❞ رواية الدار الكبيرة ❝ ⏤ محمد ديب
في هذه الثلاثية للروائي الجزائري الذي نال عدة جوائز قيمّة منها، جائزة الكتّاب الجزائريين في عام 1967، والجائزة الكبرى للرواية التي منحتها مدينة باريس لعام 1995، يتعرف القارئ في الرواية الأولى "الدار الكبيرة"، وعبر قصة حياة الصبي "عمر"، على تفاصيل الحياة اليومية في "دار سبيطار" الجزائرية الشعبية "الملأى كخلية نحل"، وعلى معظم سكانها الذين يعانون الفقر المدقع، في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية.
من أجواء "المدرسة الفرنسية"، التي كان يرتادها الصبي عمر، حيث كان على الأستاذ الوطني تصحيح ما كان يقال للطلاب بأن "فرنسا هي أمنا الوطن"، وحيث يتعارك الأولاد، و"هذه المعارك العنيفة الدامية كانت تدوم أحياناً أياماً بأكملها"، وحيث تتفاوت بيئتهم بين صبية آخرون مثل عمر كانوا "يقضمون خبزهم" اليابس ليقتاتوا، وآخرون كإدريس الذي كان له "رفيق يحمل عنه حقيبته الجلدية المطرزة بالفضة والذهب.."، وحيث "أحسن تلاميذ الفصل هم من يعرفون كيف يكذبون أحسن من غيرهم، من يعرفون كيف يرتبون كذبهم".
في أيام العطل المدرسية "ما كانت "عيني" تعرف كيف تتخلص من ابنها"، كانت تدمدم "الشقاء هو حظي من الحياة"، فزوجها "الرجل الذي لا يصلح لشيء"، رحل عن الحياة، و"ترك لنا البؤس"، كما كانت تقول، وترك لها عمر وأختيه عويشة ومريم: "إننا نقضي وقتنا في خداع الجوع"، إضافة إلى الجدة المقعدة التي كانت "عيني" تبرّر سوء معاملتها لها قائلة: "حين يصبح أحدنا عاجزاً عن العمل، فإنه يستطيع أن يقول إنه مات وانتهى الأمر".
يصف الكاتب حياة الفقر والعوز في حي "دار سبيطار"، الذي كانت تداهمه الشرطة "لألف سبب وسبب: وكانت تقبض على شباب وكهول، لا يراهم أحد بعد ذلك"، كما يروي تفاصيل إحدى هذه المداهمات التي قامت بها الشرطة بحثاً عن "حميد سراج"، الشاب "المهذب" الذي أتى من تركيا، والذي جعل أهل الحي يتساءلون: "لماذا يقرأ حميد هذه القراءة كلها"، ويفنّد شخصيات أهل الحي: "سنية" التي لا "تهاب شيئا"، و"لالا زهرة" الشهمة التي "كان شبعها كل يوم، يضفي عليها مهابة"، كانت تهتم بابنتها "منون" المريضة التي طردها زوجها، و"زينة" وابنتها "زهور" التي تفتّح عمر على علاقته بها، وقصة زوجها الذي كان "يرى أنهم يموتون جوعاً"، لكنه رغم ذلك كان يغيب طويلا بسبب اجتماعاته الدائمة التي "إنما هي من أجل حياة أفضل"، "وفي سبيل تبديل حياة الناس الفقراء"، لكنه مات وترك عائلته في فقر وعوز، و"كان السبب هو أن له أفكاراً تتدفق في رأسه".
المزارعون في بني بوبلان التي كان يزورها عمر مع "زهور" التي كانت تذهب إلى هناك لرؤية اختها المتزوجة، "يعيشون في يسر، عكس الذين كانوا "يعيشون في ثقوب مع البهائم" في الجهة الثانية من الجبل.
تنتهي الراوية الأولى، بالتبدل النسبي لأمورعائلة عمر، مع بداية عمل الأختين في مصنع السجاد، وإن كان معاشهما زهيداً، ومع دخول مصطفى ابن الخالة إلى حياتها، ومع بوادر التحضير للحرب العالمية الثانية، وانبهار الموقف العربي من هتلر الكاره لليهود وأوهام دفاعه عن العرب وطرد الفرنسيين من الجزائر.
في "الحريق" الرواية الثانية من هذه الثلاثية، يغادر "عمر"، في سن الحادية عشرة، دار سبيطار متوجها إلى الريف، للعمل في القطاع الزراعي الذي تعمل فيه غالبية السكان في الجزائر، لكن "المستفيدون الرئيسيون من ثروات الأرض هم المعمّرون الذين يحوزون على الملكيات الكبيرة".
في قرية بني بوبلن، سيتعلّم عمر أسرار التعامل مع الأرض، على يد "كومندار" الرجل الكهل المقعد جراء "حياة عسكرية طويلة كلفته بتر ساقيه في آخر الأمر"، ورغم ذلك "كان قلبه يشبه شجرة من حديد"، وكان صوته "يفسر له الأسرار الكبرى للحياة والعالم". سينضم إلى مجموعة الفلاحين الكادحين الذين لا يملكون سوى قوة عملهم، والذين "هم غالباً فريسة للجوع"، لا يجدون مخرجاً للتعبير عن حالتهم البائسة إلا بالإضراب الذي يتعامل معه مالكي الأرض بالقمع والغدر والحيلة. كان "ثمة مأساة تُدبّر على تلك المرتفعات"، إذ أن أصحاب الأراضي سيستغلون حريقاً شبّ في أكواخ المزارعين، ليتهموا به كل من اعتبر محرضاً على الإضراب، فيقمع ويسجن ويعذّب.
يصف الكاتب تفاصيل الحياة في الريف الجزائري، ويقص "قصة الحياة الحزينة الشقية التي يعيشها الفلاحون"، الشيخ باديدوش العجوز وسلمان المغني وهاشمي وزهور وأختها ماما وزوج اختها قره الخائن لأرضه وناسه الفلاحين، والذي كان شرساً و"كأنه يفسد كل ما قد يقع بين يديه"، وسعيد صديق عمر، وعزوز، وستعود شخصية حميد سراج للظهور لتأخذ مكانها في النضال من أجل حياة أفضل فتلقى ما يلقاه كل المتمردين، لكن "لم يستطع الاضطهاد في يوم من الأيام أن ينتصر على الشعوب"، كما قال سيد علي، أحد الفلاحين. وسيتطرق الروائي إلى علاقة الفلاحين بالمستوطنين الفرنسيين، ويصف المصادمات العنيفة بينهم وبين رجال الشرطة.
يعود عمر إلى دار سبيطار بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية التي حصدت العديد من الرجال، وتركت النساء في حالة عوز أشدّ.
يكمل الكاتب ثلاثيته في رواية "النول"، ليصف في جزءها الأول، ما آلت إليه أحوال دار سبيطار، أضحت "المدينة القديمة التي كانت مدينة أصحاب الحرف"، أقرب إلى ما يشبه المدينة الصناعية". و"تكاثرت المناسج والمعامل تكاثراً مباغتاً، بينما كانت تشحن إلى فرنسا بغير توقف سجاجيد وأغطية"، و"كان جيش الجياع المتحرك يتدفق من الشوارع والأزقة بغير انقطاع". ومن خلال عمر الذي يبدأ في الخامسة عشرة من عمره عمله في أحد المصانع كمكبّب لشلل الصوف المغزول، سيتعرف القارئ على حياة العمال، وعلى "أثقال ذلك العنف المقلق الذي كان يخيم" على المصانع، وعلى ذهنية العمال المراهقين فيها. أما زهور التي كانت قد تزوجت من زوج يسيء معاملتها، فتعود إلى دار أمها في المدينة.
في الجزء الثاني يصف الروائي حالة التشرد والتسول التي كان يعانيها الآلاف من الناس في ذلك الزمن. "نظمت السلطات حملة لجمع هؤلاء المتسولين الذين اقتيدوا من المدينة إلى مكان غير معروف، كان لا بد، بحسب ممثل السلطة الحانق، من "استئصال هذه الحشرات" وتطهير المدينة منهم. لكنهم عاودوا الظهور بأعداد أكبر مما كانت في عليه. لكن، "ماذا يقول هذا الرجل..؟، الذي تجرأ وتكلّم وأعلن لرفاقه "إننا لن نحصل على شيء ولن تتبدل أحوالنا ما لم نقلب الأمور رأساً على عقب. يجب أن نغير الوضع الذي نحن فيه.." ما الوضع الذي سيؤول إليه كل شاب من شبان المصنع، والأفكار تفرّق ولا تجمع، في مجتمع يسوده العنف، فـ" في بلادنا، أن يتمكن الانسان أن يحيا، وأن يبقى حياً، هو انتصار بحد ذاته"..
عمل أدبي راق بأدبياته ولغته وأفكاره وسياقه وأسلوبه السلس والمشوق، كما في مبتغاه وأهدافه، وبجديّته في التعاطي مع واقع معقد في حقبة تاريخية غنية بأحداثها وتحولاتها الكبرى. رواية تذّكر القارئ بالأعمال الأدبية الكبرى التي لا تنسى، والتي تقدّم له الكثير من المعرفة والمعلومات، وحصيلة قيّمة من تجارب روائي تفاعل مع محيطه بصدق فنقل رؤياه الموضوعية الخصبة والاستثنائية.
ولد محمد ديب في تلمسان بالجزائر، بتاريخ 21 تموز/جويلية 1920. تابع دراسته الابتدائية والثانوية في مسقط راسه، ثم في وجدة بالمغرب. عين أستاذاً عضواً في مجلس جامعة كاليفورنيا للعام 1974، وعمل كأستاذ معيد في السوربون بين عامي 1982 و 1984. فاز بجائرزة الكتّاب الجزائريين في عام 1967 عن كامل أعماله. وفاز بجائزة مالارمية وجائزة الفرانكوفونية الكبرى التي منحتها الأكاديمية الفرنسية في عام 1994، والجائزة الكبرى للرواية التي منحتها مدينة باريس، لعام 1995.
صدر له أكثر من ثلاثين عمل.
محمد ديب - ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ الدار الكبيرة ❝ ❞ رواية الحريق ❝ ❞ صيف إفريقي ❝ ❞ غريبة الثلج والرمال ❝ الناشرين : ❞ دار الهلال ❝ ❞ مكتبة ومطبعة أطلس ❝ ❞ دار سيديا ❝ ❱
من كتب الروايات والقصص - مكتبة القصص والروايات والمجلّات.