❞ كتاب السلطان محمد الفاتح ❝  ⏤ محمد سالم الرشيدي

❞ كتاب السلطان محمد الفاتح ❝ ⏤ محمد سالم الرشيدي


صاحب البِشارة الملكُ المُجاهد والسُلطان الغازي أبي الفتح والمعالي مُحمَّد خان الثاني بن مُراد بن مُحمَّد العُثماني (بالتُركيَّة العُثمانيَّة: صاحب بِشارۀ الملكُ المُجاهد غازى سُلطان مُحمَّد خان ثانى بن مُراد بن مُحمَّد عُثمانى؛ وبالتُركيَّة المُعاصرة: Sultan II. Mehmed Han ben Gazi Murad)، ويُعرف اختصارًا باسم مُحمَّد الثاني، وبِلقبه الأشهر مُحمَّد الفاتح (بالتُركيَّة العُثمانيَّة: مُحمَّد ثانى أو مُحمَّد فاتح أو فاتح سُلطان مُحمَّد؛ وبالتُركيَّة المُعاصرة: II. Mehmed أو Fatih Sultan Mehmed)؛ هو سابع سلاطين آل عُثمان وخامس من تلقَّب بِلقب سُلطانٍ بينهم بعد والده مُراد وجدُّه مُحمَّد الأوَّل وجدَّاه بايزيد ومُراد، وثاني من لُقِّب بِالـ«ثاني» من سلاطين آل عُثمان، وأوَّل من حمل لقب «قيصر الروم» من الحُكَّام المُسلمين عُمومًا والسلاطين العُثمانيين خُصوصًا. يُلقَّب بِـ«صاحب البِشارة» اعتقادًا من جُمهُور المُسلمين أنَّ نُبُوءة الرسول مُحمَّد القائلة بِفتح القُسطنطينيَّة قد تحققت على يديه، كما لُقِّب في أوروپَّا بِـ«التُركي الكبير» (باللاتينية: Grand Turco) و«إمبراطور التُرك» (باللاتينية: Turcarum Imperator) نظرًا لِأهميَّة وعظمة إنجازاته وانتصاراته العسكريَّة التي حققها على حساب القوى المسيحيَّة، علمًا بِأنَّ المقصود بِـ«التُركي» هُنا هو «المُسلم» عُمومًا، وليس التُركي عرقيًّا، لأنَّ التسميتان كانتا تعنيان شيئًا واحدًا في المفهوم الأوروپي آنذاك.(1)

جلس مُحمَّد الثاني على عرش الدولة العُثمانيَّة مرَّتين: الأولى بُعيد وفاة شقيقه الأكبر علاء الدين واعتزال والده مُراد الحياة السياسيَّة بعد تلقيه هزيمة نكراء على يد تحالُفٍ صليبيٍّ، فانقطع لِلعبادة في تكيَّة مغنيسية وترك شُؤون الحُكم لِولده، وفي تلك الفترة كان السُلطان الجديد ما يزال قاصرًا، فلم يتمكَّن من الإمساك بِمقاليد الحُكم إمساكًا متينًا، لا سيَّما وأنَّ الدوائر الحاكمة في أوروپَّا استغلَّت حداثة سن السُلطان ففسخت الهدنة التي أبرمتها مع والده، وجهَّزوا جُيُوشًا لِمُحاربة الدولة العُثمانيَّة، فأُجبر السُلطان مُراد على الخُرُوج من عُزلته والعودة إلى السلطنة لِإنقاذها من الأخطار المُحدقة بها، فقاد جيشًا جرَّارًا والتقى بِالعساكر الصليبيَّة عند مدينة وارنة (ڤارنا) البُلغاريَّة وانتصر عليها انتصارًا كبيرًا، ثُمَّ عاد إلى عُزلته لكنَّهُ لم يلبث بها طويلًا هذه المرَّة أيضًا، لأنَّ عساكر الإنكشاريَّة ازدروا بِالسُلطان مُحمَّد الفتى، وعاثوا فسادًا في العاصمة أدرنة، فعاد السُلطان مُراد إلى الحُكم وأشغل جُنُوده بِالحرب في أوروپَّا، وبِالأخص في الأرناؤوط، لِإخماد فتنة إسكندر بك الذي شقَّ عصا الطاعة وثار على الدولة العُثمانيَّة، لكنَّ المنيَّة وافت السُلطان قبل أن يُتم مشروعه بِالقضاء على الثائر المذكور، فاعتلى ابنه مُحمَّد العرش لِلمرَّة الأُخرى، التي قُدِّر لها أن تكون مرحلةً ذهبيَّة في التاريخ الإسلامي.

ولمَّا تولَّى مُحمَّد الثاني المُلك بعد أبيه لم يكن بِآسيا الصُغرى خارجًا عن سُلطانه إلَّا جُزءٌ من بلاد القرمان وبعض مُدن ساحل بحر البنطس (الأسود) وإمبراطوريَّة طرابزون الروميَّة. وصارت الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة قاصرة على مدينة القُسطنطينيَّة وضواحيها. وكان إقليم المورة مُجزَّأ بين البنادقة وعدَّة إمارات صغيرة يحكُمُها بعض أعيان الروم أو الإفرنج الذين تخلَّفوا عن إخوانهم بعد انتهاء الحُرُوب الصليبيَّة، وبلاد الأرناؤوط وإپيروس في حمى العاصي إسكندر بك، وبلاد البُشناق مُستقلَّة والصرب تابعة لِلدولة العُثمانيَّة تابعيَّة سياديَّة، وقسمٌ كبير ممَّا بقي من شبه الجزيرة البلقانيَّة داخلًا تحت السُلطة العُثمانيَّة. وقد سعى السُلطان الشاب إلى تحقيق وصيَّة والده بِفتح القُسطنطينيَّة ورغب بِتتميم فتح ما بقي من بلاد البلقان أيضًا حتَّى تكون أملاكه مُتصلة لا يتخلَّلُها أعداءٌ وثغراتٌ أمنيَّة. وفي سنة 857هـ المُوافقة لِسنة 1453م، حاصر السُلطان مُحمَّد القُسطنطينيَّة بعد أن حشد لِقتال البيزنطيين جيشًا عظيمًا مُزوَّدًا بِالمدافع الكبيرة، وأُسطُولًا ضخمًا، وبِذلك حاصرهم من ناحيتيّ البر والبحر معًا. والواقع أنَّ البيزنطيين استماتوا في الدفاع عن عاصمتهم، ولكنَّ جُهُودهم ذهبت أدراج الريح، فما انقضى شهرٌ على الحصار حتَّى تهدَّمت بعض أجزاء الأسوار التي كانت تحمي المدينة، وتدفَّق العُثمانيُّون من خلال الثغرات إلى قلب القُسطنطينيَّة، فسقطت في أيديهم وأصبحت جُزءًا من ديار الإسلام، وشكَّل سُقُوطُ المدينة نهاية الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة بعد أن استمرَّت أحد عشر قرنًا ونيفًا، وعدَّ المُؤرِّخون الغربيُّون هذا الحدث نهاية العُصُور الوُسطى وبداية الحقبة الحديثة، ومُنذ تلك الفترة عُرفت القُسطنطينيَّة باسم «إستانبول أو إسلامبول» أو «الآستانة»، ولُقِّب السُلطان مُحمَّد بـ«الفاتح»، وعُدَّ مُنذُ ذلك الوقت أحد أبطال الإسلام ومن كبار القادة الفاتحين في التاريخ. انسابت موجات الفُتُوحات الإسلاميَّة في البلقان بِقيادة السُلطان مُحمَّد بعد سُقُوط القُسطنطينيَّة، ممَّا أثار مخاوف الدُول الأوروپيَّة، فشنَّت على العُثمانيين حربًا طويلة بِزعامة جُمهُوريَّة البُندُقيَّة، وحاولت هذه القوى التحالف مع بعض أعداء السلطنة في آسيا، لكنَّ مُحمَّد الفاتح تمكَّن من هزيمة هذا التحالف، وأجبر البنادقة على توقيع مُعاهدة صُلحٍ مع العُثمانيين بعد حوالي 16 سنة من القتال.

تميَّز عهد مُحمَّد الفاتح بِالتمازج الحضاري الإسلامي والمسيحي، بعدما هضمت الدولة العُثمانيَّة الكثير من مؤسسات الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، وعملت على إحياء بعضها وصبغه بِصبغة إسلاميَّة جديدة، فانتعشت عاصمة الروم العتيقة، وأصبحت إحدى أهم المراكز الثقافيَّة في العالم الإسلامي، لا سيَّما بعدما ابتنى فيها السُلطان عدَّة مدارس ومكتبات وتكايا ومُؤسساتٍ خيريَّةٍ ووقفيَّة، وأبقى فيها الكثير من أبنائها الأصليين من المسيحيين واليهود في سبيل الاستفادة من خبراتهم، وشجَّع المُسلمين على الانتقال إليها في سبيل الاستفادة من مزاياها التجاريَّة وعلم أهلها. وقد ظهر السُلطان مُحمَّد بِمظهر راعي بطريركيَّة القُسطنطينيَّة الأرثوذكسيَّة المسكونيَّة في مُواجهة البابويَّة والكنيسة الكاثوليكيَّة. وشهد عهد مُحمَّد الفاتح أيضًا دُخُول أعدادٍ كبيرةٍ من الأرناؤوطيين والبُشناقيين في الإسلام، وقد قُدَّر لِبعض هؤلاء أن يلعب أدوارًا بارزةً في الميادين العسكريَّة والمدنيَّة في التاريخ العُثماني لاحقًا. وكان السُلطان مُحمَّد عالي الثقافة، وقد تحدَّث عدَّة لُغات إلى جانب لُغته التُركيَّة الأُم، وهي: العربيَّة والفارسيَّة والعبرانيَّة والروميَّة واللاتينيَّة والصربيَّة. كما تمتع مُحمَّد الفاتح بِمهاراتٍ إداريَّةٍ فذَّة، فأصدر الكثير من القوانين العُرفيَّة لِتنظيم الحُكم في دولته، وكان له اهتمامات وهوايات عديدة، كالبستنة وصناعة الخواتم، لكنَّ شغفهُ الحقيقيّ كان رسم الخرائط. وكان مُحمَّد الفاتح تقيًّا صالحًا مُلتزمًا بِحُدُود الشريعة الإسلاميَّة، وفي ذلك يقول المُؤرِّح أحمد بن يُوسُف القرماني: «...وَهُوَ السُّلطَانُ الضِّلِّيلُ، الفَاضِلُ النَّبِيلُ، أَعظَمَ المُلُوكِ جِهَادًا، وَأَقوَاهُم إِقدَامًا وَاجتِهَادًا، وَأَكثَرُهُم تَوَكُّلًا عَلَى اللهِ تَعَالَىٰ وَاعتِمَادًا. وَهُوَ الذِي أَسَّسَ مُلكَ بَنِي عُثمَان، وَقَنَّنَ لَهُم قَوَانِين، صَارَت كَالطَّوقِ فِي أَجيَادِ الزَّمَانِ. وَلَهُ مَنَاقِبَ جَمِيلَة، ومَزَايَا فَاضِلَة جَلِيلَة، وَآثَارٌ بَاقِيَةٌ فِي صَفَحَاتِ اللَّيَالِي وَالأَيَّام، وَمَآثِرٌ لَا يَمحُوهَا تَعَاقُب السِّنِينِ وَالأَعوَام».

دوافع الفتح
بعد أن مكث السُلطان بِبورصة عدَّة أيَّام، قام وعاد إلى أدرنة عاصمة مُلكه، وعبر إليها من طريق قوجه إيلي بعد أن بلغه بِأنَّ سُفن الإفرنج قد سدَّت معبر گليپولي. وكان يضمرُ فتح القُسطنطينيَّة، وصمَّم على وصيَّة والده إليه، فشرع في إعداد العدَّة لِلفتح الكبير المُنتظر. والحقيقة أنَّهُ كان لِمُحمَّدٍ الثاني عدَّة أسباب لِفتح القُسطنطينيَّة، إلى جانب رغبته بِتنفيذ وصيَّة والده وتحقيق البشارة النبويَّة، ويُمكن شمل هذه الأسباب في ما يلي:

انتعشت من جديد، في عهد مُحمَّد الثاني، سياسة الفُتُوح والنظام المركزي، اللذين كان يجري تطبيقهما في أيَّام السُلطان بايزيد الأوَّل، وراح تقليد الغزو التُركماني يتحوَّلُ إلى غايةٍ داخل الإطار الإسلامي، وكان العائق الوحيد أمام مُحمَّد الثاني، لِتنفيذ سياسته العالميَّة، هو الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة التي كانت المُحرِّك الأوَّل لِلتهديد الصليبي، فكان لا بُدَّ من حلٍّ لِهذه المُشكلة.

ظلَّت الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة تُقاوم نصف قرنٍ من الزمن بعد غزو تيمورلنك، مُعتمدةً في ذلك على التلاعب بِورقة الطامعين بِالعرش العُثماني، والتهديد بِشنِّ حملاتٍ صليبيَّةٍ جديدةٍ. وهكذا استغلَّت بيزنطة انشغال مُحمَّد الثاني بِالهُجُوم على الإمارة القرمانيَّة فهدَّدت بِإطلاق سراح الشاهزاده أورخان، المُطالب بِالعرش العُثماني، لِتُرغم السُلطان على تقديم بعض التنازُلات. وكان الإمبراطور البيزنطي قد أرسل وفدًا إلى السُلطان مُحمَّد في مقرِّه العسكري بِالأناضول، طالبًا منه زيادة المبلغ المُقرَّر دفعه إلى الخزينة البيزنطيَّة، مُقابل مصروف الشاهزاده سالف الذِكر، إلى ضعفيه؛ مُشيرًا إلى أنَّهُ إن لم يزد ذلك المبلغ، فإنَّهُ سوف يجعل أورخان حُرًّا طليقًا، يُنازعه الحُكم. وبِموجب إحدى الروايات، فإنَّ مُحمَّدًا الثاني، الذي لم يكن يُريد نُشُوب أي مُشكلة مع بيزنطة قبل وضع الحصار على القُسطنطينيَّة، ذكر لِأعضاء الوفد أنَّهُ لمَّا يرجع إلى أدرنة فسوف يحل المسألة، وبِذلك رجع الوفد البيزنطي. وبِموجب رواية أُخرى أنَّهُ رفض الطلب على الفور. وهُناك رواية تُشير إلى أنَّ هذا التصرُّف الغريب والصبياني، من الإمبراطور البيزنطي، كان لهُ تأثيرٌ كبيرٌ في التعجيل بِفتح القُسطنطينيَّة.

إنَّ فتح عاصمة الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة كان هدفًا دائمًا لِلمُسلمين مُنذُ خِلافة مُعاوية بن أبي سُفيان، لكنَّ مُحاولاتهم المُتكرِّرة لِفتحها باءت بِالفشل بِفضل موقع المدينة وقُوَّة الإمبراطوريَّة، وبِفعل الخطط العسكريَّة المُنفَّذة والقائمة على أساسٍ غير سليم. وعندما قامت الدولة العُثمانيَّة ونمت قُوَّتها، كان فتح القُسطنطينيَّة، وتحويل الدولة المحليَّة إلى دولةٍ ذات توجُّهٍ عالميّ، حُلمًا يُراودُ السلاطين العُثمانيين مُنذُ عهد بايزيد الأوَّل.
ورث مُحمَّد الثاني دولةً كانت لا تزال مُنقسمةً إلى قسمين: الأناضول الذي أضحى بلادًا إسلاميَّةً اندمجت في حضارة وثقافة الإسلام، والروملِّي الذي كان قد فُتح حديثًا ولا يزال منطقة ثُغُور، وتأثَّر تأثُرًا عميقًا بِنظريَّات وتقاليد مُجاهدي الثُغُور الذين استوطنوه، كما تأثَّر بِمُعتقدات وطُرق الدراويش الصوفيَّة الذين صحبوا هؤلاء المُجاهدين، فكان الوضع يتطلَّب إيجاد صلة بين القسمين، بين العاصمة القديمة بورصة، في آسيا الصُغرى، والعاصمة الجديدة أدرنة، في الروملِّي، وكانت القُسطنطينيَّة تُشكِّلُ هذه الصلة.

سبق لِلسلاطين العُثمانيين، قبل مُحمَّد الثاني، أن حاولوا فتح القُسطنطينيَّة، وقد شعروا بِأنَّها العاصمة الطبيعيَّة لِدولتهم، إذ أنَّ بقاءها في أيدي البيزنطيين من شأنه أن يُهدِّد المُوصلات وعمليَّات نقل القُوَّات ما بين أملاكهم الآسيويَّة والأوروپيَّة، أمَّا فتحها فإنَّهُ كفيل بِتشديد قبضتهم على الأراضي التي يحكمونها، ويخلع عليهم المهابة والعظمة، وأضحى هذا الفتح ضرورة سياسيَّة واستراتيجيَّة مُلحَّة، فضلًا عمَّا فيه من مغزى ديني كبير.
الإعداد لِلفتح الكبير

لمَّا كان الهم الأكبر لِلسُلطان مُحمَّد هو فتح العاصمة الروميَّة العتيقة، كان عليه السيطرة على مضيق البوسفور وإحكام الرقابة العُثمانيَّة على جميع السُفن المارَّة من المضيق المذكور. ومن أجل هذا، فكَّر بِبناء قلعةٍ حصينةٍ تتحكَّم بِحركة الملاحة في تلك المياه، وكي لا يشرع الرُّوم بِأي أعمالٍ حربيَّةٍ قبل إتمام القلعة، أرسل إلى الإمبراطور البيزنطي يطلب منهُ إذن الشُرُوع في البناء بِحُجَّة حماية المُمتلكات العُثمانيَّة وتوفير الأمن بين الأناضول والروملِّي، لكن يبدو أنَّ الإمبراطور فطن لِقصد السُلطان، فاعتذر إليه بِإنَّ الطرف المطلوب ليس من أملاك الروم ولا يجري حُكمه فيه، وإنما هو من أملاك الإفرنج الجنويين، فقال السُلطان أنَّ لا حاجة لِلعُثمانيين في الاستئذان من الإفرنج، فأمر البنَّائين - وكانوا أربعمائة - وأعانهم العسكر أيضًا، فبنوا تلك القلعة الحصينة خِلال فترةٍ وجيزة.

وفي إحدى الروايات أنَّ السُلطان لمَّا أظهر مُسالمة الإمبراطور، طلب منه أن يهبه أرضًا من طرف بلاده بِمقدار جلد ثور، فتعجَّب ذلك قُسطنطين لكنَّهُ منح نظيره المُسلم ما طلب. فأرسل السُلطان جماعة البنَّائين والصُنَّاع، فاجتازوا المضيق وقدُّوا جلد ثورٍ قدًّا رقيقًا، فبسطوه على وجه الأرض على أضيق محل من فم الخليج، فبنوا على القدر الذي أحاطه ذلك الجلد سورًا منيعًا شامخًا، وحصنًا رفيعًا باذخًا، وركَّبوا فيه المدافع وجعلوا له المزاغل.

وكان السُلطان مُحمَّد قد وصل إلى موقع البناء في يوم الأحد 5 ربيع الأوَّل 855هـ المُوافق فيه 26 آذار (مارس) 1451م، لِيُشرف بِنفسه على حُسن سير العمل، وقد أمر بهدم أطلال كنيسة القدِّيس ميخائيل الموجودة في تلك الناحية وأضاف أنقاضها إلى المواد التي أتى بها من الأناضول، كما أتى بالأخشاب اللازمة من المناطق الخاضعة له على شواطئ بحر البنطس (الأسود) ومن إزميد. وبقي السُلطان في هذا الموقع إلى أن اكتملت القلعة بعد بضعة أشهُر. ولمَّا كان العملُ جاريًا على قدمٍ وساقٍ في بناء القلعة العتيدة، كان السُلطان مُحمَّد يُضيف بعض الملاحق إلى قلعة أناضولي حصار التي شيَّدها السُلطان بايزيد الأوَّل بِبر آسيا، فرمَّم بعض استحكاماتها، وشحنها بِالمدافع والمُقاتلة، وبِذلك تمكَّن من التحكُّم في البوسفور في أضيق محلٍّ منه من الجانبين.

ويُذكر أنَّ أعمال الإنشاء والبناء في القلعة الجديدة، التي سُمِّيت في المصادر العُثمانيَّة القديمة «بوغاز كسن حصاري» أي «القلعة قاطعة المضيق»، ثُمَّ عُرفت لاحقًا بِـ«قلعة روملِّي حصار»، تمَّت في أربعة أشهُرٍ؛ وتذكر إحدى الروايات أنَّها اكتملت في أربعين يومًا، في حين تُقدِّرُ دراساتٌ مُعاصرة أنَّ هذا العمل الهائل اكتمل خِلال ثلاثة أشهر ونصف. ولمَّا اكتملت القلعة، شحنها السُلطان بِأربعمائة جُندي مُختار بِقيادة فيروز آغا، ونُصبت فيها مدافعٌ بِمُختلف الأبعاد. وأمر السُلطان فيروز آغا بِتوقيف جميع السُفن المارَّة بِالمضيق وتفتيشها، وتحصيل رسم مُناسب مع حُمُولاتها، وإغراق أي سفينة لا تُطيع الأوامر. ولقد قام فيروز آغا بِتنفيذ هذا الأمر، حيثُ أغرق سفينة تابعة لِلبُندُقيَّة، في شهر شعبان المُوافق لِشهر آب (أغسطس)، نظرًا لِرفضها امتثال الأوامر. وعاد السُلطان إلى أدرنة يوم الإثنين 12 شعبان المُوافق فيه 28 آب (أغسطس)، لِيُتابع استعدادات فتح القُسطنطينيَّة.

باكتمال القلعة، كسب السُلطان مُحمَّد موقعًا استراتيجيًّا واقتصاديًّا يحول دون وُصُول الإمدادات القادمة من إمبرطوريَّة طرابزون عن طريق بحر البنطس (الأسود)، وبِالتالي عزل القُسطنطينيَّة اقتصاديًّا، وأصبحت قلعته الجديدة قاعدةً لِأعماله العسكريَّة في أوروپَّا ومُستودعًا لِلزَّاد والعتاد. كان بناء القلعة بِمثابة النُقطة الحرجة التي وصلت إليها العلاقة السلميَّة بين البيزنطيين والعُثمانيين، إذ أدرك الإمبراطور أنَّ بناءها مُقدِّمة لِإسقاط المدينة، فتملَّكهُ الهلع، وأرسل وفدًا إلى السُلطان في أدرنة لِلاحتجاج، لِأنَّ بناء القلعة بِنظره يعني خرق السُلطان لِلمُعاهدة التي سبق أن عقدها والده مع الإمبراطور يُوحنَّا الثامن ونصَّت على عدم قيام العُثمانيين بِبناء تحصيناتٍ على الساحل الأوروپي لِلبوسفور، إلَّا أنَّ السُلطان أبدى عدم اكتراث، وبيَّن بِصُورةٍ قاطعةٍ أنَّهُ لم يخرق أيَّة مُعاهدة، وأنَّهُ رجل سلام، وأنَّ ما قام به تطلَّبته سلامة دولته وجيشه، وأنَّهُ لم يستهدف نُشُوب الحرب.

وذكَّر السُلطان مُحمَّد الوفد أنَّ موقع القلعة لا يتبع بيزنطة ولا الجنويين، وأنَّهُ نُقطة عُبُور تابعة لِلعُثمانيين وحدهم. يُضاف إلى ذلك، أنَّ توفير الأمن اللازم لِلمضيق سوف يقضي على قرصنة فُرسان الإسبتاريَّة والبنادقة والقطلونيين وغيرهم ممن يُضر بِالتجارة العُثمانيَّة والبيزنطيَّة على حدٍ سواء. ولمَّا رأى السُلطان إصرار الوفد على موقفه قال لهم: «إِنَّ لَكُم القُسطَنطِينِيَّةَ بِأسوَارِهَا وَلَيسَ لَكُم وَرَاءَ ذَلِكَ مِن شَيءٍ، وَهَل نَسِيتُم مَا انتَابَ وَالِدي مِنَ الفَزَعِ عِندَمَا تَحَالَفَ إِمبَرَاطُورُكُم مَعَ المَجَرِ؟...

وَقَد ارتَعَد المُسلِمُونَ مِنَ الخَوفِ والفَزَعِ، وكُنتُم تسخَرُونَ مِنهُم وَتشمَتُون...»، وأعلمهم أنَّهُ ليس لِلرُّومِ الحق أو القُوَّة في منع ما يقوم به، فإنَّ كلا الشاطئين يتبع الدولة العُثمانيَّة، فأمَّا الشاطئ الآسيوي فلِأنَّهُ يسكنه المُسلمون، وأمَّا الشاطئ الأوروپي فلِأنَّ الروم هجروه ولا يقدرون على الدفاع عنه. وطرد السُلطان أعضاء الوفد شرَّ طردة قائلًا لهم: «اذْهَبُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ وَأَخْبَرُوهُ أَنَّ السُّلْطَانَ العُثْمانِيُّ الآنَ يَخْتَلِفُ عَن أَجدَادِهِ فَإِنَّ لِي عَزمًا فَوقَ عَزمِهِم وَقُوَّةً فَوقَ قُوَّتِهم، اِنصَرِفُوا الآنَ إِلَى دِيَارِكُم بِسَلَامٍ، وَواللهِ مَا جَائَنِي أَحَدٌ مِنكُم بَعدَ ذَلِكَ بِمِثلِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ إلَّا قَتَلتُه».

نتيجةً لِرد السُلطان قرَّر الإمبراطور العمل على تدمير القلعة وقتل حاميتها، فحذَّرهُ رجال بلاطه أنَّ هذا لا يعني سوى الإسراع في إعلان حربٍ غير مُتكافئة، وكان الإمبراطور يُدرك ذلك، إلَّا أنَّهُ اعتقد أنَّ لا قيمة لِتأجيل الحرب.

وبِموجب إحدى الروايات فإنَّ الصدر الأعظم خليل باشا الجندرلي حاول إقناع السُلطان مُحمَّد بِعدم مُهاجمة القُسطنطينيَّة، وذلك مُقابل مبلغٍ من المال تلقَّاه من الإمبراطور البيزنطي. وبِحسب هذه الرواية فإنَّ الإمبراطور أرسل إلى خليل باشا، الذي كان على علاقةٍ وثيقةٍ وقديمةٍ بِالإمبراطور، أسماكًا محشُوَّةً بِالذهب؛ فعمل الباشا، مُقابل هذا الذهب، على إقناع السُلطان بِالتخلِّي عن فكرة الفتح. إلَّا أنَّ السُلطان، الذي كان يعلم حقيقة الموضوع، قال أنَّهُ سيُمضي الشتاء في أدرنة ثُمَّ يُفكِّر في الموضوع عند حُلُول الربيع.

وتُشير المصادر البيزنطيَّة أيضًا، أنَّ العُثمانيين كانوا يُسمُّون خليل باشا بِـ«شريك الكافر». وفي جميع الأحوال، فإنَّ المصادر تتفق بِشكلٍ عام، أنَّ خليل باشا كان مُعارضًا لِلحملة على القُسطنطينيَّة؛ بل يتجاوز الأمر ذلك، حيثُ يوجد ادعاء بأنَّ الصدر الأعظم سالف الذِكر، كان يتجسَّس لِصالح الروم.

محمد سالم الرشيدي - ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ السلطان محمد الفاتح ❝ ❞ السلطان محمد الفاتح ❝ الناشرين : ❞ دار البشير للثقافة والعلوم ❝ ❱
من التراجم والأعلام - مكتبة كتب إسلامية.

نبذة عن الكتاب:
السلطان محمد الفاتح

2013م - 1446هـ

صاحب البِشارة الملكُ المُجاهد والسُلطان الغازي أبي الفتح والمعالي مُحمَّد خان الثاني بن مُراد بن مُحمَّد العُثماني (بالتُركيَّة العُثمانيَّة: صاحب بِشارۀ الملكُ المُجاهد غازى سُلطان مُحمَّد خان ثانى بن مُراد بن مُحمَّد عُثمانى؛ وبالتُركيَّة المُعاصرة: Sultan II. Mehmed Han ben Gazi Murad)، ويُعرف اختصارًا باسم مُحمَّد الثاني، وبِلقبه الأشهر مُحمَّد الفاتح (بالتُركيَّة العُثمانيَّة: مُحمَّد ثانى أو مُحمَّد فاتح أو فاتح سُلطان مُحمَّد؛ وبالتُركيَّة المُعاصرة: II. Mehmed أو Fatih Sultan Mehmed)؛ هو سابع سلاطين آل عُثمان وخامس من تلقَّب بِلقب سُلطانٍ بينهم بعد والده مُراد وجدُّه مُحمَّد الأوَّل وجدَّاه بايزيد ومُراد، وثاني من لُقِّب بِالـ«ثاني» من سلاطين آل عُثمان، وأوَّل من حمل لقب «قيصر الروم» من الحُكَّام المُسلمين عُمومًا والسلاطين العُثمانيين خُصوصًا. يُلقَّب بِـ«صاحب البِشارة» اعتقادًا من جُمهُور المُسلمين أنَّ نُبُوءة الرسول مُحمَّد القائلة بِفتح القُسطنطينيَّة قد تحققت على يديه، كما لُقِّب في أوروپَّا بِـ«التُركي الكبير» (باللاتينية: Grand Turco) و«إمبراطور التُرك» (باللاتينية: Turcarum Imperator) نظرًا لِأهميَّة وعظمة إنجازاته وانتصاراته العسكريَّة التي حققها على حساب القوى المسيحيَّة، علمًا بِأنَّ المقصود بِـ«التُركي» هُنا هو «المُسلم» عُمومًا، وليس التُركي عرقيًّا، لأنَّ التسميتان كانتا تعنيان شيئًا واحدًا في المفهوم الأوروپي آنذاك.(1)

جلس مُحمَّد الثاني على عرش الدولة العُثمانيَّة مرَّتين: الأولى بُعيد وفاة شقيقه الأكبر علاء الدين واعتزال والده مُراد الحياة السياسيَّة بعد تلقيه هزيمة نكراء على يد تحالُفٍ صليبيٍّ، فانقطع لِلعبادة في تكيَّة مغنيسية وترك شُؤون الحُكم لِولده، وفي تلك الفترة كان السُلطان الجديد ما يزال قاصرًا، فلم يتمكَّن من الإمساك بِمقاليد الحُكم إمساكًا متينًا، لا سيَّما وأنَّ الدوائر الحاكمة في أوروپَّا استغلَّت حداثة سن السُلطان ففسخت الهدنة التي أبرمتها مع والده، وجهَّزوا جُيُوشًا لِمُحاربة الدولة العُثمانيَّة، فأُجبر السُلطان مُراد على الخُرُوج من عُزلته والعودة إلى السلطنة لِإنقاذها من الأخطار المُحدقة بها، فقاد جيشًا جرَّارًا والتقى بِالعساكر الصليبيَّة عند مدينة وارنة (ڤارنا) البُلغاريَّة وانتصر عليها انتصارًا كبيرًا، ثُمَّ عاد إلى عُزلته لكنَّهُ لم يلبث بها طويلًا هذه المرَّة أيضًا، لأنَّ عساكر الإنكشاريَّة ازدروا بِالسُلطان مُحمَّد الفتى، وعاثوا فسادًا في العاصمة أدرنة، فعاد السُلطان مُراد إلى الحُكم وأشغل جُنُوده بِالحرب في أوروپَّا، وبِالأخص في الأرناؤوط، لِإخماد فتنة إسكندر بك الذي شقَّ عصا الطاعة وثار على الدولة العُثمانيَّة، لكنَّ المنيَّة وافت السُلطان قبل أن يُتم مشروعه بِالقضاء على الثائر المذكور، فاعتلى ابنه مُحمَّد العرش لِلمرَّة الأُخرى، التي قُدِّر لها أن تكون مرحلةً ذهبيَّة في التاريخ الإسلامي.

ولمَّا تولَّى مُحمَّد الثاني المُلك بعد أبيه لم يكن بِآسيا الصُغرى خارجًا عن سُلطانه إلَّا جُزءٌ من بلاد القرمان وبعض مُدن ساحل بحر البنطس (الأسود) وإمبراطوريَّة طرابزون الروميَّة. وصارت الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة قاصرة على مدينة القُسطنطينيَّة وضواحيها. وكان إقليم المورة مُجزَّأ بين البنادقة وعدَّة إمارات صغيرة يحكُمُها بعض أعيان الروم أو الإفرنج الذين تخلَّفوا عن إخوانهم بعد انتهاء الحُرُوب الصليبيَّة، وبلاد الأرناؤوط وإپيروس في حمى العاصي إسكندر بك، وبلاد البُشناق مُستقلَّة والصرب تابعة لِلدولة العُثمانيَّة تابعيَّة سياديَّة، وقسمٌ كبير ممَّا بقي من شبه الجزيرة البلقانيَّة داخلًا تحت السُلطة العُثمانيَّة. وقد سعى السُلطان الشاب إلى تحقيق وصيَّة والده بِفتح القُسطنطينيَّة ورغب بِتتميم فتح ما بقي من بلاد البلقان أيضًا حتَّى تكون أملاكه مُتصلة لا يتخلَّلُها أعداءٌ وثغراتٌ أمنيَّة. وفي سنة 857هـ المُوافقة لِسنة 1453م، حاصر السُلطان مُحمَّد القُسطنطينيَّة بعد أن حشد لِقتال البيزنطيين جيشًا عظيمًا مُزوَّدًا بِالمدافع الكبيرة، وأُسطُولًا ضخمًا، وبِذلك حاصرهم من ناحيتيّ البر والبحر معًا. والواقع أنَّ البيزنطيين استماتوا في الدفاع عن عاصمتهم، ولكنَّ جُهُودهم ذهبت أدراج الريح، فما انقضى شهرٌ على الحصار حتَّى تهدَّمت بعض أجزاء الأسوار التي كانت تحمي المدينة، وتدفَّق العُثمانيُّون من خلال الثغرات إلى قلب القُسطنطينيَّة، فسقطت في أيديهم وأصبحت جُزءًا من ديار الإسلام، وشكَّل سُقُوطُ المدينة نهاية الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة بعد أن استمرَّت أحد عشر قرنًا ونيفًا، وعدَّ المُؤرِّخون الغربيُّون هذا الحدث نهاية العُصُور الوُسطى وبداية الحقبة الحديثة، ومُنذ تلك الفترة عُرفت القُسطنطينيَّة باسم «إستانبول أو إسلامبول» أو «الآستانة»، ولُقِّب السُلطان مُحمَّد بـ«الفاتح»، وعُدَّ مُنذُ ذلك الوقت أحد أبطال الإسلام ومن كبار القادة الفاتحين في التاريخ. انسابت موجات الفُتُوحات الإسلاميَّة في البلقان بِقيادة السُلطان مُحمَّد بعد سُقُوط القُسطنطينيَّة، ممَّا أثار مخاوف الدُول الأوروپيَّة، فشنَّت على العُثمانيين حربًا طويلة بِزعامة جُمهُوريَّة البُندُقيَّة، وحاولت هذه القوى التحالف مع بعض أعداء السلطنة في آسيا، لكنَّ مُحمَّد الفاتح تمكَّن من هزيمة هذا التحالف، وأجبر البنادقة على توقيع مُعاهدة صُلحٍ مع العُثمانيين بعد حوالي 16 سنة من القتال.

تميَّز عهد مُحمَّد الفاتح بِالتمازج الحضاري الإسلامي والمسيحي، بعدما هضمت الدولة العُثمانيَّة الكثير من مؤسسات الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، وعملت على إحياء بعضها وصبغه بِصبغة إسلاميَّة جديدة، فانتعشت عاصمة الروم العتيقة، وأصبحت إحدى أهم المراكز الثقافيَّة في العالم الإسلامي، لا سيَّما بعدما ابتنى فيها السُلطان عدَّة مدارس ومكتبات وتكايا ومُؤسساتٍ خيريَّةٍ ووقفيَّة، وأبقى فيها الكثير من أبنائها الأصليين من المسيحيين واليهود في سبيل الاستفادة من خبراتهم، وشجَّع المُسلمين على الانتقال إليها في سبيل الاستفادة من مزاياها التجاريَّة وعلم أهلها. وقد ظهر السُلطان مُحمَّد بِمظهر راعي بطريركيَّة القُسطنطينيَّة الأرثوذكسيَّة المسكونيَّة في مُواجهة البابويَّة والكنيسة الكاثوليكيَّة. وشهد عهد مُحمَّد الفاتح أيضًا دُخُول أعدادٍ كبيرةٍ من الأرناؤوطيين والبُشناقيين في الإسلام، وقد قُدَّر لِبعض هؤلاء أن يلعب أدوارًا بارزةً في الميادين العسكريَّة والمدنيَّة في التاريخ العُثماني لاحقًا. وكان السُلطان مُحمَّد عالي الثقافة، وقد تحدَّث عدَّة لُغات إلى جانب لُغته التُركيَّة الأُم، وهي: العربيَّة والفارسيَّة والعبرانيَّة والروميَّة واللاتينيَّة والصربيَّة. كما تمتع مُحمَّد الفاتح بِمهاراتٍ إداريَّةٍ فذَّة، فأصدر الكثير من القوانين العُرفيَّة لِتنظيم الحُكم في دولته، وكان له اهتمامات وهوايات عديدة، كالبستنة وصناعة الخواتم، لكنَّ شغفهُ الحقيقيّ كان رسم الخرائط. وكان مُحمَّد الفاتح تقيًّا صالحًا مُلتزمًا بِحُدُود الشريعة الإسلاميَّة، وفي ذلك يقول المُؤرِّح أحمد بن يُوسُف القرماني: «...وَهُوَ السُّلطَانُ الضِّلِّيلُ، الفَاضِلُ النَّبِيلُ، أَعظَمَ المُلُوكِ جِهَادًا، وَأَقوَاهُم إِقدَامًا وَاجتِهَادًا، وَأَكثَرُهُم تَوَكُّلًا عَلَى اللهِ تَعَالَىٰ وَاعتِمَادًا. وَهُوَ الذِي أَسَّسَ مُلكَ بَنِي عُثمَان، وَقَنَّنَ لَهُم قَوَانِين، صَارَت كَالطَّوقِ فِي أَجيَادِ الزَّمَانِ. وَلَهُ مَنَاقِبَ جَمِيلَة، ومَزَايَا فَاضِلَة جَلِيلَة، وَآثَارٌ بَاقِيَةٌ فِي صَفَحَاتِ اللَّيَالِي وَالأَيَّام، وَمَآثِرٌ لَا يَمحُوهَا تَعَاقُب السِّنِينِ وَالأَعوَام».

دوافع الفتح
بعد أن مكث السُلطان بِبورصة عدَّة أيَّام، قام وعاد إلى أدرنة عاصمة مُلكه، وعبر إليها من طريق قوجه إيلي بعد أن بلغه بِأنَّ سُفن الإفرنج قد سدَّت معبر گليپولي. وكان يضمرُ فتح القُسطنطينيَّة، وصمَّم على وصيَّة والده إليه، فشرع في إعداد العدَّة لِلفتح الكبير المُنتظر. والحقيقة أنَّهُ كان لِمُحمَّدٍ الثاني عدَّة أسباب لِفتح القُسطنطينيَّة، إلى جانب رغبته بِتنفيذ وصيَّة والده وتحقيق البشارة النبويَّة، ويُمكن شمل هذه الأسباب في ما يلي:

انتعشت من جديد، في عهد مُحمَّد الثاني، سياسة الفُتُوح والنظام المركزي، اللذين كان يجري تطبيقهما في أيَّام السُلطان بايزيد الأوَّل، وراح تقليد الغزو التُركماني يتحوَّلُ إلى غايةٍ داخل الإطار الإسلامي، وكان العائق الوحيد أمام مُحمَّد الثاني، لِتنفيذ سياسته العالميَّة، هو الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة التي كانت المُحرِّك الأوَّل لِلتهديد الصليبي، فكان لا بُدَّ من حلٍّ لِهذه المُشكلة.

ظلَّت الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة تُقاوم نصف قرنٍ من الزمن بعد غزو تيمورلنك، مُعتمدةً في ذلك على التلاعب بِورقة الطامعين بِالعرش العُثماني، والتهديد بِشنِّ حملاتٍ صليبيَّةٍ جديدةٍ. وهكذا استغلَّت بيزنطة انشغال مُحمَّد الثاني بِالهُجُوم على الإمارة القرمانيَّة فهدَّدت بِإطلاق سراح الشاهزاده أورخان، المُطالب بِالعرش العُثماني، لِتُرغم السُلطان على تقديم بعض التنازُلات. وكان الإمبراطور البيزنطي قد أرسل وفدًا إلى السُلطان مُحمَّد في مقرِّه العسكري بِالأناضول، طالبًا منه زيادة المبلغ المُقرَّر دفعه إلى الخزينة البيزنطيَّة، مُقابل مصروف الشاهزاده سالف الذِكر، إلى ضعفيه؛ مُشيرًا إلى أنَّهُ إن لم يزد ذلك المبلغ، فإنَّهُ سوف يجعل أورخان حُرًّا طليقًا، يُنازعه الحُكم. وبِموجب إحدى الروايات، فإنَّ مُحمَّدًا الثاني، الذي لم يكن يُريد نُشُوب أي مُشكلة مع بيزنطة قبل وضع الحصار على القُسطنطينيَّة، ذكر لِأعضاء الوفد أنَّهُ لمَّا يرجع إلى أدرنة فسوف يحل المسألة، وبِذلك رجع الوفد البيزنطي. وبِموجب رواية أُخرى أنَّهُ رفض الطلب على الفور. وهُناك رواية تُشير إلى أنَّ هذا التصرُّف الغريب والصبياني، من الإمبراطور البيزنطي، كان لهُ تأثيرٌ كبيرٌ في التعجيل بِفتح القُسطنطينيَّة.

إنَّ فتح عاصمة الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة كان هدفًا دائمًا لِلمُسلمين مُنذُ خِلافة مُعاوية بن أبي سُفيان، لكنَّ مُحاولاتهم المُتكرِّرة لِفتحها باءت بِالفشل بِفضل موقع المدينة وقُوَّة الإمبراطوريَّة، وبِفعل الخطط العسكريَّة المُنفَّذة والقائمة على أساسٍ غير سليم. وعندما قامت الدولة العُثمانيَّة ونمت قُوَّتها، كان فتح القُسطنطينيَّة، وتحويل الدولة المحليَّة إلى دولةٍ ذات توجُّهٍ عالميّ، حُلمًا يُراودُ السلاطين العُثمانيين مُنذُ عهد بايزيد الأوَّل.
ورث مُحمَّد الثاني دولةً كانت لا تزال مُنقسمةً إلى قسمين: الأناضول الذي أضحى بلادًا إسلاميَّةً اندمجت في حضارة وثقافة الإسلام، والروملِّي الذي كان قد فُتح حديثًا ولا يزال منطقة ثُغُور، وتأثَّر تأثُرًا عميقًا بِنظريَّات وتقاليد مُجاهدي الثُغُور الذين استوطنوه، كما تأثَّر بِمُعتقدات وطُرق الدراويش الصوفيَّة الذين صحبوا هؤلاء المُجاهدين، فكان الوضع يتطلَّب إيجاد صلة بين القسمين، بين العاصمة القديمة بورصة، في آسيا الصُغرى، والعاصمة الجديدة أدرنة، في الروملِّي، وكانت القُسطنطينيَّة تُشكِّلُ هذه الصلة.

سبق لِلسلاطين العُثمانيين، قبل مُحمَّد الثاني، أن حاولوا فتح القُسطنطينيَّة، وقد شعروا بِأنَّها العاصمة الطبيعيَّة لِدولتهم، إذ أنَّ بقاءها في أيدي البيزنطيين من شأنه أن يُهدِّد المُوصلات وعمليَّات نقل القُوَّات ما بين أملاكهم الآسيويَّة والأوروپيَّة، أمَّا فتحها فإنَّهُ كفيل بِتشديد قبضتهم على الأراضي التي يحكمونها، ويخلع عليهم المهابة والعظمة، وأضحى هذا الفتح ضرورة سياسيَّة واستراتيجيَّة مُلحَّة، فضلًا عمَّا فيه من مغزى ديني كبير.
الإعداد لِلفتح الكبير

لمَّا كان الهم الأكبر لِلسُلطان مُحمَّد هو فتح العاصمة الروميَّة العتيقة، كان عليه السيطرة على مضيق البوسفور وإحكام الرقابة العُثمانيَّة على جميع السُفن المارَّة من المضيق المذكور. ومن أجل هذا، فكَّر بِبناء قلعةٍ حصينةٍ تتحكَّم بِحركة الملاحة في تلك المياه، وكي لا يشرع الرُّوم بِأي أعمالٍ حربيَّةٍ قبل إتمام القلعة، أرسل إلى الإمبراطور البيزنطي يطلب منهُ إذن الشُرُوع في البناء بِحُجَّة حماية المُمتلكات العُثمانيَّة وتوفير الأمن بين الأناضول والروملِّي، لكن يبدو أنَّ الإمبراطور فطن لِقصد السُلطان، فاعتذر إليه بِإنَّ الطرف المطلوب ليس من أملاك الروم ولا يجري حُكمه فيه، وإنما هو من أملاك الإفرنج الجنويين، فقال السُلطان أنَّ لا حاجة لِلعُثمانيين في الاستئذان من الإفرنج، فأمر البنَّائين - وكانوا أربعمائة - وأعانهم العسكر أيضًا، فبنوا تلك القلعة الحصينة خِلال فترةٍ وجيزة.

وفي إحدى الروايات أنَّ السُلطان لمَّا أظهر مُسالمة الإمبراطور، طلب منه أن يهبه أرضًا من طرف بلاده بِمقدار جلد ثور، فتعجَّب ذلك قُسطنطين لكنَّهُ منح نظيره المُسلم ما طلب. فأرسل السُلطان جماعة البنَّائين والصُنَّاع، فاجتازوا المضيق وقدُّوا جلد ثورٍ قدًّا رقيقًا، فبسطوه على وجه الأرض على أضيق محل من فم الخليج، فبنوا على القدر الذي أحاطه ذلك الجلد سورًا منيعًا شامخًا، وحصنًا رفيعًا باذخًا، وركَّبوا فيه المدافع وجعلوا له المزاغل.

وكان السُلطان مُحمَّد قد وصل إلى موقع البناء في يوم الأحد 5 ربيع الأوَّل 855هـ المُوافق فيه 26 آذار (مارس) 1451م، لِيُشرف بِنفسه على حُسن سير العمل، وقد أمر بهدم أطلال كنيسة القدِّيس ميخائيل الموجودة في تلك الناحية وأضاف أنقاضها إلى المواد التي أتى بها من الأناضول، كما أتى بالأخشاب اللازمة من المناطق الخاضعة له على شواطئ بحر البنطس (الأسود) ومن إزميد. وبقي السُلطان في هذا الموقع إلى أن اكتملت القلعة بعد بضعة أشهُر. ولمَّا كان العملُ جاريًا على قدمٍ وساقٍ في بناء القلعة العتيدة، كان السُلطان مُحمَّد يُضيف بعض الملاحق إلى قلعة أناضولي حصار التي شيَّدها السُلطان بايزيد الأوَّل بِبر آسيا، فرمَّم بعض استحكاماتها، وشحنها بِالمدافع والمُقاتلة، وبِذلك تمكَّن من التحكُّم في البوسفور في أضيق محلٍّ منه من الجانبين.

ويُذكر أنَّ أعمال الإنشاء والبناء في القلعة الجديدة، التي سُمِّيت في المصادر العُثمانيَّة القديمة «بوغاز كسن حصاري» أي «القلعة قاطعة المضيق»، ثُمَّ عُرفت لاحقًا بِـ«قلعة روملِّي حصار»، تمَّت في أربعة أشهُرٍ؛ وتذكر إحدى الروايات أنَّها اكتملت في أربعين يومًا، في حين تُقدِّرُ دراساتٌ مُعاصرة أنَّ هذا العمل الهائل اكتمل خِلال ثلاثة أشهر ونصف. ولمَّا اكتملت القلعة، شحنها السُلطان بِأربعمائة جُندي مُختار بِقيادة فيروز آغا، ونُصبت فيها مدافعٌ بِمُختلف الأبعاد. وأمر السُلطان فيروز آغا بِتوقيف جميع السُفن المارَّة بِالمضيق وتفتيشها، وتحصيل رسم مُناسب مع حُمُولاتها، وإغراق أي سفينة لا تُطيع الأوامر. ولقد قام فيروز آغا بِتنفيذ هذا الأمر، حيثُ أغرق سفينة تابعة لِلبُندُقيَّة، في شهر شعبان المُوافق لِشهر آب (أغسطس)، نظرًا لِرفضها امتثال الأوامر. وعاد السُلطان إلى أدرنة يوم الإثنين 12 شعبان المُوافق فيه 28 آب (أغسطس)، لِيُتابع استعدادات فتح القُسطنطينيَّة.

باكتمال القلعة، كسب السُلطان مُحمَّد موقعًا استراتيجيًّا واقتصاديًّا يحول دون وُصُول الإمدادات القادمة من إمبرطوريَّة طرابزون عن طريق بحر البنطس (الأسود)، وبِالتالي عزل القُسطنطينيَّة اقتصاديًّا، وأصبحت قلعته الجديدة قاعدةً لِأعماله العسكريَّة في أوروپَّا ومُستودعًا لِلزَّاد والعتاد. كان بناء القلعة بِمثابة النُقطة الحرجة التي وصلت إليها العلاقة السلميَّة بين البيزنطيين والعُثمانيين، إذ أدرك الإمبراطور أنَّ بناءها مُقدِّمة لِإسقاط المدينة، فتملَّكهُ الهلع، وأرسل وفدًا إلى السُلطان في أدرنة لِلاحتجاج، لِأنَّ بناء القلعة بِنظره يعني خرق السُلطان لِلمُعاهدة التي سبق أن عقدها والده مع الإمبراطور يُوحنَّا الثامن ونصَّت على عدم قيام العُثمانيين بِبناء تحصيناتٍ على الساحل الأوروپي لِلبوسفور، إلَّا أنَّ السُلطان أبدى عدم اكتراث، وبيَّن بِصُورةٍ قاطعةٍ أنَّهُ لم يخرق أيَّة مُعاهدة، وأنَّهُ رجل سلام، وأنَّ ما قام به تطلَّبته سلامة دولته وجيشه، وأنَّهُ لم يستهدف نُشُوب الحرب.

وذكَّر السُلطان مُحمَّد الوفد أنَّ موقع القلعة لا يتبع بيزنطة ولا الجنويين، وأنَّهُ نُقطة عُبُور تابعة لِلعُثمانيين وحدهم. يُضاف إلى ذلك، أنَّ توفير الأمن اللازم لِلمضيق سوف يقضي على قرصنة فُرسان الإسبتاريَّة والبنادقة والقطلونيين وغيرهم ممن يُضر بِالتجارة العُثمانيَّة والبيزنطيَّة على حدٍ سواء. ولمَّا رأى السُلطان إصرار الوفد على موقفه قال لهم: «إِنَّ لَكُم القُسطَنطِينِيَّةَ بِأسوَارِهَا وَلَيسَ لَكُم وَرَاءَ ذَلِكَ مِن شَيءٍ، وَهَل نَسِيتُم مَا انتَابَ وَالِدي مِنَ الفَزَعِ عِندَمَا تَحَالَفَ إِمبَرَاطُورُكُم مَعَ المَجَرِ؟...

وَقَد ارتَعَد المُسلِمُونَ مِنَ الخَوفِ والفَزَعِ، وكُنتُم تسخَرُونَ مِنهُم وَتشمَتُون...»، وأعلمهم أنَّهُ ليس لِلرُّومِ الحق أو القُوَّة في منع ما يقوم به، فإنَّ كلا الشاطئين يتبع الدولة العُثمانيَّة، فأمَّا الشاطئ الآسيوي فلِأنَّهُ يسكنه المُسلمون، وأمَّا الشاطئ الأوروپي فلِأنَّ الروم هجروه ولا يقدرون على الدفاع عنه. وطرد السُلطان أعضاء الوفد شرَّ طردة قائلًا لهم: «اذْهَبُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ وَأَخْبَرُوهُ أَنَّ السُّلْطَانَ العُثْمانِيُّ الآنَ يَخْتَلِفُ عَن أَجدَادِهِ فَإِنَّ لِي عَزمًا فَوقَ عَزمِهِم وَقُوَّةً فَوقَ قُوَّتِهم، اِنصَرِفُوا الآنَ إِلَى دِيَارِكُم بِسَلَامٍ، وَواللهِ مَا جَائَنِي أَحَدٌ مِنكُم بَعدَ ذَلِكَ بِمِثلِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ إلَّا قَتَلتُه».

نتيجةً لِرد السُلطان قرَّر الإمبراطور العمل على تدمير القلعة وقتل حاميتها، فحذَّرهُ رجال بلاطه أنَّ هذا لا يعني سوى الإسراع في إعلان حربٍ غير مُتكافئة، وكان الإمبراطور يُدرك ذلك، إلَّا أنَّهُ اعتقد أنَّ لا قيمة لِتأجيل الحرب.

وبِموجب إحدى الروايات فإنَّ الصدر الأعظم خليل باشا الجندرلي حاول إقناع السُلطان مُحمَّد بِعدم مُهاجمة القُسطنطينيَّة، وذلك مُقابل مبلغٍ من المال تلقَّاه من الإمبراطور البيزنطي. وبِحسب هذه الرواية فإنَّ الإمبراطور أرسل إلى خليل باشا، الذي كان على علاقةٍ وثيقةٍ وقديمةٍ بِالإمبراطور، أسماكًا محشُوَّةً بِالذهب؛ فعمل الباشا، مُقابل هذا الذهب، على إقناع السُلطان بِالتخلِّي عن فكرة الفتح. إلَّا أنَّ السُلطان، الذي كان يعلم حقيقة الموضوع، قال أنَّهُ سيُمضي الشتاء في أدرنة ثُمَّ يُفكِّر في الموضوع عند حُلُول الربيع.

وتُشير المصادر البيزنطيَّة أيضًا، أنَّ العُثمانيين كانوا يُسمُّون خليل باشا بِـ«شريك الكافر». وفي جميع الأحوال، فإنَّ المصادر تتفق بِشكلٍ عام، أنَّ خليل باشا كان مُعارضًا لِلحملة على القُسطنطينيَّة؛ بل يتجاوز الأمر ذلك، حيثُ يوجد ادعاء بأنَّ الصدر الأعظم سالف الذِكر، كان يتجسَّس لِصالح الروم.


.
المزيد..

تعليقات القرّاء:


صاحب البِشارة الملكُ المُجاهد والسُلطان الغازي أبي الفتح والمعالي مُحمَّد خان الثاني بن مُراد بن مُحمَّد العُثماني (بالتُركيَّة العُثمانيَّة: صاحب بِشارۀ الملكُ المُجاهد غازى سُلطان مُحمَّد خان ثانى بن مُراد بن مُحمَّد عُثمانى؛ وبالتُركيَّة المُعاصرة: Sultan II. Mehmed Han ben Gazi Murad)، ويُعرف اختصارًا باسم مُحمَّد الثاني، وبِلقبه الأشهر مُحمَّد الفاتح (بالتُركيَّة العُثمانيَّة: مُحمَّد ثانى أو مُحمَّد فاتح أو فاتح سُلطان مُحمَّد؛ وبالتُركيَّة المُعاصرة: II. Mehmed أو Fatih Sultan Mehmed)؛ هو سابع سلاطين آل عُثمان وخامس من تلقَّب بِلقب سُلطانٍ بينهم بعد والده مُراد وجدُّه مُحمَّد الأوَّل وجدَّاه بايزيد ومُراد، وثاني من لُقِّب بِالـ«ثاني» من سلاطين آل عُثمان، وأوَّل من حمل لقب «قيصر الروم» من الحُكَّام المُسلمين عُمومًا والسلاطين العُثمانيين خُصوصًا. يُلقَّب بِـ«صاحب البِشارة» اعتقادًا من جُمهُور المُسلمين أنَّ نُبُوءة الرسول مُحمَّد القائلة بِفتح القُسطنطينيَّة قد تحققت على يديه، كما لُقِّب في أوروپَّا بِـ«التُركي الكبير» (باللاتينية: Grand Turco) و«إمبراطور التُرك» (باللاتينية: Turcarum Imperator) نظرًا لِأهميَّة وعظمة إنجازاته وانتصاراته العسكريَّة التي حققها على حساب القوى المسيحيَّة، علمًا بِأنَّ المقصود بِـ«التُركي» هُنا هو «المُسلم» عُمومًا، وليس التُركي عرقيًّا، لأنَّ التسميتان كانتا تعنيان شيئًا واحدًا في المفهوم الأوروپي آنذاك.(1)

جلس مُحمَّد الثاني على عرش الدولة العُثمانيَّة مرَّتين: الأولى بُعيد وفاة شقيقه الأكبر علاء الدين واعتزال والده مُراد الحياة السياسيَّة بعد تلقيه هزيمة نكراء على يد تحالُفٍ صليبيٍّ، فانقطع لِلعبادة في تكيَّة مغنيسية وترك شُؤون الحُكم لِولده، وفي تلك الفترة كان السُلطان الجديد ما يزال قاصرًا، فلم يتمكَّن من الإمساك بِمقاليد الحُكم إمساكًا متينًا، لا سيَّما وأنَّ الدوائر الحاكمة في أوروپَّا استغلَّت حداثة سن السُلطان ففسخت الهدنة التي أبرمتها مع والده، وجهَّزوا جُيُوشًا لِمُحاربة الدولة العُثمانيَّة، فأُجبر السُلطان مُراد على الخُرُوج من عُزلته والعودة إلى السلطنة لِإنقاذها من الأخطار المُحدقة بها، فقاد جيشًا جرَّارًا والتقى بِالعساكر الصليبيَّة عند مدينة وارنة (ڤارنا) البُلغاريَّة وانتصر عليها انتصارًا كبيرًا، ثُمَّ عاد إلى عُزلته لكنَّهُ لم يلبث بها طويلًا هذه المرَّة أيضًا، لأنَّ عساكر الإنكشاريَّة ازدروا بِالسُلطان مُحمَّد الفتى، وعاثوا فسادًا في العاصمة أدرنة، فعاد السُلطان مُراد إلى الحُكم وأشغل جُنُوده بِالحرب في أوروپَّا، وبِالأخص في الأرناؤوط، لِإخماد فتنة إسكندر بك الذي شقَّ عصا الطاعة وثار على الدولة العُثمانيَّة، لكنَّ المنيَّة وافت السُلطان قبل أن يُتم مشروعه بِالقضاء على الثائر المذكور، فاعتلى ابنه مُحمَّد العرش لِلمرَّة الأُخرى، التي قُدِّر لها أن تكون مرحلةً ذهبيَّة في التاريخ الإسلامي.

ولمَّا تولَّى مُحمَّد الثاني المُلك بعد أبيه لم يكن بِآسيا الصُغرى خارجًا عن سُلطانه إلَّا جُزءٌ من بلاد القرمان وبعض مُدن ساحل بحر البنطس (الأسود) وإمبراطوريَّة طرابزون الروميَّة. وصارت الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة قاصرة على مدينة القُسطنطينيَّة وضواحيها. وكان إقليم المورة مُجزَّأ بين البنادقة وعدَّة إمارات صغيرة يحكُمُها بعض أعيان الروم أو الإفرنج الذين تخلَّفوا عن إخوانهم بعد انتهاء الحُرُوب الصليبيَّة، وبلاد الأرناؤوط وإپيروس في حمى العاصي إسكندر بك، وبلاد البُشناق مُستقلَّة والصرب تابعة لِلدولة العُثمانيَّة تابعيَّة سياديَّة، وقسمٌ كبير ممَّا بقي من شبه الجزيرة البلقانيَّة داخلًا تحت السُلطة العُثمانيَّة. وقد سعى السُلطان الشاب إلى تحقيق وصيَّة والده بِفتح القُسطنطينيَّة ورغب بِتتميم فتح ما بقي من بلاد البلقان أيضًا حتَّى تكون أملاكه مُتصلة لا يتخلَّلُها أعداءٌ وثغراتٌ أمنيَّة. وفي سنة 857هـ المُوافقة لِسنة 1453م، حاصر السُلطان مُحمَّد القُسطنطينيَّة بعد أن حشد لِقتال البيزنطيين جيشًا عظيمًا مُزوَّدًا بِالمدافع الكبيرة، وأُسطُولًا ضخمًا، وبِذلك حاصرهم من ناحيتيّ البر والبحر معًا. والواقع أنَّ البيزنطيين استماتوا في الدفاع عن عاصمتهم، ولكنَّ جُهُودهم ذهبت أدراج الريح، فما انقضى شهرٌ على الحصار حتَّى تهدَّمت بعض أجزاء الأسوار التي كانت تحمي المدينة، وتدفَّق العُثمانيُّون من خلال الثغرات إلى قلب القُسطنطينيَّة، فسقطت في أيديهم وأصبحت جُزءًا من ديار الإسلام، وشكَّل سُقُوطُ المدينة نهاية الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة بعد أن استمرَّت أحد عشر قرنًا ونيفًا، وعدَّ المُؤرِّخون الغربيُّون هذا الحدث نهاية العُصُور الوُسطى وبداية الحقبة الحديثة، ومُنذ تلك الفترة عُرفت القُسطنطينيَّة باسم «إستانبول أو إسلامبول» أو «الآستانة»، ولُقِّب السُلطان مُحمَّد بـ«الفاتح»، وعُدَّ مُنذُ ذلك الوقت أحد أبطال الإسلام ومن كبار القادة الفاتحين في التاريخ. انسابت موجات الفُتُوحات الإسلاميَّة في البلقان بِقيادة السُلطان مُحمَّد بعد سُقُوط القُسطنطينيَّة، ممَّا أثار مخاوف الدُول الأوروپيَّة، فشنَّت على العُثمانيين حربًا طويلة بِزعامة جُمهُوريَّة البُندُقيَّة، وحاولت هذه القوى التحالف مع بعض أعداء السلطنة في آسيا، لكنَّ مُحمَّد الفاتح تمكَّن من هزيمة هذا التحالف، وأجبر البنادقة على توقيع مُعاهدة صُلحٍ مع العُثمانيين بعد حوالي 16 سنة من القتال.

تميَّز عهد مُحمَّد الفاتح بِالتمازج الحضاري الإسلامي والمسيحي، بعدما هضمت الدولة العُثمانيَّة الكثير من مؤسسات الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، وعملت على إحياء بعضها وصبغه بِصبغة إسلاميَّة جديدة، فانتعشت عاصمة الروم العتيقة، وأصبحت إحدى أهم المراكز الثقافيَّة في العالم الإسلامي، لا سيَّما بعدما ابتنى فيها السُلطان عدَّة مدارس ومكتبات وتكايا ومُؤسساتٍ خيريَّةٍ ووقفيَّة، وأبقى فيها الكثير من أبنائها الأصليين من المسيحيين واليهود في سبيل الاستفادة من خبراتهم، وشجَّع المُسلمين على الانتقال إليها في سبيل الاستفادة من مزاياها التجاريَّة وعلم أهلها. وقد ظهر السُلطان مُحمَّد بِمظهر راعي بطريركيَّة القُسطنطينيَّة الأرثوذكسيَّة المسكونيَّة في مُواجهة البابويَّة والكنيسة الكاثوليكيَّة. وشهد عهد مُحمَّد الفاتح أيضًا دُخُول أعدادٍ كبيرةٍ من الأرناؤوطيين والبُشناقيين في الإسلام، وقد قُدَّر لِبعض هؤلاء أن يلعب أدوارًا بارزةً في الميادين العسكريَّة والمدنيَّة في التاريخ العُثماني لاحقًا. وكان السُلطان مُحمَّد عالي الثقافة، وقد تحدَّث عدَّة لُغات إلى جانب لُغته التُركيَّة الأُم، وهي: العربيَّة والفارسيَّة والعبرانيَّة والروميَّة واللاتينيَّة والصربيَّة. كما تمتع مُحمَّد الفاتح بِمهاراتٍ إداريَّةٍ فذَّة، فأصدر الكثير من القوانين العُرفيَّة لِتنظيم الحُكم في دولته، وكان له اهتمامات وهوايات عديدة، كالبستنة وصناعة الخواتم، لكنَّ شغفهُ الحقيقيّ كان رسم الخرائط. وكان مُحمَّد الفاتح تقيًّا صالحًا مُلتزمًا بِحُدُود الشريعة الإسلاميَّة، وفي ذلك يقول المُؤرِّح أحمد بن يُوسُف القرماني: «...وَهُوَ السُّلطَانُ الضِّلِّيلُ، الفَاضِلُ النَّبِيلُ، أَعظَمَ المُلُوكِ جِهَادًا، وَأَقوَاهُم إِقدَامًا وَاجتِهَادًا، وَأَكثَرُهُم تَوَكُّلًا عَلَى اللهِ تَعَالَىٰ وَاعتِمَادًا. وَهُوَ الذِي أَسَّسَ مُلكَ بَنِي عُثمَان، وَقَنَّنَ لَهُم قَوَانِين، صَارَت كَالطَّوقِ فِي أَجيَادِ الزَّمَانِ. وَلَهُ مَنَاقِبَ جَمِيلَة، ومَزَايَا فَاضِلَة جَلِيلَة، وَآثَارٌ بَاقِيَةٌ فِي صَفَحَاتِ اللَّيَالِي وَالأَيَّام، وَمَآثِرٌ لَا يَمحُوهَا تَعَاقُب السِّنِينِ وَالأَعوَام».

دوافع الفتح
بعد أن مكث السُلطان بِبورصة عدَّة أيَّام، قام وعاد إلى أدرنة عاصمة مُلكه، وعبر إليها من طريق قوجه إيلي بعد أن بلغه بِأنَّ سُفن الإفرنج قد سدَّت معبر گليپولي. وكان يضمرُ فتح القُسطنطينيَّة، وصمَّم على وصيَّة والده إليه، فشرع في إعداد العدَّة لِلفتح الكبير المُنتظر. والحقيقة أنَّهُ كان لِمُحمَّدٍ الثاني عدَّة أسباب لِفتح القُسطنطينيَّة، إلى جانب رغبته بِتنفيذ وصيَّة والده وتحقيق البشارة النبويَّة، ويُمكن شمل هذه الأسباب في ما يلي:

انتعشت من جديد، في عهد مُحمَّد الثاني، سياسة الفُتُوح والنظام المركزي، اللذين كان يجري تطبيقهما في أيَّام السُلطان بايزيد الأوَّل، وراح تقليد الغزو التُركماني يتحوَّلُ إلى غايةٍ داخل الإطار الإسلامي، وكان العائق الوحيد أمام مُحمَّد الثاني، لِتنفيذ سياسته العالميَّة، هو الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة التي كانت المُحرِّك الأوَّل لِلتهديد الصليبي، فكان لا بُدَّ من حلٍّ لِهذه المُشكلة.

ظلَّت الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة تُقاوم نصف قرنٍ من الزمن بعد غزو تيمورلنك، مُعتمدةً في ذلك على التلاعب بِورقة الطامعين بِالعرش العُثماني، والتهديد بِشنِّ حملاتٍ صليبيَّةٍ جديدةٍ. وهكذا استغلَّت بيزنطة انشغال مُحمَّد الثاني بِالهُجُوم على الإمارة القرمانيَّة فهدَّدت بِإطلاق سراح الشاهزاده أورخان، المُطالب بِالعرش العُثماني، لِتُرغم السُلطان على تقديم بعض التنازُلات. وكان الإمبراطور البيزنطي قد أرسل وفدًا إلى السُلطان مُحمَّد في مقرِّه العسكري بِالأناضول، طالبًا منه زيادة المبلغ المُقرَّر دفعه إلى الخزينة البيزنطيَّة، مُقابل مصروف الشاهزاده سالف الذِكر، إلى ضعفيه؛ مُشيرًا إلى أنَّهُ إن لم يزد ذلك المبلغ، فإنَّهُ سوف يجعل أورخان حُرًّا طليقًا، يُنازعه الحُكم. وبِموجب إحدى الروايات، فإنَّ مُحمَّدًا الثاني، الذي لم يكن يُريد نُشُوب أي مُشكلة مع بيزنطة قبل وضع الحصار على القُسطنطينيَّة، ذكر لِأعضاء الوفد أنَّهُ لمَّا يرجع إلى أدرنة فسوف يحل المسألة، وبِذلك رجع الوفد البيزنطي. وبِموجب رواية أُخرى أنَّهُ رفض الطلب على الفور. وهُناك رواية تُشير إلى أنَّ هذا التصرُّف الغريب والصبياني، من الإمبراطور البيزنطي، كان لهُ تأثيرٌ كبيرٌ في التعجيل بِفتح القُسطنطينيَّة.

إنَّ فتح عاصمة الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة كان هدفًا دائمًا لِلمُسلمين مُنذُ خِلافة مُعاوية بن أبي سُفيان، لكنَّ مُحاولاتهم المُتكرِّرة لِفتحها باءت بِالفشل بِفضل موقع المدينة وقُوَّة الإمبراطوريَّة، وبِفعل الخطط العسكريَّة المُنفَّذة والقائمة على أساسٍ غير سليم. وعندما قامت الدولة العُثمانيَّة ونمت قُوَّتها، كان فتح القُسطنطينيَّة، وتحويل الدولة المحليَّة إلى دولةٍ ذات توجُّهٍ عالميّ، حُلمًا يُراودُ السلاطين العُثمانيين مُنذُ عهد بايزيد الأوَّل.
ورث مُحمَّد الثاني دولةً كانت لا تزال مُنقسمةً إلى قسمين: الأناضول الذي أضحى بلادًا إسلاميَّةً اندمجت في حضارة وثقافة الإسلام، والروملِّي الذي كان قد فُتح حديثًا ولا يزال منطقة ثُغُور، وتأثَّر تأثُرًا عميقًا بِنظريَّات وتقاليد مُجاهدي الثُغُور الذين استوطنوه، كما تأثَّر بِمُعتقدات وطُرق الدراويش الصوفيَّة الذين صحبوا هؤلاء المُجاهدين، فكان الوضع يتطلَّب إيجاد صلة بين القسمين، بين العاصمة القديمة بورصة، في آسيا الصُغرى، والعاصمة الجديدة أدرنة، في الروملِّي، وكانت القُسطنطينيَّة تُشكِّلُ هذه الصلة.

سبق لِلسلاطين العُثمانيين، قبل مُحمَّد الثاني، أن حاولوا فتح القُسطنطينيَّة، وقد شعروا بِأنَّها العاصمة الطبيعيَّة لِدولتهم، إذ أنَّ بقاءها في أيدي البيزنطيين من شأنه أن يُهدِّد المُوصلات وعمليَّات نقل القُوَّات ما بين أملاكهم الآسيويَّة والأوروپيَّة، أمَّا فتحها فإنَّهُ كفيل بِتشديد قبضتهم على الأراضي التي يحكمونها، ويخلع عليهم المهابة والعظمة، وأضحى هذا الفتح ضرورة سياسيَّة واستراتيجيَّة مُلحَّة، فضلًا عمَّا فيه من مغزى ديني كبير.
الإعداد لِلفتح الكبير

لمَّا كان الهم الأكبر لِلسُلطان مُحمَّد هو فتح العاصمة الروميَّة العتيقة، كان عليه السيطرة على مضيق البوسفور وإحكام الرقابة العُثمانيَّة على جميع السُفن المارَّة من المضيق المذكور. ومن أجل هذا، فكَّر بِبناء قلعةٍ حصينةٍ تتحكَّم بِحركة الملاحة في تلك المياه، وكي لا يشرع الرُّوم بِأي أعمالٍ حربيَّةٍ قبل إتمام القلعة، أرسل إلى الإمبراطور البيزنطي يطلب منهُ إذن الشُرُوع في البناء بِحُجَّة حماية المُمتلكات العُثمانيَّة وتوفير الأمن بين الأناضول والروملِّي، لكن يبدو أنَّ الإمبراطور فطن لِقصد السُلطان، فاعتذر إليه بِإنَّ الطرف المطلوب ليس من أملاك الروم ولا يجري حُكمه فيه، وإنما هو من أملاك الإفرنج الجنويين، فقال السُلطان أنَّ لا حاجة لِلعُثمانيين في الاستئذان من الإفرنج، فأمر البنَّائين - وكانوا أربعمائة - وأعانهم العسكر أيضًا، فبنوا تلك القلعة الحصينة خِلال فترةٍ وجيزة.

 وفي إحدى الروايات أنَّ السُلطان لمَّا أظهر مُسالمة الإمبراطور، طلب منه أن يهبه أرضًا من طرف بلاده بِمقدار جلد ثور، فتعجَّب ذلك قُسطنطين لكنَّهُ منح نظيره المُسلم ما طلب. فأرسل السُلطان جماعة البنَّائين والصُنَّاع، فاجتازوا المضيق وقدُّوا جلد ثورٍ قدًّا رقيقًا، فبسطوه على وجه الأرض على أضيق محل من فم الخليج، فبنوا على القدر الذي أحاطه ذلك الجلد سورًا منيعًا شامخًا، وحصنًا رفيعًا باذخًا، وركَّبوا فيه المدافع وجعلوا له المزاغل.

 وكان السُلطان مُحمَّد قد وصل إلى موقع البناء في يوم الأحد 5 ربيع الأوَّل 855هـ المُوافق فيه 26 آذار (مارس) 1451م، لِيُشرف بِنفسه على حُسن سير العمل، وقد أمر بهدم أطلال كنيسة القدِّيس ميخائيل الموجودة في تلك الناحية وأضاف أنقاضها إلى المواد التي أتى بها من الأناضول، كما أتى بالأخشاب اللازمة من المناطق الخاضعة له على شواطئ بحر البنطس (الأسود) ومن إزميد. وبقي السُلطان في هذا الموقع إلى أن اكتملت القلعة بعد بضعة أشهُر. ولمَّا كان العملُ جاريًا على قدمٍ وساقٍ في بناء القلعة العتيدة، كان السُلطان مُحمَّد يُضيف بعض الملاحق إلى قلعة أناضولي حصار التي شيَّدها السُلطان بايزيد الأوَّل بِبر آسيا، فرمَّم بعض استحكاماتها، وشحنها بِالمدافع والمُقاتلة، وبِذلك تمكَّن من التحكُّم في البوسفور في أضيق محلٍّ منه من الجانبين.

 ويُذكر أنَّ أعمال الإنشاء والبناء في القلعة الجديدة، التي سُمِّيت في المصادر العُثمانيَّة القديمة «بوغاز كسن حصاري» أي «القلعة قاطعة المضيق»، ثُمَّ عُرفت لاحقًا بِـ«قلعة روملِّي حصار»، تمَّت في أربعة أشهُرٍ؛ وتذكر إحدى الروايات أنَّها اكتملت في أربعين يومًا، في حين تُقدِّرُ دراساتٌ مُعاصرة أنَّ هذا العمل الهائل اكتمل خِلال ثلاثة أشهر ونصف. ولمَّا اكتملت القلعة، شحنها السُلطان بِأربعمائة جُندي مُختار بِقيادة فيروز آغا، ونُصبت فيها مدافعٌ بِمُختلف الأبعاد. وأمر السُلطان فيروز آغا بِتوقيف جميع السُفن المارَّة بِالمضيق وتفتيشها، وتحصيل رسم مُناسب مع حُمُولاتها، وإغراق أي سفينة لا تُطيع الأوامر. ولقد قام فيروز آغا بِتنفيذ هذا الأمر، حيثُ أغرق سفينة تابعة لِلبُندُقيَّة، في شهر شعبان المُوافق لِشهر آب (أغسطس)، نظرًا لِرفضها امتثال الأوامر. وعاد السُلطان إلى أدرنة يوم الإثنين 12 شعبان المُوافق فيه 28 آب (أغسطس)، لِيُتابع استعدادات فتح القُسطنطينيَّة.

باكتمال القلعة، كسب السُلطان مُحمَّد موقعًا استراتيجيًّا واقتصاديًّا يحول دون وُصُول الإمدادات القادمة من إمبرطوريَّة طرابزون عن طريق بحر البنطس (الأسود)، وبِالتالي عزل القُسطنطينيَّة اقتصاديًّا، وأصبحت قلعته الجديدة قاعدةً لِأعماله العسكريَّة في أوروپَّا ومُستودعًا لِلزَّاد والعتاد. كان بناء القلعة بِمثابة النُقطة الحرجة التي وصلت إليها العلاقة السلميَّة بين البيزنطيين والعُثمانيين، إذ أدرك الإمبراطور أنَّ بناءها مُقدِّمة لِإسقاط المدينة، فتملَّكهُ الهلع، وأرسل وفدًا إلى السُلطان في أدرنة لِلاحتجاج، لِأنَّ بناء القلعة بِنظره يعني خرق السُلطان لِلمُعاهدة التي سبق أن عقدها والده مع الإمبراطور يُوحنَّا الثامن ونصَّت على عدم قيام العُثمانيين بِبناء تحصيناتٍ على الساحل الأوروپي لِلبوسفور، إلَّا أنَّ السُلطان أبدى عدم اكتراث، وبيَّن بِصُورةٍ قاطعةٍ أنَّهُ لم يخرق أيَّة مُعاهدة، وأنَّهُ رجل سلام، وأنَّ ما قام به تطلَّبته سلامة دولته وجيشه، وأنَّهُ لم يستهدف نُشُوب الحرب.

وذكَّر السُلطان مُحمَّد الوفد أنَّ موقع القلعة لا يتبع بيزنطة ولا الجنويين، وأنَّهُ نُقطة عُبُور تابعة لِلعُثمانيين وحدهم. يُضاف إلى ذلك، أنَّ توفير الأمن اللازم لِلمضيق سوف يقضي على قرصنة فُرسان الإسبتاريَّة والبنادقة والقطلونيين وغيرهم ممن يُضر بِالتجارة العُثمانيَّة والبيزنطيَّة على حدٍ سواء. ولمَّا رأى السُلطان إصرار الوفد على موقفه قال لهم: «إِنَّ لَكُم القُسطَنطِينِيَّةَ بِأسوَارِهَا وَلَيسَ لَكُم وَرَاءَ ذَلِكَ مِن شَيءٍ، وَهَل نَسِيتُم مَا انتَابَ وَالِدي مِنَ الفَزَعِ عِندَمَا تَحَالَفَ إِمبَرَاطُورُكُم مَعَ المَجَرِ؟... 

وَقَد ارتَعَد المُسلِمُونَ مِنَ الخَوفِ والفَزَعِ، وكُنتُم تسخَرُونَ مِنهُم وَتشمَتُون...»، وأعلمهم أنَّهُ ليس لِلرُّومِ الحق أو القُوَّة في منع ما يقوم به، فإنَّ كلا الشاطئين يتبع الدولة العُثمانيَّة، فأمَّا الشاطئ الآسيوي فلِأنَّهُ يسكنه المُسلمون، وأمَّا الشاطئ الأوروپي فلِأنَّ الروم هجروه ولا يقدرون على الدفاع عنه. وطرد السُلطان أعضاء الوفد شرَّ طردة قائلًا لهم: «اذْهَبُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ وَأَخْبَرُوهُ أَنَّ السُّلْطَانَ العُثْمانِيُّ الآنَ يَخْتَلِفُ عَن أَجدَادِهِ فَإِنَّ لِي عَزمًا فَوقَ عَزمِهِم وَقُوَّةً فَوقَ قُوَّتِهم، اِنصَرِفُوا الآنَ إِلَى دِيَارِكُم بِسَلَامٍ، وَواللهِ مَا جَائَنِي أَحَدٌ مِنكُم بَعدَ ذَلِكَ بِمِثلِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ إلَّا قَتَلتُه». 

نتيجةً لِرد السُلطان قرَّر الإمبراطور العمل على تدمير القلعة وقتل حاميتها، فحذَّرهُ رجال بلاطه أنَّ هذا لا يعني سوى الإسراع في إعلان حربٍ غير مُتكافئة، وكان الإمبراطور يُدرك ذلك، إلَّا أنَّهُ اعتقد أنَّ لا قيمة لِتأجيل الحرب. 

وبِموجب إحدى الروايات فإنَّ الصدر الأعظم خليل باشا الجندرلي حاول إقناع السُلطان مُحمَّد بِعدم مُهاجمة القُسطنطينيَّة، وذلك مُقابل مبلغٍ من المال تلقَّاه من الإمبراطور البيزنطي. وبِحسب هذه الرواية فإنَّ الإمبراطور أرسل إلى خليل باشا، الذي كان على علاقةٍ وثيقةٍ وقديمةٍ بِالإمبراطور، أسماكًا محشُوَّةً بِالذهب؛ فعمل الباشا، مُقابل هذا الذهب، على إقناع السُلطان بِالتخلِّي عن فكرة الفتح. إلَّا أنَّ السُلطان، الذي كان يعلم حقيقة الموضوع، قال أنَّهُ سيُمضي الشتاء في أدرنة ثُمَّ يُفكِّر في الموضوع عند حُلُول الربيع. 

وتُشير المصادر البيزنطيَّة أيضًا، أنَّ العُثمانيين كانوا يُسمُّون خليل باشا بِـ«شريك الكافر». وفي جميع الأحوال، فإنَّ المصادر تتفق بِشكلٍ عام، أنَّ خليل باشا كان مُعارضًا لِلحملة على القُسطنطينيَّة؛ بل يتجاوز الأمر ذلك، حيثُ يوجد ادعاء بأنَّ الصدر الأعظم سالف الذِكر، كان يتجسَّس لِصالح الروم.


 

السلطان محمد الفاتح

كتاب السلطان محمد الفاتح

نبذة عن الكتاب :

توفي " محمد الفاتح " لكنَّ آثاره تبقى شاهدة على ما قام به من خدمات للإسلام والمسلمين، محقِّقا ما بشِّر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثه : لَتفتحنَّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش ".

وفي سكرات موته أخذ يوصي ابنه " بايريد " بوصايا توحي في مدلولها بمدى صلاح هذا الرجل، إذ يقول له: " يا بني إن نشر الإسلام في الأرض واجب الملوك على الأرض، فاعمل على نشر دين الله حيثما استطعت .. يا بني اجعل كلمة الدين فوق كلكلام، وإياك أن تغفل عن أي أمر من أمور الدين، وأبعد عنك الذين لا يهتمون بأمر الدين، وإياك أن تجري وراء البدع المنكرة .. يا بني قرب منك العلماء، وارفع من شأنهم؛ فإنهم ذخيرة الأمة في المُلمّات".

حكم السلطان محمد الفاتح نيفا وثلاثين عاما تعد من أهم الفترات في تاريخ العلاقات السياسية والحربية بين الإسلام والنصرانية وبين الشرق والغرب، ولا تنحصر أهمية أعمال الفاتح الحربية في فتح القسطنطينية عاصمة النصرانية التليدة في الشرق، والتي قامت خلال عشرة قرون بأسوارها الضخمة المنيعة تدفع عن نفسها غزوات الغزاة من الشرق والغرب، فما هذا الفتح، على عظم خطورته وبعد آثاره، إلا واحد من فتوحاته العديدة الكثيرة في أوروبا وآسيا.
أما في آسيا فقد قضى السلطان الفاتح على البقية من الإمارات والقلاع القائمة في آسيا الصغرى وجعل هذه البقعة برمتها تحت سيادة عثمانية خالصة.

على أن حروب السلطان الفاتح في آسيا لم تكن حروبا أسيوية محضة، أعنى أ،ها لم تكن بين الدولة العثمانية وبين دول وإمارات آسيوية فحسب بل دخلت فيها عناصر وعوامل أخرى مختلفة امتزجت امتزاجا عجيبا كان من أثره ذلك التحالف الغريب ضد الدولة العثمانية بين إمارات إسلامية وأرثوذكسية في الشرق وبين البابوية وبعض الدول الأوروبية الكاثوليكية والتجارية في الغرب.


الفاتح
وفاة محمد الفاتح

محمد الفاتح وفتح القسطنطينية
حديث الرسول عن محمد الفاتح
محمد الفاتح pdf
محمد الفاتح مسلسل

إنجازات محمد الفاتح
محمد الفاتح كرتون
محمد الفاتح الحلقة 1

مسلسل السلطان محمد الفاتح

وفاة محمد الفاتح

نسب محمد الفاتح

محمد الفاتح وفتح القسطنطينية

أعمال محمد الفاتح

صفات محمد الفاتح

حديث الرسول عن محمد الفاتح

محمد الفاتح pdf



سنة النشر : 2013م / 1434هـ .
حجم الكتاب عند التحميل : 13.5 ميجا بايت .
نوع الكتاب : pdf.
عداد القراءة: عدد قراءة السلطان محمد الفاتح

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل السلطان محمد الفاتح
شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

برنامج تشغيل ملفات pdfقبل تحميل الكتاب ..
يجب ان يتوفر لديكم برنامج تشغيل وقراءة ملفات pdf
يمكن تحميلة من هنا 'http://get.adobe.com/reader/'

المؤلف:
محمد سالم الرشيدي - Mohammad Salem AlRashedy

كتب محمد سالم الرشيدي ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ السلطان محمد الفاتح ❝ ❞ السلطان محمد الفاتح ❝ الناشرين : ❞ دار البشير للثقافة والعلوم ❝ ❱. المزيد..

كتب محمد سالم الرشيدي
الناشر:
دار البشير للثقافة والعلوم
كتب دار البشير للثقافة والعلومليس كل ما يُكتب يُنشر،وليس كل ما يُنشر يُقرأ،الكتابة والنشر والقراءة منظومة تفاعلية آمنت بها دار البشير،لذا فمن أول يوم كنّا حريصين على أن ندقق في اختياراتنا ،فكانت دار البشير معكم على الطريق منذ عام 1982. نقدم ما ينفعُ ونُضيف إلى القارئ والمكتبة العربية ما يُثري الفكر ويُنمي الوعي ويُغذي شريان الثقافة دائما،مُحكّمين في البداية ضمير الناشر الحي على المحتوى الثمين ،مستلهمن رسالة التنوير الحقيقي ،متواصلون مع كل فنون الكتابة ،مدركين لرسالة القلم النبيلة،في أول أمة ما نزل عليها من الوحي هو التوجيه ب “اقرأ”،ومازلنا مستمرين…. ❰ ناشرين لمجموعة من المؤلفات أبرزها ❞ غزل البنات ❝ ❞ كوني صحابية ❝ ❞ منارات الحب ❝ ❞ الهالة المقدسة ❝ ❞ رجال من التاريخ ج1 ❝ ❞ ممنوع الضحك ❝ ❞ الصهيونية من بابل إلى بوش ❝ ❞ خريف شجرة الرمان ❝ ❞ ليالى تركستان ❝ ❞ السمو الروحي الأعظم والجمال الفني في البلاغة النبوية ❝ ومن أبرز المؤلفين : ❞ حنان لاشين ❝ ❞ علي الطنطاوي ❝ ❞ مصطفى صادق الرافعي ❝ ❞ كاتب غير معروف ❝ ❞ خالد أبو شادى ❝ ❞ ابن عساكر ❝ ❞ نجيب الكيلانى ❝ ❞ مجموعة من المؤلفين ❝ ❞ آمال عطية ❝ ❞ محمد أحمد الراشد ❝ ❞ د. فضل حسن عباس ❝ ❞ محمود ماهر على ❝ ❞ أبو هلال العسكري ❝ ❞ محبوبة محمد سلامة ❝ ❞ محمد عيسى داود ❝ ❞ عبد الحميد كشك ❝ ❞ ياسمين قنديل ❝ ❞ محمود مصطفى ❝ ❞ أورخان محمد علي ❝ ❞ نعمان عبد الرزاق السامرائي ❝ ❞ د. محمد عمر شابرا ❝ ❞ ساميه احمد ❝ ❞ طارق البشري ❝ ❞ عثمان بن أحمد بن قائد النجدي ❝ ❞ مجدي فتحي السيد ❝ ❞ وصال تقة ❝ ❞ محمد عبد القادر أبو فارس ❝ ❞ محمد الشرقاوي ❝ ❞ حلمي محمد القاعود ❝ ❞ محمد عبد الرحمن عوض ❝ ❞ محمد عطية ❝ ❞ صابر عبد الدايم ❝ ❞ السيد الباز العريني السيد أحمد خليل محمد فتحي الشنقيطي فؤاد عبدالمعطي الصياد محمد عبد الغني سعودي ❝ ❞ أحمد الجدع ❝ ❞ نادية مصطفى ❝ ❞ خليل بن كيكلدي العلائي ❝ ❞ محمد سالم الرشيدي ❝ ❞ أحمد السعيد مراد ❝ ❞ د. محمود النجيري ❝ ❞ د. مأمون فريز جرار ❝ ❞ عبير جمال الدين ❝ ❞ د. فتحي محمد الزغبي ❝ ❞ عايدة العزب موسى ❝ ❞ ياسر الغرباوي ❝ ❞ أبو الحسن الندوى ❝ ❞ أحمد عادل ❝ ❞ خالد فهمي وأبو الحسن الجمال ❝ ❞ جي دي موباسان ❝ ❞ خالد الأنصاري ❝ ❞ إبراهيم الحارتي ❝ ❞ الدكتور احمد حجازي السقا ❝ ❞ حنان الشيمى ❝ ❞ موريس ديكوبرا ❝ ❞ عبد الفتاح ماضي ❝ ❞ جاستون ليرو ❝ ❞ عمار الزين ❝ ❞ أسامة يوسف شهاب ❝ ❞ سعد ابو الرضا ❝ ❞ علي جاد مطر ❝ ❞ ابى يحى الغرناطى ❝ ❞ صفاء الفقي ❝ ❞ عبد العزيز عبد الرحمن قارة ❝ ❞ عز الدين بن جماعة ❝ ❞ د. محمد هلال ❝ ❞ محمد رامز عبد الفتاح مصطفى العزيزي ❝ ❞ محمد عبد الله الشرقاوي ❝ ❞ عادل الشويخ ❝ ❞ عائشة عثمان أوغلي ❝ ❞ اسماء دقماق ❝ ❞ علي أحمد العثمان ❝ ❞ نادية مصطفي-سيف عبد الفتاح-ماجدة ابراهيم ❝ ❞ محمد عبدالحكيم سليم ❝ ❞ ممدوح جميل النيربيه ❝ ❞ عبد الكريم بن أحمد مطهر ❝ ❞ الطبيب سليمان قوش ❝ ❞ عمر حسن القيام ❝ ❞ قحطان عبد الرحمن الدوري ❝ ❞ محمد رامز العزيزي ❝ ❞ أحمد خيري حافظ, أسماء علاء الدين ❝ ❞ ستانفورد ج شو ❝ ❞ عامر صالح ❝ ❞ إيناس فوزي مكاوي ❝ ❞ شيماء عادل ❝ ❞ سماح حسني صالح ❝ ❞ معتز أشرف ❝ ❱.المزيد.. كتب دار البشير للثقافة والعلوم