❞ كتاب ماذا يعطى الإسلام للبشرية ❝  ⏤ د. محمد قطب

❞ كتاب ماذا يعطى الإسلام للبشرية ❝ ⏤ د. محمد قطب

رغم أن الإسلام الوحي السماوي المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أكبر من أن يوضع موضع الاتهام أو يحتاج إلى من يدافع عنه، إلا أن مسؤولية تجلية حقائقه للبشرية مسؤولية إنسانية تختلف اختلافاً تاماً عن وعد الله لعباده بحفظ الذكر. وثمة خلط يقع فيه كثيرون عندما يتحدثون عن عطاء الإسلام الحضاري في مسيرة البشرية، إذ يعددون ما أنجزه المسلمون: علماً، وتفلسفاً، وتوسعاً، وثراءً، و… بوصفها عطاء الإسلام الحضاري.

وجمعيها منجزات مدنية لعبت العقيدة الإسلامية، برؤيتها: للذات والآخر والكون وما وراء الكون، والشريعة بأحكامها دوراً كبيراً في تهيئة المناخ لظهورها، لكن هذا العطاء هو في النهاية عطاء المسلمين كبشر تفاعلوا مع منظومة معرفية متكاملة فيها أبعاد ما ورائية وأخلاقية وقواعد تنظيمية أتاحت المناخ للعطاء الحضاري، ولكنه يظل مرهوناً في تحققه بالناس الذين يتفاوت تفاعلهم، مع الفكرة من ناحية، ومع الواقع من ناحية أخرى. ولذا فإن للإسلام عطاءً حضارياً لا دور للمسلمين فيه إلا تجسيده، وهو أمر يتفاوت نجاحهم فيه صعوداً وهبوطاً.

ما الحضارة؟
ورغم ما يمثله الدور الرائد الذي قام به المسلمون في التوصل للمنهج التجريبي في العلم من فضل على البشرية، ورغم ما قدمه العلماء المسلمون لمسيرة البشرية من منجزات في كل مجالات العلم التي كان لهم فيها مساهمة، فإن هذا العطاء يمثل الثمرة أما البذرة فأكثر قيمة من ذلك بكثير. ولعل المدخل الصحيح للإحاطة بهذا الدور تحتم تعريف الحضارة، وتحفل كتابات كثيرة قديمة ومحدثة بتعريفات مختلفة للحضارة، بعضها اختلط بمفهوم المدنية وبعضها اختلط بمفهوم الثقافة. وأفضل أن أطرح تعريفاً جديداً للحضارة أراه أكثر تحديداً من المفاهيم المتداولة فهي (حسب تصوري): ” كل تصور متكامل يدعي أنه قادر على تنظيم العلاقة بين قيم: الحق والحرية والنظام، على نحو خاص”.

الإنسان واليقين:
وكل تصور حضاري ينبغي أن يتضمن بشكل ظاهر أو مضمر تصوراً لنشأة الكون وطبيعته والإنسان والطبيعة والعلاقات بينها، وبناءً على تصوره لنشأة الكون يتحدد موقف كل تصور حضاري من قضية “الألوهية” اعترافاً أو إنكاراً، أو ربما تأسس تصور نشأة الكون على الموقف من الألوهية. والعلاقة بين هذه القيم الثلاث هي مدار حركة الإنسان على الأرض، والأديان السماوية والأفكار البشرية ذات الطبيعة الكلية (الأيدلوجيات) تشكل رؤى تستهدف تنظيم هذه العلاقة على نحو ما، حيث كل الأيدلوجيات تأخذ بناء الدين. ولأن تنظيم العلاقة بين هذه القيم، التي نراها قيماً حاكمة، يتأسس بالضرورة على تحديد معنى القيم الثلاث، فإن تاريخ الفكر البشري يكاد في مجمله أن يكون سجالاً بين “النبي” و “الفيلسوف”.

ولتحديد معنى القيم الثلاث التي تعد قيماً حاكمة لعملية صياغة التصور الحضاري لا بد من مفهوم لليقين، فالحضارة بنت اليقين. ومن أهم القواعد التي وضعها الإسلام للوصول إلى اليقين: “يعرف الرجال بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال“. لكن هذه القاعدة التي تنفي كون البشر طريقاً لمعرفة الحق تثبت أن الحق طريق معرفة البشر، تكتفي بالإثبات والنفي ولا تطرح طريقاً محدداً لمعرفة الحق ولا تطرح تعريفاً للحق. والطريق إلى الحق: نقل أو عقل أو حدس أو تجربة، أما الطريق الرابع فإنه طريق إدراك الحقائق الجزئية لا طريق معرفة الحق. أما الحق فمجرد وإن دلت عليه شواهد حسية، والقاعدة تعكس اهتمام الإسلام الشديد بهدم بنية الشرك العقائدية والمعرفية، بحيث لا يكون البشر دليلاً على الحق، وإن كان بعضهم علامات على طريقه. أما النقل فإما أن يكون عن سالف أو عن مصدر مفارق لعالم الموجودات المادية. فإن كان النقل عن سالف كان اتباعاً أعاد إنتاج ظاهرة الشرك، فإن كان ذلك السلف وسيلة للنقل لا مصدراً للحق تساووا في ذلك مع غيرهم من وسائل النقل.

أما النقل عن مصدر مفارق للموجودات، وهو ما تسميه الأديان السماوية “الوحي” فهو توقيف مفارق لعالم الموجودات المادية يدركه العقل البشري ولا يحتويه، يفهمه ولا يقدر على إنتاجه. ولإدراك الحق بين ادعاءات المدعين وسائل تمح الغث من السمين، وأولها الحدس، فلا يقين بغير حدس، ظاهراً كان أو مضمراً. وقد يتأسس التمحيص على التعقل وقياس لزوم النتائج عن مقدماتهاً، لكن ذلك لا يعدو أن يكون تسويغاً تتدخل فيه ميول النفس وما يزينه الحدس، وإن لم يدركه الموقن نفسه.

إشكالية المسلمات:
وبقدر لزوم الحدس لكل يقين يلزم التسليم بمعرفة أولية لكل يقين، فإذا أخذ كل جيل من البشر على عاتقه مهمة إعادة النظر عقلياً في المسلمات بادئاً من نقطة الصفر المعرفية (على افتراض وجود هذه النقطة إذ لا وجود لها في الحقيقة)، فمن المؤكد أن يؤدي ذلك إلى توالي أجيال متعاقبة لا تتوارث إلا الشك، والكفر بالحق كمفهوم مجرد. فعمر الإنسان في حده الأقصى قرن من الزمان، يذهب خمسه تقريباً (20 عاماً) قبل اكتمال الإدراك العقلي والقدرة على البحث والاستنتاج والتجريد والتعميم، وكلها من لوازم السعي نحو بلورة مفهوم لليقين من غير طريق الوحي أو اتباع الأسلاف. كما أن عمر الإنسان يذهب ربعه أو أكثر قليلاً (25- 30 عاماً) في النوم. وكل استثناء من هذه المتوسطات – زيادةً أو نقصاً – يؤكد القواعد المطردة ولا ينفيها.

فإذا افترضنا أن الإنسان يمكن أن ينفق ما تبقى من عمره (50 إلى 55 عاماً) في البحث العقلي المجرد عن اليقين، دون أن تشغله معايش أو عوارض (عمل- طعام- راحة – مرض…) فإنه لن يكون قادراً على الوصول للحق. ذلك أن حجم المعارف والنظريات التي تراكمت في وعي البشرية ومدوناتها يجعل تحقيق مثل هذا الغرض وهماً لا يدرك. ويخطئ البعض عندما يتصور أن عليه اختراع المسلمات لا اكتشافها، فالمسلمات جزءٌ من نظام كوني يحتوي الإنسان ولا يحيط به الإنسان.

وطرق اليقين متراتبة لا تتساوى وإن بدت متوازية. ولكون إدراك اليقين مسألة مركبة، فحتى الآن على الأقل، يعد بسطها بسطاً مفصلاً مما يستعصي على العقل. فلكي يدرك العقل اليقين ينبغي أن يدرك: أولاً، أنه عقل، وأنه يعقل، وأن يدرك كذلك كيفية – أو كيفيات – التعقل ولوازمه (المقدمة – النتيجة – اللزوم – الجوهر – العرض – المتعين – المجرد – القانون العام – الثابت – المتغير…)، وأن يدرك كذلك مشكلات التعقل (الإدراك) ومزالقه، حتى يتبين الحقيقي من الزائف مما يعقله، أو يظن أنه يعقله. ثم ينبغي أن يدرك أن ثمة يقيناً.

وقد يصرفنا عن التفكير في هذا أننا تلقينا ذلك عمن سبقونا، لكن من سبقونا تلقوه هم أيضاً عمن سبقوهم… وهكذا حتى نصل إلى أول متعقل. لكن هذا المتعقل الأول يظل مجرد فرض لا يقوم عليه دليل قاطع ولا يستقيم تأسيس اليقين على فرض. فالقول بأن الإدراك العقلي حدث كطفرة بيولوجية، في تاريخ متسلسل الحلقات من التطور بدأ بالأميبا وانتهى بالإنسان، تكذبه معطيات كثيرة، فضلاً عن أنه لا يتمتع بوجاهة عقلية تجعله أرجح من القول بوجود إله خالق لا تدركه الحواس، فكلاهما غيب.

والغيب إذن مهيمن على العقل منذ البداية. أما التسليم بمقدمات لا يتوقف الإيمان بها على إخضاعها للتمحيص العقلي “مسلمات”، فهو، كما قال الفيلسوف البريطاني المعروف برتراند راسل أمر لا مفر منه وهو يعبر عن ذلك بقوله: “ليس من الممكن أن ننتقل خطوة واحدة إذا نحن بدأنا من الشك الديكارتي”، “وعلينا أن نبدأ من تسليم عريض بكل ما يبدو أنه معرفة أياً كان”. وهذه المسلمات موجودة في كل التصورات الحضارية سواء تأسست على الإيمان بوجود قوة وراء الوجود خلقته ومنحته المعنى، أو تأسست على أن هذه القوة خلقت الكون وأودعت فيه قوانين الحركة ثم تركته، أو تأسست على إنكار وجود هذه القوة ورفض مقولة الخلق. وقد تكون هذه المسلمات كامنة يحتاج إدراكها إلى جهد عقلي.

المنهج والحضارة:
والعقل كطريق لإدراك الموجودات وصولاً إلى إدراك اليقين يدركها من خلال منهج، ومناهج البحث ظلت تتطور وتنضج حتى أصبحت معروفة لكل الحضارات. وما يحدد نطاق استخدام كل منهج هو الإطار الحضاري والقيمي، فهو سابق على المنهج، وثمة تأثيرات متبادلة بين المنهج ومستخدمه، وهو تأثير يثمر تحيزات معرفية لا يمكن إدراكها إلا بالنظر إلى القضايا نفسها من خلال منهج مغاير. وفي الطريق لليقين يكون مدار عمل العقل فهم المحكم من النقل، وتأويل ما يقبل التأويل منه، والاجتهاد في ما سكت عنه العقل. وهو في كل ذلك يسترشد بالبدهيات والحقائق النقلية التي لا تقبل التأويل.

أما الحدس فهو على أهميته الشديدة مما تزل بسببه الأقدام، وتحار في الإحاطة به، على وجه الدقة، الأفهام. فهو إشراق لا يتبع خطوات الاستدلال المعروفة، بل يقفز فيه العقل من المقدمة إلى النتيجة مباشرة. وهو معين على تذوق النقل، وطريق إلى ترجيح ما تستوي فيه أدلة العقل. ولا يستقيم بناء اليقين على الحدس وحده، كما لا ينتج عنه ما تستقيم به مصالح الجماعة، كما لا يؤدي إلى إنشاء حقائق جزئية جديدة ما لم يؤيدها نقل، أو عقل، أو تجربة.

والحدس دليل على أن العقل ليس صفحة بيضاء، وهنا نتوقف أمام إعجاز حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك”. والانتقال من المقدمة إلى النتيجة في أي قياس، بسيط أو مركب، والانتقال من الحالات الفردية إلى القانون العام في أي استقراء، يقتضي أن يدرك العقل معاني: المقدمة، والنتيجة، والحالة الفردية، واللزوم، والجوهر، والعرض، والمتعين، والمجرد، والقانون العام، والثابت، والمتغير… وهنا نصبح أمام الدور ما لم نقل بالأفكار السابقة على اليقين، فيعود الوحي للهيمنة على العقل.


فالإسلام قدم للبشرية الكثير مما يجب أن نعرفه ونعرف العالم به، حتى لا تكون صورة واقع المسلمين المعيار الوحيد للحكم على عطاء الإسلام. ويبقى كل ذلك مجرد محاولة متواضعة للإجابة عن السؤال حفزتني لخوضها السطور التي كتبها الدكتور المزروعي واستثارتني لتدوينها تصريحات بيرلسكوني الطائشة عن الحضارة العربية الإسلامية.
د. محمد قطب - ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ منهج الفن الإسلامي ❝ ❞ مفاهيم ينبغي أن تصحح ❝ ❞ الإنسان بين المادية والإسلام ❝ ❞ كيف ندعوا الناس ❝ ❞ ماذا يعطى الإسلام للبشرية ❝ ❞ سخريات صغيرة ❝ الناشرين : ❞ دار الشروق للنشر والتوزيع: مصر - لبنان ❝ ❞ دار الشروق ❝ ❞ دار الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع ❝ ❱
من كتب إسلامية متنوعة - مكتبة كتب إسلامية.

نبذة عن الكتاب:
ماذا يعطى الإسلام للبشرية

رغم أن الإسلام الوحي السماوي المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أكبر من أن يوضع موضع الاتهام أو يحتاج إلى من يدافع عنه، إلا أن مسؤولية تجلية حقائقه للبشرية مسؤولية إنسانية تختلف اختلافاً تاماً عن وعد الله لعباده بحفظ الذكر. وثمة خلط يقع فيه كثيرون عندما يتحدثون عن عطاء الإسلام الحضاري في مسيرة البشرية، إذ يعددون ما أنجزه المسلمون: علماً، وتفلسفاً، وتوسعاً، وثراءً، و… بوصفها عطاء الإسلام الحضاري.

وجمعيها منجزات مدنية لعبت العقيدة الإسلامية، برؤيتها: للذات والآخر والكون وما وراء الكون، والشريعة بأحكامها دوراً كبيراً في تهيئة المناخ لظهورها، لكن هذا العطاء هو في النهاية عطاء المسلمين كبشر تفاعلوا مع منظومة معرفية متكاملة فيها أبعاد ما ورائية وأخلاقية وقواعد تنظيمية أتاحت المناخ للعطاء الحضاري، ولكنه يظل مرهوناً في تحققه بالناس الذين يتفاوت تفاعلهم، مع الفكرة من ناحية، ومع الواقع من ناحية أخرى. ولذا فإن للإسلام عطاءً حضارياً لا دور للمسلمين فيه إلا تجسيده، وهو أمر يتفاوت نجاحهم فيه صعوداً وهبوطاً.

ما الحضارة؟
ورغم ما يمثله الدور الرائد الذي قام به المسلمون في التوصل للمنهج التجريبي في العلم من فضل على البشرية، ورغم ما قدمه العلماء المسلمون لمسيرة البشرية من منجزات في كل مجالات العلم التي كان لهم فيها مساهمة، فإن هذا العطاء يمثل الثمرة أما البذرة فأكثر قيمة من ذلك بكثير. ولعل المدخل الصحيح للإحاطة بهذا الدور تحتم تعريف الحضارة، وتحفل كتابات كثيرة قديمة ومحدثة بتعريفات مختلفة للحضارة، بعضها اختلط بمفهوم المدنية وبعضها اختلط بمفهوم الثقافة. وأفضل أن أطرح تعريفاً جديداً للحضارة أراه أكثر تحديداً من المفاهيم المتداولة فهي (حسب تصوري): ” كل تصور متكامل يدعي أنه قادر على تنظيم العلاقة بين قيم: الحق والحرية والنظام، على نحو خاص”.

الإنسان واليقين:
وكل تصور حضاري ينبغي أن يتضمن بشكل ظاهر أو مضمر تصوراً لنشأة الكون وطبيعته والإنسان والطبيعة والعلاقات بينها، وبناءً على تصوره لنشأة الكون يتحدد موقف كل تصور حضاري من قضية “الألوهية” اعترافاً أو إنكاراً، أو ربما تأسس تصور نشأة الكون على الموقف من الألوهية. والعلاقة بين هذه القيم الثلاث هي مدار حركة الإنسان على الأرض، والأديان السماوية والأفكار البشرية ذات الطبيعة الكلية (الأيدلوجيات) تشكل رؤى تستهدف تنظيم هذه العلاقة على نحو ما، حيث كل الأيدلوجيات تأخذ بناء الدين. ولأن تنظيم العلاقة بين هذه القيم، التي نراها قيماً حاكمة، يتأسس بالضرورة على تحديد معنى القيم الثلاث، فإن تاريخ الفكر البشري يكاد في مجمله أن يكون سجالاً بين “النبي” و “الفيلسوف”.

ولتحديد معنى القيم الثلاث التي تعد قيماً حاكمة لعملية صياغة التصور الحضاري لا بد من مفهوم لليقين، فالحضارة بنت اليقين. ومن أهم القواعد التي وضعها الإسلام للوصول إلى اليقين: “يعرف الرجال بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال“. لكن هذه القاعدة التي تنفي كون البشر طريقاً لمعرفة الحق تثبت أن الحق طريق معرفة البشر، تكتفي بالإثبات والنفي ولا تطرح طريقاً محدداً لمعرفة الحق ولا تطرح تعريفاً للحق. والطريق إلى الحق: نقل أو عقل أو حدس أو تجربة، أما الطريق الرابع فإنه طريق إدراك الحقائق الجزئية لا طريق معرفة الحق. أما الحق فمجرد وإن دلت عليه شواهد حسية، والقاعدة تعكس اهتمام الإسلام الشديد بهدم بنية الشرك العقائدية والمعرفية، بحيث لا يكون البشر دليلاً على الحق، وإن كان بعضهم علامات على طريقه. أما النقل فإما أن يكون عن سالف أو عن مصدر مفارق لعالم الموجودات المادية. فإن كان النقل عن سالف كان اتباعاً أعاد إنتاج ظاهرة الشرك، فإن كان ذلك السلف وسيلة للنقل لا مصدراً للحق تساووا في ذلك مع غيرهم من وسائل النقل.

أما النقل عن مصدر مفارق للموجودات، وهو ما تسميه الأديان السماوية “الوحي” فهو توقيف مفارق لعالم الموجودات المادية يدركه العقل البشري ولا يحتويه، يفهمه ولا يقدر على إنتاجه. ولإدراك الحق بين ادعاءات المدعين وسائل تمح الغث من السمين، وأولها الحدس، فلا يقين بغير حدس، ظاهراً كان أو مضمراً. وقد يتأسس التمحيص على التعقل وقياس لزوم النتائج عن مقدماتهاً، لكن ذلك لا يعدو أن يكون تسويغاً تتدخل فيه ميول النفس وما يزينه الحدس، وإن لم يدركه الموقن نفسه.

إشكالية المسلمات:
وبقدر لزوم الحدس لكل يقين يلزم التسليم بمعرفة أولية لكل يقين، فإذا أخذ كل جيل من البشر على عاتقه مهمة إعادة النظر عقلياً في المسلمات بادئاً من نقطة الصفر المعرفية (على افتراض وجود هذه النقطة إذ لا وجود لها في الحقيقة)، فمن المؤكد أن يؤدي ذلك إلى توالي أجيال متعاقبة لا تتوارث إلا الشك، والكفر بالحق كمفهوم مجرد. فعمر الإنسان في حده الأقصى قرن من الزمان، يذهب خمسه تقريباً (20 عاماً) قبل اكتمال الإدراك العقلي والقدرة على البحث والاستنتاج والتجريد والتعميم، وكلها من لوازم السعي نحو بلورة مفهوم لليقين من غير طريق الوحي أو اتباع الأسلاف. كما أن عمر الإنسان يذهب ربعه أو أكثر قليلاً (25- 30 عاماً) في النوم. وكل استثناء من هذه المتوسطات – زيادةً أو نقصاً – يؤكد القواعد المطردة ولا ينفيها.

فإذا افترضنا أن الإنسان يمكن أن ينفق ما تبقى من عمره (50 إلى 55 عاماً) في البحث العقلي المجرد عن اليقين، دون أن تشغله معايش أو عوارض (عمل- طعام- راحة – مرض…) فإنه لن يكون قادراً على الوصول للحق. ذلك أن حجم المعارف والنظريات التي تراكمت في وعي البشرية ومدوناتها يجعل تحقيق مثل هذا الغرض وهماً لا يدرك. ويخطئ البعض عندما يتصور أن عليه اختراع المسلمات لا اكتشافها، فالمسلمات جزءٌ من نظام كوني يحتوي الإنسان ولا يحيط به الإنسان.

وطرق اليقين متراتبة لا تتساوى وإن بدت متوازية. ولكون إدراك اليقين مسألة مركبة، فحتى الآن على الأقل، يعد بسطها بسطاً مفصلاً مما يستعصي على العقل. فلكي يدرك العقل اليقين ينبغي أن يدرك: أولاً، أنه عقل، وأنه يعقل، وأن يدرك كذلك كيفية – أو كيفيات – التعقل ولوازمه (المقدمة – النتيجة – اللزوم – الجوهر – العرض – المتعين – المجرد – القانون العام – الثابت – المتغير…)، وأن يدرك كذلك مشكلات التعقل (الإدراك) ومزالقه، حتى يتبين الحقيقي من الزائف مما يعقله، أو يظن أنه يعقله. ثم ينبغي أن يدرك أن ثمة يقيناً.

وقد يصرفنا عن التفكير في هذا أننا تلقينا ذلك عمن سبقونا، لكن من سبقونا تلقوه هم أيضاً عمن سبقوهم… وهكذا حتى نصل إلى أول متعقل. لكن هذا المتعقل الأول يظل مجرد فرض لا يقوم عليه دليل قاطع ولا يستقيم تأسيس اليقين على فرض. فالقول بأن الإدراك العقلي حدث كطفرة بيولوجية، في تاريخ متسلسل الحلقات من التطور بدأ بالأميبا وانتهى بالإنسان، تكذبه معطيات كثيرة، فضلاً عن أنه لا يتمتع بوجاهة عقلية تجعله أرجح من القول بوجود إله خالق لا تدركه الحواس، فكلاهما غيب.

والغيب إذن مهيمن على العقل منذ البداية. أما التسليم بمقدمات لا يتوقف الإيمان بها على إخضاعها للتمحيص العقلي “مسلمات”، فهو، كما قال الفيلسوف البريطاني المعروف برتراند راسل أمر لا مفر منه وهو يعبر عن ذلك بقوله: “ليس من الممكن أن ننتقل خطوة واحدة إذا نحن بدأنا من الشك الديكارتي”، “وعلينا أن نبدأ من تسليم عريض بكل ما يبدو أنه معرفة أياً كان”. وهذه المسلمات موجودة في كل التصورات الحضارية سواء تأسست على الإيمان بوجود قوة وراء الوجود خلقته ومنحته المعنى، أو تأسست على أن هذه القوة خلقت الكون وأودعت فيه قوانين الحركة ثم تركته، أو تأسست على إنكار وجود هذه القوة ورفض مقولة الخلق. وقد تكون هذه المسلمات كامنة يحتاج إدراكها إلى جهد عقلي.

المنهج والحضارة:
والعقل كطريق لإدراك الموجودات وصولاً إلى إدراك اليقين يدركها من خلال منهج، ومناهج البحث ظلت تتطور وتنضج حتى أصبحت معروفة لكل الحضارات. وما يحدد نطاق استخدام كل منهج هو الإطار الحضاري والقيمي، فهو سابق على المنهج، وثمة تأثيرات متبادلة بين المنهج ومستخدمه، وهو تأثير يثمر تحيزات معرفية لا يمكن إدراكها إلا بالنظر إلى القضايا نفسها من خلال منهج مغاير. وفي الطريق لليقين يكون مدار عمل العقل فهم المحكم من النقل، وتأويل ما يقبل التأويل منه، والاجتهاد في ما سكت عنه العقل. وهو في كل ذلك يسترشد بالبدهيات والحقائق النقلية التي لا تقبل التأويل.

أما الحدس فهو على أهميته الشديدة مما تزل بسببه الأقدام، وتحار في الإحاطة به، على وجه الدقة، الأفهام. فهو إشراق لا يتبع خطوات الاستدلال المعروفة، بل يقفز فيه العقل من المقدمة إلى النتيجة مباشرة. وهو معين على تذوق النقل، وطريق إلى ترجيح ما تستوي فيه أدلة العقل. ولا يستقيم بناء اليقين على الحدس وحده، كما لا ينتج عنه ما تستقيم به مصالح الجماعة، كما لا يؤدي إلى إنشاء حقائق جزئية جديدة ما لم يؤيدها نقل، أو عقل، أو تجربة.

والحدس دليل على أن العقل ليس صفحة بيضاء، وهنا نتوقف أمام إعجاز حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك”. والانتقال من المقدمة إلى النتيجة في أي قياس، بسيط أو مركب، والانتقال من الحالات الفردية إلى القانون العام في أي استقراء، يقتضي أن يدرك العقل معاني: المقدمة، والنتيجة، والحالة الفردية، واللزوم، والجوهر، والعرض، والمتعين، والمجرد، والقانون العام، والثابت، والمتغير… وهنا نصبح أمام الدور ما لم نقل بالأفكار السابقة على اليقين، فيعود الوحي للهيمنة على العقل.


فالإسلام قدم للبشرية الكثير مما يجب أن نعرفه ونعرف العالم به، حتى لا تكون صورة واقع المسلمين المعيار الوحيد للحكم على عطاء الإسلام. ويبقى كل ذلك مجرد محاولة متواضعة للإجابة عن السؤال حفزتني لخوضها السطور التي كتبها الدكتور المزروعي واستثارتني لتدوينها تصريحات بيرلسكوني الطائشة عن الحضارة العربية الإسلامية. .
المزيد..

تعليقات القرّاء:

ماذا يعطى الإسلام للبشرية من كتب إسلامية

رغم أن الإسلام الوحي السماوي المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أكبر من أن يوضع موضع الاتهام أو يحتاج إلى من يدافع عنه، إلا أن مسؤولية تجلية حقائقه للبشرية مسؤولية إنسانية تختلف اختلافاً تاماً عن وعد الله لعباده بحفظ الذكر. وثمة خلط يقع فيه كثيرون عندما يتحدثون عن عطاء الإسلام الحضاري في مسيرة البشرية، إذ يعددون ما أنجزه المسلمون: علماً، وتفلسفاً، وتوسعاً، وثراءً، و… بوصفها عطاء الإسلام الحضاري.

وجمعيها منجزات مدنية لعبت العقيدة الإسلامية، برؤيتها: للذات والآخر والكون وما وراء الكون، والشريعة بأحكامها دوراً كبيراً في تهيئة المناخ لظهورها، لكن هذا العطاء هو في النهاية عطاء المسلمين كبشر تفاعلوا مع منظومة معرفية متكاملة فيها أبعاد ما ورائية وأخلاقية وقواعد تنظيمية أتاحت المناخ للعطاء الحضاري، ولكنه يظل مرهوناً في تحققه بالناس الذين يتفاوت تفاعلهم، مع الفكرة من ناحية، ومع الواقع من ناحية أخرى. ولذا فإن للإسلام عطاءً حضارياً لا دور للمسلمين فيه إلا تجسيده، وهو أمر يتفاوت نجاحهم فيه صعوداً وهبوطاً.

ما الحضارة؟
ورغم ما يمثله الدور الرائد الذي قام به المسلمون في التوصل للمنهج التجريبي في العلم من فضل على البشرية، ورغم ما قدمه العلماء المسلمون لمسيرة البشرية من منجزات في كل مجالات العلم التي كان لهم فيها مساهمة، فإن هذا العطاء يمثل الثمرة أما البذرة فأكثر قيمة من ذلك بكثير. ولعل المدخل الصحيح للإحاطة بهذا الدور تحتم تعريف الحضارة، وتحفل كتابات كثيرة قديمة ومحدثة بتعريفات مختلفة للحضارة، بعضها اختلط بمفهوم المدنية وبعضها اختلط بمفهوم الثقافة. وأفضل أن أطرح تعريفاً جديداً للحضارة أراه أكثر تحديداً من المفاهيم المتداولة فهي (حسب تصوري): ” كل تصور متكامل يدعي أنه قادر على تنظيم العلاقة بين قيم: الحق والحرية والنظام، على نحو خاص”.

الإنسان واليقين:
وكل تصور حضاري ينبغي أن يتضمن بشكل ظاهر أو مضمر تصوراً لنشأة الكون وطبيعته والإنسان والطبيعة والعلاقات بينها، وبناءً على تصوره لنشأة الكون يتحدد موقف كل تصور حضاري من قضية “الألوهية” اعترافاً أو إنكاراً، أو ربما تأسس تصور نشأة الكون على الموقف من الألوهية. والعلاقة بين هذه القيم الثلاث هي مدار حركة الإنسان على الأرض، والأديان السماوية والأفكار البشرية ذات الطبيعة الكلية (الأيدلوجيات) تشكل رؤى تستهدف تنظيم هذه العلاقة على نحو ما، حيث كل الأيدلوجيات تأخذ بناء الدين. ولأن تنظيم العلاقة بين هذه القيم، التي نراها قيماً حاكمة، يتأسس بالضرورة على تحديد معنى القيم الثلاث، فإن تاريخ الفكر البشري يكاد في مجمله أن يكون سجالاً بين “النبي” و “الفيلسوف”.

ولتحديد معنى القيم الثلاث التي تعد قيماً حاكمة لعملية صياغة التصور الحضاري لا بد من مفهوم لليقين، فالحضارة بنت اليقين. ومن أهم القواعد التي وضعها الإسلام للوصول إلى اليقين: “يعرف الرجال بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال“. لكن هذه القاعدة التي تنفي كون البشر طريقاً لمعرفة الحق تثبت أن الحق طريق معرفة البشر، تكتفي بالإثبات والنفي ولا تطرح طريقاً محدداً لمعرفة الحق ولا تطرح تعريفاً للحق. والطريق إلى الحق: نقل أو عقل أو حدس أو تجربة، أما الطريق الرابع فإنه طريق إدراك الحقائق الجزئية لا طريق معرفة الحق. أما الحق فمجرد وإن دلت عليه شواهد حسية، والقاعدة تعكس اهتمام الإسلام الشديد بهدم بنية الشرك العقائدية والمعرفية، بحيث لا يكون البشر دليلاً على الحق، وإن كان بعضهم علامات على طريقه. أما النقل فإما أن يكون عن سالف أو عن مصدر مفارق لعالم الموجودات المادية. فإن كان النقل عن سالف كان اتباعاً أعاد إنتاج ظاهرة الشرك، فإن كان ذلك السلف وسيلة للنقل لا مصدراً للحق تساووا في ذلك مع غيرهم من وسائل النقل.

أما النقل عن مصدر مفارق للموجودات، وهو ما تسميه الأديان السماوية “الوحي” فهو توقيف مفارق لعالم الموجودات المادية يدركه العقل البشري ولا يحتويه، يفهمه ولا يقدر على إنتاجه. ولإدراك الحق بين ادعاءات المدعين وسائل تمح الغث من السمين، وأولها الحدس، فلا يقين بغير حدس، ظاهراً كان أو مضمراً. وقد يتأسس التمحيص على التعقل وقياس لزوم النتائج عن مقدماتهاً، لكن ذلك لا يعدو أن يكون تسويغاً تتدخل فيه ميول النفس وما يزينه الحدس، وإن لم يدركه الموقن نفسه.

إشكالية المسلمات:
وبقدر لزوم الحدس لكل يقين يلزم التسليم بمعرفة أولية لكل يقين، فإذا أخذ كل جيل من البشر على عاتقه مهمة إعادة النظر عقلياً في المسلمات بادئاً من نقطة الصفر المعرفية (على افتراض وجود هذه النقطة إذ لا وجود لها في الحقيقة)، فمن المؤكد أن يؤدي ذلك إلى توالي أجيال متعاقبة لا تتوارث إلا الشك، والكفر بالحق كمفهوم مجرد. فعمر الإنسان في حده الأقصى قرن من الزمان، يذهب خمسه تقريباً (20 عاماً) قبل اكتمال الإدراك العقلي والقدرة على البحث والاستنتاج والتجريد والتعميم، وكلها من لوازم السعي نحو بلورة مفهوم لليقين من غير طريق الوحي أو اتباع الأسلاف. كما أن عمر الإنسان يذهب ربعه أو أكثر قليلاً (25- 30 عاماً) في النوم. وكل استثناء من هذه المتوسطات – زيادةً أو نقصاً – يؤكد القواعد المطردة ولا ينفيها.

فإذا افترضنا أن الإنسان يمكن أن ينفق ما تبقى من عمره (50 إلى 55 عاماً) في البحث العقلي المجرد عن اليقين، دون أن تشغله معايش أو عوارض (عمل- طعام- راحة – مرض…) فإنه لن يكون قادراً على الوصول للحق. ذلك أن حجم المعارف والنظريات التي تراكمت في وعي البشرية ومدوناتها يجعل تحقيق مثل هذا الغرض وهماً لا يدرك. ويخطئ البعض عندما يتصور أن عليه اختراع المسلمات لا اكتشافها، فالمسلمات جزءٌ من نظام كوني يحتوي الإنسان ولا يحيط به الإنسان.  

وطرق اليقين متراتبة لا تتساوى وإن بدت متوازية. ولكون إدراك اليقين مسألة مركبة، فحتى الآن على الأقل، يعد بسطها بسطاً مفصلاً مما يستعصي على العقل. فلكي يدرك العقل اليقين ينبغي أن يدرك: أولاً، أنه عقل، وأنه يعقل، وأن يدرك كذلك كيفية – أو كيفيات – التعقل ولوازمه (المقدمة – النتيجة – اللزوم – الجوهر – العرض – المتعين – المجرد – القانون العام – الثابت – المتغير…)، وأن يدرك كذلك مشكلات التعقل (الإدراك) ومزالقه، حتى يتبين الحقيقي من الزائف مما يعقله، أو يظن أنه يعقله. ثم ينبغي أن يدرك أن ثمة يقيناً.

وقد يصرفنا عن التفكير في هذا أننا تلقينا ذلك عمن سبقونا، لكن من سبقونا تلقوه هم أيضاً عمن سبقوهم… وهكذا حتى نصل إلى أول متعقل. لكن هذا المتعقل الأول يظل مجرد فرض لا يقوم عليه دليل قاطع ولا يستقيم تأسيس اليقين على فرض. فالقول بأن الإدراك العقلي حدث كطفرة بيولوجية، في تاريخ متسلسل الحلقات من التطور بدأ بالأميبا وانتهى بالإنسان، تكذبه معطيات كثيرة، فضلاً عن أنه لا يتمتع بوجاهة عقلية تجعله أرجح من القول بوجود إله خالق لا تدركه الحواس، فكلاهما غيب.

والغيب إذن مهيمن على العقل منذ البداية. أما التسليم بمقدمات لا يتوقف الإيمان بها على إخضاعها للتمحيص العقلي “مسلمات”، فهو، كما قال الفيلسوف البريطاني المعروف برتراند راسل أمر لا مفر منه وهو يعبر عن ذلك بقوله: “ليس من الممكن أن ننتقل خطوة واحدة إذا نحن بدأنا من الشك الديكارتي”، “وعلينا أن نبدأ من تسليم عريض بكل ما يبدو أنه معرفة أياً كان”. وهذه المسلمات موجودة في كل التصورات الحضارية سواء تأسست على الإيمان بوجود قوة وراء الوجود خلقته ومنحته المعنى، أو تأسست على أن هذه القوة خلقت الكون وأودعت فيه قوانين الحركة ثم تركته، أو تأسست على إنكار وجود هذه القوة ورفض مقولة الخلق. وقد تكون هذه المسلمات كامنة يحتاج إدراكها إلى جهد عقلي.

المنهج والحضارة:
والعقل كطريق لإدراك الموجودات وصولاً إلى إدراك اليقين يدركها من خلال منهج، ومناهج البحث ظلت تتطور وتنضج حتى أصبحت معروفة لكل الحضارات. وما يحدد نطاق استخدام كل منهج هو الإطار الحضاري والقيمي، فهو سابق على المنهج، وثمة تأثيرات متبادلة بين المنهج ومستخدمه، وهو تأثير يثمر تحيزات معرفية لا يمكن إدراكها إلا بالنظر إلى القضايا نفسها من خلال منهج مغاير. وفي الطريق لليقين يكون مدار عمل العقل فهم المحكم من النقل، وتأويل ما يقبل التأويل منه، والاجتهاد في ما سكت عنه العقل. وهو في كل ذلك يسترشد بالبدهيات والحقائق النقلية التي لا تقبل التأويل.

أما الحدس فهو على أهميته الشديدة مما تزل بسببه الأقدام، وتحار في الإحاطة به، على وجه الدقة، الأفهام. فهو إشراق لا يتبع خطوات الاستدلال المعروفة، بل يقفز فيه العقل من المقدمة إلى النتيجة مباشرة. وهو معين على تذوق النقل، وطريق إلى ترجيح ما تستوي فيه أدلة العقل. ولا يستقيم بناء اليقين على الحدس وحده، كما لا ينتج عنه ما تستقيم به مصالح الجماعة، كما لا يؤدي إلى إنشاء حقائق جزئية جديدة ما لم يؤيدها نقل، أو عقل، أو تجربة.

والحدس دليل على أن العقل ليس صفحة بيضاء، وهنا نتوقف أمام إعجاز حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك”. والانتقال من المقدمة إلى النتيجة في أي قياس، بسيط أو مركب، والانتقال من الحالات الفردية إلى القانون العام في أي استقراء، يقتضي أن يدرك العقل معاني: المقدمة، والنتيجة، والحالة الفردية، واللزوم، والجوهر، والعرض، والمتعين، والمجرد، والقانون العام، والثابت، والمتغير… وهنا نصبح أمام الدور ما لم نقل بالأفكار السابقة على اليقين، فيعود الوحي للهيمنة على العقل.


فالإسلام قدم للبشرية الكثير مما يجب أن نعرفه ونعرف العالم به، حتى لا تكون صورة واقع المسلمين المعيار الوحيد للحكم على عطاء الإسلام. ويبقى كل ذلك مجرد محاولة متواضعة للإجابة عن السؤال حفزتني لخوضها السطور التي كتبها الدكتور المزروعي واستثارتني لتدوينها تصريحات بيرلسكوني الطائشة عن الحضارة العربية الإسلامية.



حجم الكتاب عند التحميل : 739.8 كيلوبايت .
نوع الكتاب : pdf.
عداد القراءة: عدد قراءة ماذا يعطى الإسلام للبشرية

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل ماذا يعطى الإسلام للبشرية
شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

برنامج تشغيل ملفات pdfقبل تحميل الكتاب ..
يجب ان يتوفر لديكم برنامج تشغيل وقراءة ملفات pdf
يمكن تحميلة من هنا 'http://get.adobe.com/reader/'

المؤلف:
د. محمد قطب - Dr.. Muhammad Qutb

كتب د. محمد قطب ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ منهج الفن الإسلامي ❝ ❞ مفاهيم ينبغي أن تصحح ❝ ❞ الإنسان بين المادية والإسلام ❝ ❞ كيف ندعوا الناس ❝ ❞ ماذا يعطى الإسلام للبشرية ❝ ❞ سخريات صغيرة ❝ الناشرين : ❞ دار الشروق للنشر والتوزيع: مصر - لبنان ❝ ❞ دار الشروق ❝ ❞ دار الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع ❝ ❱. المزيد..

كتب د. محمد قطب