس بسديد؛ 'إذ السياسة قد تكون بغير التغليظ، وبغير العقوبة، وقد تكون بتخفيف العقوبة أو تأجيلها أو إسقاطها إذا وجدت موجبات التخفيف أو الإسقاط، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين مع علمه بأعيانهم لما يترتب على ذلك من المفسدة، وقال: 'لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه'، وترك تأديب أو تعنيف الأعرابي الذي بال في المسجد تقديرًا لظروف بداوته وجهله، ونهى عن قطع الأيدي أو إقامة الحد في الغزو تأخيرًا للحد لمصلحة راجحة؛ إما لحاجة المسلمين إليه، أو خوف اللحاق بالمشركين'.

وأيضًا فإن عهد أبي بكر لعمر بالخلافة، وكذلك جعلها عمر شورى في ستة من الصحابة، وعمل عمر الديوان، وجمع عثمان للمصحف الإمام وتحريق ما عداه ليس من العقوبة في شيء.

ـ السياسة الشرعية:
تنقسم السياسة بحسب مصدرها على قسمين كبيرين: سياسة دينية، وسياسة عقلية، وقد بين ذلك ابن خًُلدون عندما تحدث عن وجوب وجود قوانين سياسية مفروضة في الدولة يسلم بها الكافة، فقال: 'فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت سياسة عقلية، وإن كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية'.

وانطلاقًا من تقسيم ابن خُلدون للسياسة؛ فإنه بين أنواع النظم السياسية القائمة عليه، فيقول: 'الملك السياسي: هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها'.

وابن خلدون رحمه الله في حديثه عن القوانين السياسية يبرز الجانب الكلي أو المعياري لها بوصفها تشريعات ضابطة أو حاكمة، وحديثه في هذا المجال يقترب من الحديث عن 'الأحكام السلطانية'.

ومن هنا ومما تقدم يتبين أن للسياسة جانبين: أحدهما معياري كلي 'تأصيلي'، والآخر عملي تطبيقي، والسياسة الشرعية ما كانت مراعية للشرع في الجانبي، تلتزم به وتتقيد، ولا تخرج عنه.

والذي يظهر لي أن عبارة 'السياسة الشرعية' لم تكن مقيدة أولاً بقيد 'الشرعية'؛ انطلاقًا من أن السياسة هي الإصلاح، ولا إصلاح حقيقيًا إلا بالشرع، فكان إطلاق لفظ 'السياسة' بدون قيد كافيًا في إفادة المطلوب من عبارة 'السياسة الشرعية'، ثم مع ضعف العلم وعدم الفقه الجيد لسياسة الرسول صلى الله عليه وسلم عند الولاة وعند من تقلد لهم القضاء؛ صارت 'السياسة' تخالف الشرع، فاحتيج إلى تقييد السياسة بالشرعية لإخراج تلك السياسة الظالمة من حد القبول، وتسمى السياسة الشرعية أحيانًا بالسياسة العادلة. وقد تحدث شيخ الإسلام عن هذا التغيير الحاصل في السياسة وبَيَّن سببه، فقال:

 'لما صارت الخلافة في ولد العباس، واحتاجوا إلى سياسة الناس وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافيًا في السياسة العادلة؛ احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال: الشرع والسياسة ... والسبب في ذلك أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصروا في معرفة السنة، فصارت أمور كثيرة إذا حكموا ضيعوا الحقوق، وعطلوا الحدود، حتى تسفك الدماء، وتؤخذ الأموال وتستباح المحرمات، والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوع من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسنة'.

ويقول ابن القيم رحمه الله: 'ومن له ذوق في الشريعة، وإطلاع على كمالاتها، وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها، وأن من له معرفة بمقاصدها ووضعها، وحسن فهمه فيها؛ لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة، فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الشرعية، علمها من علمها وجهلها من جهلها'، إلى أن يقول: 'فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعًا لمصطلحهم، وإنما هي عدل الله ورسوله'.

المرجعية في ضوء السياسة الشرعية من السياسة الشرعية والأحكام السلطانية تحميل مباشر :
 



حجم الكتاب عند التحميل : 4.3 ميجا بايت .
نوع الكتاب : pdf.
عداد القراءة: عدد قراءة المرجعية في ضوء السياسة الشرعية

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل المرجعية في ضوء السياسة الشرعية
شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

برنامج تشغيل ملفات pdfقبل تحميل الكتاب ..
يجب ان يتوفر لديكم برنامج تشغيل وقراءة ملفات pdf
يمكن تحميلة من هنا 'http://get.adobe.com/reader/'

المؤلف:
طه أحمد الزيدي -

كتب طه أحمد الزيدي ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ المرجعية الإعلامية في الإسلام ❝ ❞ المرجعية في ضوء السياسة الشرعية ❝ ❞ معجم مصطلحات الدعوة والإعلام الإسلامي عربي إنجليزي ❝ الناشرين : ❞ دار النفائس للنشر والتوزيع ❝ ❱. المزيد..

كتب طه أحمد الزيدي