❞ كتاب أهداف الحوار مع الغرب ومحاذيره ❝  ⏤ سعد بن محمد الشهراني

❞ كتاب أهداف الحوار مع الغرب ومحاذيره ❝ ⏤ سعد بن محمد الشهراني

قال الله تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير). الحجرات 13.

تشير هذه الآية الكريمة إلى حكمة الله البالغة في التنوع الجنسي للبشر بين ذكر وأنثى لضرورة استمرار النوع البشري، والتنوع العرفي. فتعدد الشعوب والقبائل ليتعارفوا فيما بينهم ويتعاونوا على استخراج كنوز الأرض، ويقوم بينهم التنافس الشريف فتبرز المواهب وتظهر الطاقات وتتعدد التقاليد والعادات وتتنوع المفاهيم والثقافات.

كما زود الله سبحانه عباده بالعقل والعلم، وأمرهم بلغة الحوار والخطاب لتكون وسيلة التعارف والتفاهم فيما بينهم.

من هنا كان الحوار بين الناس بمختلف أجناسهم وأعراقهم ضرورة بشرية تؤدي بهم إلى التعرف على نيات بعضهم البعض، والاتفاق على أسلوب التعامل واسس التعاون ونبذ التنازع والصراع فيما بينهم.

وقد ساق التفاهم بين أفراد الجنس البشري إلى قيام المجتمعات المتجاورة، وتعقد العلاقات بينهما مما زاد في أهمية الحوار، وأرسى كثيراً من الأسس التي ينبغي أن يقوم عليها، وغدا الحوار ضرورة اجتماعية وإنسانية لا غنى عنها ولا يمكن أن يقوم تفاهم وتعارف وتعاون بدونه.

الإسلام والحوار
ولا شك أن أفضل الأسس اللازمة للحوار هي ما جاءت بها الأديان، التي قدمت للبشرية مفاهيم الاخوة والتعاون والإحسان والحرية والعدالة والمساواة، وربطت كل تلك المفاهيم بالإيمان بوحدانية الخالق ووحدة الجنس البشري مهما تعددت القبائل والشعوب وتنوعت المجتمعات.

(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء) النساء: 1.

إن وحدة النوع البشري التي رسختها الأديان، استلزمت توسيع دائرة التعارف والتفاهم والتعاون، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالحوار المستمر، وكلما تعقدت العلاقات، وتنوعت المصالح، ازدادت أهمية الحوار لاستمرار التعاون، ودفع أسباب التنازع ودواعي الصراع.

ولم يصدع هذا الحوار ويقف دون استمرار التفاهم والتعاون، إلا طغيان الأهواء الناجمة عن ضعف الإيمان. لذلك كانت رسالة جميع الأنبياء إرساء دواعي الإيمان، والدعوة إلى التوحيد، والتذكير بوحدة الجنس البشري.

إن التركيز على هذه الأسس ضروري في كل زمان ومكان، فهي الجسر القوي الراسخ، الذي يعبر منه جميع الناس إلى التفاهم والتعاون، وعليه تقوم الأسس السليمة للحوار الجاد النافع.

ومن هنا فإن الإسلام ـ باعتباره استمراراً للأديان السابقة وختاماً لها ـ قد أسس للحوار بنيانا شامخا، وأقام له كياناً سامقاً وشاناً رفيعا، وجعله ركنا مهماً لقيام المجتمع العالمي المسلم وعلاقته بالمجتمعات الإنسانية الأخرى.

نلمس ذلك مما تضمنه القرآن الكريم من حوارات عملية بمختلف المستويات وفي شتى المجالات، حوارات الخالق مع خلقه، ومع أنبيائه، وحوارات الأنبياء مع أقوامهم، وحوارات الأفراد فيما بينهم.

والقرآن الكريم بحد ذاته حوار عملي مع البشرية جمعاء في كل زمان ومكان، يخاطب الناس جميعاً ليذكرهم بخالقهم ومربيهم، ورازقهم وحافظهم، والذي هو مصدر كل المواهب والطاقات التي يتمتعون بها في أنفسهم، مصدر كل الخيرات والنعم التي يحصدونها من الطبيعة التي تحيط بهم.

يذكرهم بربهم ويدعوهم بأسلوب فريد إلى الإيمان به وتوحيده، والتوجه إليه بالشكر والطاعة والعبادة، دون قهر أو إكراه، بل بمطلق الحرية الشخصية والقناعة العقلية واليقين القلبي، الإرادة الخاصة التي لا سيطرة لأحد عليها، ولا حق لأحد بالتسلط عليها.

ورغم أن جوهر الإسلام يتلألأ في أركان ثلاثة:

ـ الإيمان بالخالق (العقيدة السليمة).

ـ العروج إلى الخالق (العبادة الصحيحة).

ـ الإحسان إلى الخلق (السلوك الحسن).

فما أن تظلك مظلة الإسلام حتى تجد نفسك سابحاً في فضاء واسع من جمال الله وجلاله، قد صفا قلبك، واطمأن فؤادك، وهدأت في جوانحك رياح الآلهة المزعومة، واستراحت جوارحك من نصب التشتت والتوزع، ومن عواصف التنازع والصراع، فتعيش في سلام مع نفسك بالإيمان، ومع ربك بالعبادة، ومع الناس بالخلق الحسن، تعرج إلى الطاف الخالق الجليل، وتسبح في نعم الرزاق الكريم، وتسري مع نفحات الرحمن الرحيم. فأي جلال وجمال أوضح من جلال الله وجماله، وأي إسراء وعروج أفضل من الإسراء في الطافه، والعروج إلى نعمه، وأي سلام أهم من السلام الداخلي؟.. سلام الإنسان مع نفسه وربه، والسلام الخارجي المبسوط بين جميع خلق الله، على رياض الإلفة والمحبة والإحسان والتعاون والتناصح.

إلا أن هنالك ركناً رابعاً يظلل هذه الأركان الثلاثة، ويحميها من عوامل الضغط والإكراه ووسائل القهر والتسلط، ليترك لكل إنسان حرية الاختيار، فيهتف القرآن بوضوح:

(وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر) الكهف: 29 ويؤكد (لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي) البقرة: 256 ويخاطب النبي الكريم بقوله سبحانه (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر) الغاشية: 22 ويقول له (وعظهم) النساء: 63.

فوظيفة الرسول كما حكى القرآن الكريم هي تذكير الناس وعظتهم (يعظكم لعلكم تذكرون) النحل: 90.

وقد كان النبي(ص) مع قومه مصداقاً واضحاً لهذه التوجيهات الربانية، فكانت حركته العملية لا تتعدى دائرة العظة والتذكير وتفتيح العقول والقلوب على الحق دون أي ضغط أو قهر واكراه، فكان يقول في خطابه لهم (إنما أعظكم) سبأ 46. ويقول لهم (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدىً ورحمةٌ للمؤمنين) يونس: 57.

وكان هذا الأسلوب من الوعظ والحوار هو سبيل كل الأنبياء والرسل مع أقوامهم دون استثناء، ونحن إذ لا يسعنا في هذا البحث أن ندرج كل حوارات الأنبياء التي وردت في القرآن الكريم فلا يفوتنا أن نشير إلى حوارين أو ثلاثة تفي بالغرض في هذا المجال.

الأول: حوار خليل الله إبراهيم عليه السلام مع ربه ذلك الحوار الذي خلده القرآن الكريم في آيات موجزات فقال: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى، قال: أو لم تؤمن! قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي، قال: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً، ثم ادعهن يأتينك سعياً، واعلم أن الله عزيز حكيم) البقرة: 260.

فهذه صورة رائعة من حوار حي بين الله سبحانه وتعالى وبين خليله ونبيه إبراهيم عليه السلام يتوجه فيها المولى سبحانه وتعالى ببرهان عملي ينقل به خليله من درجة الإيمان إلى درجة الاطمئنان القلبي.

والثاني: حوار بين الخليل وقومه، يحكيه القرآن الكريم فيقول: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض، وليكون من الموقنين. فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي، فلما أفل قال لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا اكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين). الأنعام: 75-79.

ففي هذا المقطع من الحوار الشيق، يأخذ الخليل بأيدي قومه بشكل تدريجي رائع نحو الإيمان الصحيح، بعد الإدلاء بالحجة العقلية الدافعة التي لا مرد لها ولا مجال للشك أو الريب فيها.

والثالث: حوار نوح مع قومه الذين أخذت دعوته لهم وصبره عليهم ألف سنة إلا خمسين عاماً من عمره، يقدم لهم أنواع النصح والإرشاد، مستخدماً كل أساليب الموعظة والإنذار، فما ينفعهم النصح ولا تفيدهم الموعظة ولا يزجرهم عن غيهم الإنذار. ويسوق القرآن الكريم مقطعاً من أحد حوارات نوح مع قومه فيقول: (لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم. قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين. قال: يا قوم ليس بي ضلالة، ولكني رسول من رب العالمين. أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون. أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون. فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عمين..) الأعراف: 59-64.

ويتكرر هذا المشهد من الحوار بين هود وقومه وبين صالح وقومه ولوط وقومه وشعيب وقومه وموسى وقومه وعيسى وقومه، وكل الأنبياء وأقوامهم فكذب بهم الملأ من أقوامهم وما آمن معهم إلا قليل.

أسس الحوار المثمر
من مجموع الحوارات القرآنية نستطيع أن نستخلص بعض الأسس التي لا يكون الحوار بين أي طرفين حواراً مثمراً ما لم تتوفر فيه هذه الأسس، التي ينبغي أن تكون واضحة وحية في ذهن كل من الطرفين المتحاورين. من هذه الأسس:

1 ـ الحرية الفكرية المطلقة المتحررة من أي ضغط أو إكراه، قال تعالى (لا إكراه في الدين) البقرة: 256. وقال مخاطباً نبيه محمداً(ص) ـ وهو خاتم الأنبياء والرسل، ورسالته خاتمة الرسالات ـ: (فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر). الغاشية: 22.

وقال له كذلك: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس: 99.

وعلى هذا الأساس فإنه لا محرمات في الحوار، لا من حيث الأفكار ولا من حيث الأسلوب في طرحها، فلكل من الطرفين المتحاورين طرح ما يشاء من الأفكار، بالأسلوب الذي يشاء، ضمن برامج الحوار المتفق عليه، على أن يكون الطرح جدياً غير مشوب بهزل أو هزء أو تعريض، وأن لا يقصد به إضاعة الوقت فيما لا طائل تحته ولا نفع يرتجي من الحوار حوله.

2 ـ الرفق واللين في الخطاب، قال تعالى مخاطباً نبيه واصفاً أسلوبه في حواره مع قومه ودعوته لهم إلى ما أرسل به من الحق: (فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) آل عمران: 159.

3 ـ الحوار بالحكمة والموعظة الحسنة، فيخاطب الناس بما يألفون وينطلق في حوارهم مما يعرفون، ويتدرج معهم في الخطاب: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن) النحل: 125.

(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) العنكبوت: 46.

4 ـ التزام الحوار العلمي بعيداً عن الجدل بالباطل: (ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم؟!) آل عمران: 66.

إن التزام العلم يسع الناس جميعاً، وإن الادلاء بالحجج والبراهين يستميل العقول والقلوب، ويفتح الأبصار والبصائر على الحق المبين، أما الجدال بالباطل فمضيعة للوقت وإزدراء بالعقل ومجافاة للحكمة، ولكنه مع هذا أسلوب كثير من الناس: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) الحجج: 8.

5 ـ عدم تعالي كل طرف على الآخر خلال الحوار، فلعل لدى الآخر حقاً يكتشف أثناء الحوار.

قال تعالى حاكياً قول النبي(ص) وهو يحاور المشركين من قومه: (وإنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين) سبأ: 24. فإن الحوار بهذه النفسية أعون لكل من الطرفين على قبول الحق الذي يتكشف له، وصحيح أنه لابد أن أحد الطرفين على الهدى والطرف الآخر على الضلال، لكن ذلك ينبغي أن يتم التوصل إليه من خلال الحوار، لا قبله. إن الحق واحد لا يتعدد، ولكن الحوار بقلب يقظ وعقل مفتوح ورغبة وجدانية بالوصول إلى الحق سيوصل إليه حتماً.


الحوار مع الغرب: آلياته – أهدافه – دوافعه هو كتاب ضمن سلسلة حوار الحضارات الذي تأسس بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بشهر إبريل للعام الميلادي ألفان واثنان، ضمن برنامج متعدد المحاور وضع خصيصا لخدمة حوار الحضارات وتقارب الأفكار بين أصحاب الأديان المختلفة، وقد شارك في تأليف هذا الكتاب ثلاثة من الأساتذة المتخصصين في هذا المجال هم- الأستاذة الدكتورة منى أبو الفضل، والأستاذة الدكتورة أميمة عبود، والأستاذ الدكتور سليمان الخطيب.


بعد دراسة الواقع والبحث والتحري بأولوية ما يستجوبه حوار الحضارات في مرحلته الراهنة، وخصوصا بعد الفجوة الكبيرة الحاصلة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر للعام الميلادي ألفان وواحد، والتي تركت في نفوس الغرب أثرا يستوجب مضاعفة المجهودات الساعية إلى إيصال الصورة الحقيقية الواضحة عن الإسلام والمسلمين وحضارتهم التي سيرت العالم لقرون عدة، يقدم هذا الكتاب لحوار بناء بين المختلفين.
الحوار مع الغرب: محتوى الكتاب

يحتوي الكتاب على ثلاثة أقسام رئيسة كل قسم من هذه الأقسام قام بتصنيفه وتأليفه مؤلف خاص ثم جمعت هذه الأقسام الثلاثة إلى بعضها البعض فخرج هذا الكتاب بصورة الراقية التي بين أيدينا. القسم الأول تحت عنوان نحو طرح توحيدي لأصول التنظير وقواعده، وقد قدمته الدكتورة منى أبو الفضل، والقسم الثاني من الكتاب تحت عنوان- أسلوب الحوار: الأسباب، الدوافع، الآليات، الأساليب، الأهداف، المقومات، الأنماط، وقد قدمت لهذا القسم بأبحاثه ودراساته المتعددة الدكتورة- أميمة عبود، أما القسم الثالث الأخير من هذا القسم الذي صنفه وألفه الأستاذ الدكتور سليمان الخطيب تحت عنوان- أنماط انتقال الأفكار وآلياتها بين التفاعل والاستلاب، دراسة حالة واقعية تبين العلاقة الحالية بين العالم الغربي والعالم الشرقي الإسلامي.

وقد قدم هذا الكتاب لأسس وقواعد جديدة يمكن الاعتماد عليها في بناء علاقات على أسس جديدة في الحوار بين أبناء العالم الغربي وأبناء العالم الشرقي الإسلامي، وكيف يمكن ان تلتقي هذه الأفكار والمعتقدات المختلفة في نقطة تلاقي مقبولة يمكن الحوار فيما بينها لخدمة الحضارة الإنسانية في ذلك العصر الذي يشهد صراع وتناطح محتدم بين الحضارة الغربية والحضارة الشرقية الإسلامية.
سعد بن محمد الشهراني - ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ إعجاز القرآن في دلالة الفطرة على الإيمان ❝ ❞ الجذور الاعتقادية للإرهاب في الأصولية الإنجيلية ❝ ❞ أهداف الحوار مع الغرب ومحاذيره ❝ ❞ أثر الإنحراف الاعتقادي على الإرهاب العالمي اليهودية نموذجا ❝ ❱
من كتب إسلامية متنوعة - مكتبة كتب إسلامية.


اقتباسات من كتاب أهداف الحوار مع الغرب ومحاذيره

نبذة عن الكتاب:
أهداف الحوار مع الغرب ومحاذيره

2006م - 1445هـ
قال الله تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير). الحجرات 13.

تشير هذه الآية الكريمة إلى حكمة الله البالغة في التنوع الجنسي للبشر بين ذكر وأنثى لضرورة استمرار النوع البشري، والتنوع العرفي. فتعدد الشعوب والقبائل ليتعارفوا فيما بينهم ويتعاونوا على استخراج كنوز الأرض، ويقوم بينهم التنافس الشريف فتبرز المواهب وتظهر الطاقات وتتعدد التقاليد والعادات وتتنوع المفاهيم والثقافات.

كما زود الله سبحانه عباده بالعقل والعلم، وأمرهم بلغة الحوار والخطاب لتكون وسيلة التعارف والتفاهم فيما بينهم.

من هنا كان الحوار بين الناس بمختلف أجناسهم وأعراقهم ضرورة بشرية تؤدي بهم إلى التعرف على نيات بعضهم البعض، والاتفاق على أسلوب التعامل واسس التعاون ونبذ التنازع والصراع فيما بينهم.

وقد ساق التفاهم بين أفراد الجنس البشري إلى قيام المجتمعات المتجاورة، وتعقد العلاقات بينهما مما زاد في أهمية الحوار، وأرسى كثيراً من الأسس التي ينبغي أن يقوم عليها، وغدا الحوار ضرورة اجتماعية وإنسانية لا غنى عنها ولا يمكن أن يقوم تفاهم وتعارف وتعاون بدونه.

الإسلام والحوار
ولا شك أن أفضل الأسس اللازمة للحوار هي ما جاءت بها الأديان، التي قدمت للبشرية مفاهيم الاخوة والتعاون والإحسان والحرية والعدالة والمساواة، وربطت كل تلك المفاهيم بالإيمان بوحدانية الخالق ووحدة الجنس البشري مهما تعددت القبائل والشعوب وتنوعت المجتمعات.

(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء) النساء: 1.

إن وحدة النوع البشري التي رسختها الأديان، استلزمت توسيع دائرة التعارف والتفاهم والتعاون، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالحوار المستمر، وكلما تعقدت العلاقات، وتنوعت المصالح، ازدادت أهمية الحوار لاستمرار التعاون، ودفع أسباب التنازع ودواعي الصراع.

ولم يصدع هذا الحوار ويقف دون استمرار التفاهم والتعاون، إلا طغيان الأهواء الناجمة عن ضعف الإيمان. لذلك كانت رسالة جميع الأنبياء إرساء دواعي الإيمان، والدعوة إلى التوحيد، والتذكير بوحدة الجنس البشري.

إن التركيز على هذه الأسس ضروري في كل زمان ومكان، فهي الجسر القوي الراسخ، الذي يعبر منه جميع الناس إلى التفاهم والتعاون، وعليه تقوم الأسس السليمة للحوار الجاد النافع.

ومن هنا فإن الإسلام ـ باعتباره استمراراً للأديان السابقة وختاماً لها ـ قد أسس للحوار بنيانا شامخا، وأقام له كياناً سامقاً وشاناً رفيعا، وجعله ركنا مهماً لقيام المجتمع العالمي المسلم وعلاقته بالمجتمعات الإنسانية الأخرى.

نلمس ذلك مما تضمنه القرآن الكريم من حوارات عملية بمختلف المستويات وفي شتى المجالات، حوارات الخالق مع خلقه، ومع أنبيائه، وحوارات الأنبياء مع أقوامهم، وحوارات الأفراد فيما بينهم.

والقرآن الكريم بحد ذاته حوار عملي مع البشرية جمعاء في كل زمان ومكان، يخاطب الناس جميعاً ليذكرهم بخالقهم ومربيهم، ورازقهم وحافظهم، والذي هو مصدر كل المواهب والطاقات التي يتمتعون بها في أنفسهم، مصدر كل الخيرات والنعم التي يحصدونها من الطبيعة التي تحيط بهم.

يذكرهم بربهم ويدعوهم بأسلوب فريد إلى الإيمان به وتوحيده، والتوجه إليه بالشكر والطاعة والعبادة، دون قهر أو إكراه، بل بمطلق الحرية الشخصية والقناعة العقلية واليقين القلبي، الإرادة الخاصة التي لا سيطرة لأحد عليها، ولا حق لأحد بالتسلط عليها.

ورغم أن جوهر الإسلام يتلألأ في أركان ثلاثة:

ـ الإيمان بالخالق (العقيدة السليمة).

ـ العروج إلى الخالق (العبادة الصحيحة).

ـ الإحسان إلى الخلق (السلوك الحسن).

فما أن تظلك مظلة الإسلام حتى تجد نفسك سابحاً في فضاء واسع من جمال الله وجلاله، قد صفا قلبك، واطمأن فؤادك، وهدأت في جوانحك رياح الآلهة المزعومة، واستراحت جوارحك من نصب التشتت والتوزع، ومن عواصف التنازع والصراع، فتعيش في سلام مع نفسك بالإيمان، ومع ربك بالعبادة، ومع الناس بالخلق الحسن، تعرج إلى الطاف الخالق الجليل، وتسبح في نعم الرزاق الكريم، وتسري مع نفحات الرحمن الرحيم. فأي جلال وجمال أوضح من جلال الله وجماله، وأي إسراء وعروج أفضل من الإسراء في الطافه، والعروج إلى نعمه، وأي سلام أهم من السلام الداخلي؟.. سلام الإنسان مع نفسه وربه، والسلام الخارجي المبسوط بين جميع خلق الله، على رياض الإلفة والمحبة والإحسان والتعاون والتناصح.

إلا أن هنالك ركناً رابعاً يظلل هذه الأركان الثلاثة، ويحميها من عوامل الضغط والإكراه ووسائل القهر والتسلط، ليترك لكل إنسان حرية الاختيار، فيهتف القرآن بوضوح:

(وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر) الكهف: 29 ويؤكد (لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي) البقرة: 256 ويخاطب النبي الكريم بقوله سبحانه (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر) الغاشية: 22 ويقول له (وعظهم) النساء: 63.

فوظيفة الرسول كما حكى القرآن الكريم هي تذكير الناس وعظتهم (يعظكم لعلكم تذكرون) النحل: 90.

وقد كان النبي(ص) مع قومه مصداقاً واضحاً لهذه التوجيهات الربانية، فكانت حركته العملية لا تتعدى دائرة العظة والتذكير وتفتيح العقول والقلوب على الحق دون أي ضغط أو قهر واكراه، فكان يقول في خطابه لهم (إنما أعظكم) سبأ 46. ويقول لهم (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدىً ورحمةٌ للمؤمنين) يونس: 57.

وكان هذا الأسلوب من الوعظ والحوار هو سبيل كل الأنبياء والرسل مع أقوامهم دون استثناء، ونحن إذ لا يسعنا في هذا البحث أن ندرج كل حوارات الأنبياء التي وردت في القرآن الكريم فلا يفوتنا أن نشير إلى حوارين أو ثلاثة تفي بالغرض في هذا المجال.

الأول: حوار خليل الله إبراهيم عليه السلام مع ربه ذلك الحوار الذي خلده القرآن الكريم في آيات موجزات فقال: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى، قال: أو لم تؤمن! قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي، قال: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً، ثم ادعهن يأتينك سعياً، واعلم أن الله عزيز حكيم) البقرة: 260.

فهذه صورة رائعة من حوار حي بين الله سبحانه وتعالى وبين خليله ونبيه إبراهيم عليه السلام يتوجه فيها المولى سبحانه وتعالى ببرهان عملي ينقل به خليله من درجة الإيمان إلى درجة الاطمئنان القلبي.

والثاني: حوار بين الخليل وقومه، يحكيه القرآن الكريم فيقول: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض، وليكون من الموقنين. فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي، فلما أفل قال لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا اكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين). الأنعام: 75-79.

ففي هذا المقطع من الحوار الشيق، يأخذ الخليل بأيدي قومه بشكل تدريجي رائع نحو الإيمان الصحيح، بعد الإدلاء بالحجة العقلية الدافعة التي لا مرد لها ولا مجال للشك أو الريب فيها.

والثالث: حوار نوح مع قومه الذين أخذت دعوته لهم وصبره عليهم ألف سنة إلا خمسين عاماً من عمره، يقدم لهم أنواع النصح والإرشاد، مستخدماً كل أساليب الموعظة والإنذار، فما ينفعهم النصح ولا تفيدهم الموعظة ولا يزجرهم عن غيهم الإنذار. ويسوق القرآن الكريم مقطعاً من أحد حوارات نوح مع قومه فيقول: (لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم. قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين. قال: يا قوم ليس بي ضلالة، ولكني رسول من رب العالمين. أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون. أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون. فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عمين..) الأعراف: 59-64.

ويتكرر هذا المشهد من الحوار بين هود وقومه وبين صالح وقومه ولوط وقومه وشعيب وقومه وموسى وقومه وعيسى وقومه، وكل الأنبياء وأقوامهم فكذب بهم الملأ من أقوامهم وما آمن معهم إلا قليل.

أسس الحوار المثمر
من مجموع الحوارات القرآنية نستطيع أن نستخلص بعض الأسس التي لا يكون الحوار بين أي طرفين حواراً مثمراً ما لم تتوفر فيه هذه الأسس، التي ينبغي أن تكون واضحة وحية في ذهن كل من الطرفين المتحاورين. من هذه الأسس:

1 ـ الحرية الفكرية المطلقة المتحررة من أي ضغط أو إكراه، قال تعالى (لا إكراه في الدين) البقرة: 256. وقال مخاطباً نبيه محمداً(ص) ـ وهو خاتم الأنبياء والرسل، ورسالته خاتمة الرسالات ـ: (فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر). الغاشية: 22.

وقال له كذلك: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس: 99.

وعلى هذا الأساس فإنه لا محرمات في الحوار، لا من حيث الأفكار ولا من حيث الأسلوب في طرحها، فلكل من الطرفين المتحاورين طرح ما يشاء من الأفكار، بالأسلوب الذي يشاء، ضمن برامج الحوار المتفق عليه، على أن يكون الطرح جدياً غير مشوب بهزل أو هزء أو تعريض، وأن لا يقصد به إضاعة الوقت فيما لا طائل تحته ولا نفع يرتجي من الحوار حوله.

2 ـ الرفق واللين في الخطاب، قال تعالى مخاطباً نبيه واصفاً أسلوبه في حواره مع قومه ودعوته لهم إلى ما أرسل به من الحق: (فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) آل عمران: 159.

3 ـ الحوار بالحكمة والموعظة الحسنة، فيخاطب الناس بما يألفون وينطلق في حوارهم مما يعرفون، ويتدرج معهم في الخطاب: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن) النحل: 125.

(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) العنكبوت: 46.

4 ـ التزام الحوار العلمي بعيداً عن الجدل بالباطل: (ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم؟!) آل عمران: 66.

إن التزام العلم يسع الناس جميعاً، وإن الادلاء بالحجج والبراهين يستميل العقول والقلوب، ويفتح الأبصار والبصائر على الحق المبين، أما الجدال بالباطل فمضيعة للوقت وإزدراء بالعقل ومجافاة للحكمة، ولكنه مع هذا أسلوب كثير من الناس: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) الحجج: 8.

5 ـ عدم تعالي كل طرف على الآخر خلال الحوار، فلعل لدى الآخر حقاً يكتشف أثناء الحوار.

قال تعالى حاكياً قول النبي(ص) وهو يحاور المشركين من قومه: (وإنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين) سبأ: 24. فإن الحوار بهذه النفسية أعون لكل من الطرفين على قبول الحق الذي يتكشف له، وصحيح أنه لابد أن أحد الطرفين على الهدى والطرف الآخر على الضلال، لكن ذلك ينبغي أن يتم التوصل إليه من خلال الحوار، لا قبله. إن الحق واحد لا يتعدد، ولكن الحوار بقلب يقظ وعقل مفتوح ورغبة وجدانية بالوصول إلى الحق سيوصل إليه حتماً.


الحوار مع الغرب: آلياته – أهدافه – دوافعه هو كتاب ضمن سلسلة حوار الحضارات الذي تأسس بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بشهر إبريل للعام الميلادي ألفان واثنان، ضمن برنامج متعدد المحاور وضع خصيصا لخدمة حوار الحضارات وتقارب الأفكار بين أصحاب الأديان المختلفة، وقد شارك في تأليف هذا الكتاب ثلاثة من الأساتذة المتخصصين في هذا المجال هم- الأستاذة الدكتورة منى أبو الفضل، والأستاذة الدكتورة أميمة عبود، والأستاذ الدكتور سليمان الخطيب.


بعد دراسة الواقع والبحث والتحري بأولوية ما يستجوبه حوار الحضارات في مرحلته الراهنة، وخصوصا بعد الفجوة الكبيرة الحاصلة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر للعام الميلادي ألفان وواحد، والتي تركت في نفوس الغرب أثرا يستوجب مضاعفة المجهودات الساعية إلى إيصال الصورة الحقيقية الواضحة عن الإسلام والمسلمين وحضارتهم التي سيرت العالم لقرون عدة، يقدم هذا الكتاب لحوار بناء بين المختلفين.
الحوار مع الغرب: محتوى الكتاب

يحتوي الكتاب على ثلاثة أقسام رئيسة كل قسم من هذه الأقسام قام بتصنيفه وتأليفه مؤلف خاص ثم جمعت هذه الأقسام الثلاثة إلى بعضها البعض فخرج هذا الكتاب بصورة الراقية التي بين أيدينا. القسم الأول تحت عنوان نحو طرح توحيدي لأصول التنظير وقواعده، وقد قدمته الدكتورة منى أبو الفضل، والقسم الثاني من الكتاب تحت عنوان- أسلوب الحوار: الأسباب، الدوافع، الآليات، الأساليب، الأهداف، المقومات، الأنماط، وقد قدمت لهذا القسم بأبحاثه ودراساته المتعددة الدكتورة- أميمة عبود، أما القسم الثالث الأخير من هذا القسم الذي صنفه وألفه الأستاذ الدكتور سليمان الخطيب تحت عنوان- أنماط انتقال الأفكار وآلياتها بين التفاعل والاستلاب، دراسة حالة واقعية تبين العلاقة الحالية بين العالم الغربي والعالم الشرقي الإسلامي.

وقد قدم هذا الكتاب لأسس وقواعد جديدة يمكن الاعتماد عليها في بناء علاقات على أسس جديدة في الحوار بين أبناء العالم الغربي وأبناء العالم الشرقي الإسلامي، وكيف يمكن ان تلتقي هذه الأفكار والمعتقدات المختلفة في نقطة تلاقي مقبولة يمكن الحوار فيما بينها لخدمة الحضارة الإنسانية في ذلك العصر الذي يشهد صراع وتناطح محتدم بين الحضارة الغربية والحضارة الشرقية الإسلامية. .
المزيد..

تعليقات القرّاء:

قال الله تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير). الحجرات 13.

تشير هذه الآية الكريمة إلى حكمة الله البالغة في التنوع الجنسي للبشر بين ذكر وأنثى لضرورة استمرار النوع البشري، والتنوع العرفي. فتعدد الشعوب والقبائل ليتعارفوا فيما بينهم ويتعاونوا على استخراج كنوز الأرض، ويقوم بينهم التنافس الشريف فتبرز المواهب وتظهر الطاقات وتتعدد التقاليد والعادات وتتنوع المفاهيم والثقافات.

كما زود الله سبحانه عباده بالعقل والعلم، وأمرهم بلغة الحوار والخطاب لتكون وسيلة التعارف والتفاهم فيما بينهم.

من هنا كان الحوار بين الناس بمختلف أجناسهم وأعراقهم ضرورة بشرية تؤدي بهم إلى التعرف على نيات بعضهم البعض، والاتفاق على أسلوب التعامل واسس التعاون ونبذ التنازع والصراع فيما بينهم.

وقد ساق التفاهم بين أفراد الجنس البشري إلى قيام المجتمعات المتجاورة، وتعقد العلاقات بينهما مما زاد في أهمية الحوار، وأرسى كثيراً من الأسس التي ينبغي أن يقوم عليها، وغدا الحوار ضرورة اجتماعية وإنسانية لا غنى عنها ولا يمكن أن يقوم تفاهم وتعارف وتعاون بدونه.

الإسلام والحوار
ولا شك أن أفضل الأسس اللازمة للحوار هي ما جاءت بها الأديان، التي قدمت للبشرية مفاهيم الاخوة والتعاون والإحسان والحرية والعدالة والمساواة، وربطت كل تلك المفاهيم بالإيمان بوحدانية الخالق ووحدة الجنس البشري مهما تعددت القبائل والشعوب وتنوعت المجتمعات.

(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء) النساء: 1.

إن وحدة النوع البشري التي رسختها الأديان، استلزمت توسيع دائرة التعارف والتفاهم والتعاون، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالحوار المستمر، وكلما تعقدت العلاقات، وتنوعت المصالح، ازدادت أهمية الحوار لاستمرار التعاون، ودفع أسباب التنازع ودواعي الصراع.

ولم يصدع هذا الحوار ويقف دون استمرار التفاهم والتعاون، إلا طغيان الأهواء الناجمة عن ضعف الإيمان. لذلك كانت رسالة جميع الأنبياء إرساء دواعي الإيمان، والدعوة إلى التوحيد، والتذكير بوحدة الجنس البشري.

إن التركيز على هذه الأسس ضروري في كل زمان ومكان، فهي الجسر القوي الراسخ، الذي يعبر منه جميع الناس إلى التفاهم والتعاون، وعليه تقوم الأسس السليمة للحوار الجاد النافع.

ومن هنا فإن الإسلام ـ باعتباره استمراراً للأديان السابقة وختاماً لها ـ قد أسس للحوار بنيانا شامخا، وأقام له كياناً سامقاً وشاناً رفيعا، وجعله ركنا مهماً لقيام المجتمع العالمي المسلم وعلاقته بالمجتمعات الإنسانية الأخرى.

نلمس ذلك مما تضمنه القرآن الكريم من حوارات عملية بمختلف المستويات وفي شتى المجالات، حوارات الخالق مع خلقه، ومع أنبيائه، وحوارات الأنبياء مع أقوامهم، وحوارات الأفراد فيما بينهم.

والقرآن الكريم بحد ذاته حوار عملي مع البشرية جمعاء في كل زمان ومكان، يخاطب الناس جميعاً ليذكرهم بخالقهم ومربيهم، ورازقهم وحافظهم، والذي هو مصدر كل المواهب والطاقات التي يتمتعون بها في أنفسهم، مصدر كل الخيرات والنعم التي يحصدونها من الطبيعة التي تحيط بهم.

يذكرهم بربهم ويدعوهم بأسلوب فريد إلى الإيمان به وتوحيده، والتوجه إليه بالشكر والطاعة والعبادة، دون قهر أو إكراه، بل بمطلق الحرية الشخصية والقناعة العقلية واليقين القلبي، الإرادة الخاصة التي لا سيطرة لأحد عليها، ولا حق لأحد بالتسلط عليها.

ورغم أن جوهر الإسلام يتلألأ في أركان ثلاثة:

ـ الإيمان بالخالق (العقيدة السليمة).

ـ العروج إلى الخالق (العبادة الصحيحة).

ـ الإحسان إلى الخلق (السلوك الحسن).

فما أن تظلك مظلة الإسلام حتى تجد نفسك سابحاً في فضاء واسع من جمال الله وجلاله، قد صفا قلبك، واطمأن فؤادك، وهدأت في جوانحك رياح الآلهة المزعومة، واستراحت جوارحك من نصب التشتت والتوزع، ومن عواصف التنازع والصراع، فتعيش في سلام مع نفسك بالإيمان، ومع ربك بالعبادة، ومع الناس بالخلق الحسن، تعرج إلى الطاف الخالق الجليل، وتسبح في نعم الرزاق الكريم، وتسري مع نفحات الرحمن الرحيم. فأي جلال وجمال أوضح من جلال الله وجماله، وأي إسراء وعروج أفضل من الإسراء في الطافه، والعروج إلى نعمه، وأي سلام أهم من السلام الداخلي؟.. سلام الإنسان مع نفسه وربه، والسلام الخارجي المبسوط بين جميع خلق الله، على رياض الإلفة والمحبة والإحسان والتعاون والتناصح.

إلا أن هنالك ركناً رابعاً يظلل هذه الأركان الثلاثة، ويحميها من عوامل الضغط والإكراه ووسائل القهر والتسلط، ليترك لكل إنسان حرية الاختيار، فيهتف القرآن بوضوح:

(وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر) الكهف: 29 ويؤكد (لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي) البقرة: 256 ويخاطب النبي الكريم بقوله سبحانه (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر) الغاشية: 22 ويقول له (وعظهم) النساء: 63.

فوظيفة الرسول كما حكى القرآن الكريم هي تذكير الناس وعظتهم (يعظكم لعلكم تذكرون) النحل: 90.

وقد كان النبي(ص) مع قومه مصداقاً واضحاً لهذه التوجيهات الربانية، فكانت حركته العملية لا تتعدى دائرة العظة والتذكير وتفتيح العقول والقلوب على الحق دون أي ضغط أو قهر واكراه، فكان يقول في خطابه لهم (إنما أعظكم) سبأ 46. ويقول لهم (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدىً ورحمةٌ للمؤمنين) يونس: 57.

وكان هذا الأسلوب من الوعظ والحوار هو سبيل كل الأنبياء والرسل مع أقوامهم دون استثناء، ونحن إذ لا يسعنا في هذا البحث أن ندرج كل حوارات الأنبياء التي وردت في القرآن الكريم فلا يفوتنا أن نشير إلى حوارين أو ثلاثة تفي بالغرض في هذا المجال.

الأول: حوار خليل الله إبراهيم عليه السلام مع ربه ذلك الحوار الذي خلده القرآن الكريم في آيات موجزات فقال: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى، قال: أو لم تؤمن! قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي، قال: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً، ثم ادعهن يأتينك سعياً، واعلم أن الله عزيز حكيم) البقرة: 260.

فهذه صورة رائعة من حوار حي بين الله سبحانه وتعالى وبين خليله ونبيه إبراهيم عليه السلام يتوجه فيها المولى سبحانه وتعالى ببرهان عملي ينقل به خليله من درجة الإيمان إلى درجة الاطمئنان القلبي.

والثاني: حوار بين الخليل وقومه، يحكيه القرآن الكريم فيقول: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض، وليكون من الموقنين. فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي، فلما أفل قال لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا اكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين). الأنعام: 75-79.

ففي هذا المقطع من الحوار الشيق، يأخذ الخليل بأيدي قومه بشكل تدريجي رائع نحو الإيمان الصحيح، بعد الإدلاء بالحجة العقلية الدافعة التي لا مرد لها ولا مجال للشك أو الريب فيها.

والثالث: حوار نوح مع قومه الذين أخذت دعوته لهم وصبره عليهم ألف سنة إلا خمسين عاماً من عمره، يقدم لهم أنواع النصح والإرشاد، مستخدماً كل أساليب الموعظة والإنذار، فما ينفعهم النصح ولا تفيدهم الموعظة ولا يزجرهم عن غيهم الإنذار. ويسوق القرآن الكريم مقطعاً من أحد حوارات نوح مع قومه فيقول: (لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم. قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين. قال: يا قوم ليس بي ضلالة، ولكني رسول من رب العالمين. أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون. أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون. فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عمين..) الأعراف: 59-64.

ويتكرر هذا المشهد من الحوار بين هود وقومه وبين صالح وقومه ولوط وقومه وشعيب وقومه وموسى وقومه وعيسى وقومه، وكل الأنبياء وأقوامهم فكذب بهم الملأ من أقوامهم وما آمن معهم إلا قليل.

أسس الحوار المثمر
من مجموع الحوارات القرآنية نستطيع أن نستخلص بعض الأسس التي لا يكون الحوار بين أي طرفين حواراً مثمراً ما لم تتوفر فيه هذه الأسس، التي ينبغي أن تكون واضحة وحية في ذهن كل من الطرفين المتحاورين. من هذه الأسس:

1 ـ الحرية الفكرية المطلقة المتحررة من أي ضغط أو إكراه، قال تعالى (لا إكراه في الدين) البقرة: 256. وقال مخاطباً نبيه محمداً(ص) ـ وهو خاتم الأنبياء والرسل، ورسالته خاتمة الرسالات ـ: (فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر). الغاشية: 22.

وقال له كذلك: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس: 99.

وعلى هذا الأساس فإنه لا محرمات في الحوار، لا من حيث الأفكار ولا من حيث الأسلوب في طرحها، فلكل من الطرفين المتحاورين طرح ما يشاء من الأفكار، بالأسلوب الذي يشاء، ضمن برامج الحوار المتفق عليه، على أن يكون الطرح جدياً غير مشوب بهزل أو هزء أو تعريض، وأن لا يقصد به إضاعة الوقت فيما لا طائل تحته ولا نفع يرتجي من الحوار حوله.

2 ـ الرفق واللين في الخطاب، قال تعالى مخاطباً نبيه واصفاً أسلوبه في حواره مع قومه ودعوته لهم إلى ما أرسل به من الحق: (فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) آل عمران: 159.

3 ـ الحوار بالحكمة والموعظة الحسنة، فيخاطب الناس بما يألفون وينطلق في حوارهم مما يعرفون، ويتدرج معهم في الخطاب: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن) النحل: 125.

(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) العنكبوت: 46.

4 ـ التزام الحوار العلمي بعيداً عن الجدل بالباطل: (ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم؟!) آل عمران: 66.

إن التزام العلم يسع الناس جميعاً، وإن الادلاء بالحجج والبراهين يستميل العقول والقلوب، ويفتح الأبصار والبصائر على الحق المبين، أما الجدال بالباطل فمضيعة للوقت وإزدراء بالعقل ومجافاة للحكمة، ولكنه مع هذا أسلوب كثير من الناس: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) الحجج: 8.

5 ـ عدم تعالي كل طرف على الآخر خلال الحوار، فلعل لدى الآخر حقاً يكتشف أثناء الحوار.

قال تعالى حاكياً قول النبي(ص) وهو يحاور المشركين من قومه: (وإنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين) سبأ: 24. فإن الحوار بهذه النفسية أعون لكل من الطرفين على قبول الحق الذي يتكشف له، وصحيح أنه لابد أن أحد الطرفين على الهدى والطرف الآخر على الضلال، لكن ذلك ينبغي أن يتم التوصل إليه من خلال الحوار، لا قبله. إن الحق واحد لا يتعدد، ولكن الحوار بقلب يقظ وعقل مفتوح ورغبة وجدانية بالوصول إلى الحق سيوصل إليه حتماً.


الحوار مع الغرب: آلياته – أهدافه – دوافعه هو كتاب ضمن سلسلة حوار الحضارات الذي تأسس بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بشهر إبريل للعام الميلادي ألفان واثنان، ضمن برنامج متعدد المحاور وضع خصيصا لخدمة حوار الحضارات وتقارب الأفكار بين أصحاب الأديان المختلفة، وقد شارك في تأليف هذا الكتاب ثلاثة من الأساتذة المتخصصين في هذا المجال هم- الأستاذة الدكتورة منى أبو الفضل، والأستاذة الدكتورة أميمة عبود، والأستاذ الدكتور سليمان الخطيب.


بعد دراسة الواقع والبحث والتحري بأولوية ما يستجوبه حوار الحضارات في مرحلته الراهنة، وخصوصا بعد الفجوة الكبيرة الحاصلة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر للعام الميلادي ألفان وواحد، والتي تركت في نفوس الغرب أثرا يستوجب مضاعفة المجهودات الساعية إلى إيصال الصورة الحقيقية الواضحة عن الإسلام والمسلمين وحضارتهم التي سيرت العالم لقرون عدة، يقدم هذا الكتاب لحوار بناء بين المختلفين.
الحوار مع الغرب: محتوى الكتاب

يحتوي الكتاب على ثلاثة أقسام رئيسة كل قسم من هذه الأقسام قام بتصنيفه وتأليفه مؤلف خاص ثم جمعت هذه الأقسام الثلاثة إلى بعضها البعض فخرج هذا الكتاب بصورة الراقية التي بين أيدينا. القسم الأول تحت عنوان نحو طرح توحيدي لأصول التنظير وقواعده، وقد قدمته الدكتورة منى أبو الفضل، والقسم الثاني من الكتاب تحت عنوان- أسلوب الحوار: الأسباب، الدوافع، الآليات، الأساليب، الأهداف، المقومات، الأنماط، وقد قدمت لهذا القسم بأبحاثه ودراساته المتعددة الدكتورة- أميمة عبود، أما القسم الثالث الأخير من هذا القسم الذي صنفه وألفه الأستاذ الدكتور سليمان الخطيب تحت عنوان- أنماط انتقال الأفكار وآلياتها بين التفاعل والاستلاب، دراسة حالة واقعية تبين العلاقة الحالية بين العالم الغربي والعالم الشرقي الإسلامي.

وقد قدم هذا الكتاب لأسس وقواعد جديدة يمكن الاعتماد عليها في بناء علاقات على أسس جديدة في الحوار بين أبناء العالم الغربي وأبناء العالم الشرقي الإسلامي، وكيف يمكن ان تلتقي هذه الأفكار والمعتقدات المختلفة في نقطة تلاقي مقبولة يمكن الحوار فيما بينها لخدمة الحضارة الإنسانية في ذلك العصر الذي يشهد صراع وتناطح محتدم بين الحضارة الغربية والحضارة الشرقية الإسلامية.

أهداف الحوار مع الغرب ومحاذيره من كتب إسلامية



سنة النشر : 2006م / 1427هـ .
حجم الكتاب عند التحميل : 491.5 كيلوبايت .
نوع الكتاب : pdf.
عداد القراءة: عدد قراءة أهداف الحوار مع الغرب ومحاذيره

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل أهداف الحوار مع الغرب ومحاذيره
شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

برنامج تشغيل ملفات pdfقبل تحميل الكتاب ..
يجب ان يتوفر لديكم برنامج تشغيل وقراءة ملفات pdf
يمكن تحميلة من هنا 'http://get.adobe.com/reader/'

المؤلف:
سعد بن محمد الشهراني - Saad bin Mohammed Al Shahrani

كتب سعد بن محمد الشهراني ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ إعجاز القرآن في دلالة الفطرة على الإيمان ❝ ❞ الجذور الاعتقادية للإرهاب في الأصولية الإنجيلية ❝ ❞ أهداف الحوار مع الغرب ومحاذيره ❝ ❞ أثر الإنحراف الاعتقادي على الإرهاب العالمي اليهودية نموذجا ❝ ❱. المزيد..

كتب سعد بن محمد الشهراني