❞ كتاب قضية التنوير ❝  ⏤ محمد قطب

❞ كتاب قضية التنوير ❝ ⏤ محمد قطب

فى القرنين الأخيرين كانت حال الأمة الإسلامية قد وصلت إلى حد من السوء لم تبلغه من قبل قط. فقد مرت بالأمة من قبل فترات من الضعف والاضمحلال – كانت تعود بعدها إلى القوة والتمكين – ولكنها لم تكن تضمحل فى مجموعها، بل كان الضعف يحتل جانبا من الساحة بينما يكون جانب آخر ما زال ممكنا فى الأرض، فحينما اجتاحت جحافل التتار الدولة العباسية فى المشرق، كانت الدولة الإسلامية فى المغرب والأندلس ما تزال قائمة، وحين سقطت الأندلس كانت الدولة العثمانية قد استولت على القسطنطينية وبدأت تتوغل فى شرق أوربا0
أما فى القرنين الأخيرين فقد استولى الضعف والاضمحلال على العالم الإسلامى كله، وتمكن الصليبيون فى جولتهم الثانية من الاستيلاء على معظم أجزاء العالم الإسلامى، ثم استطاعوا – بمعاونة الصهيونية العالمية – إزالة الدولة الإسلامية من الوجود0
وما يساورنا الشك فى أن فترة الاضمحلال الحالية ستنتهى كما انتهت سابقاتها، وستعود الأمة الإسلامية إلى التمكين مرة أخرى كما وعد الله ورسوله –ووعده الحق- ولو احتاج الأمر إلى وقت أطول وجهد أكبر مما احتاج إليه الأمر فى أى مرة سابقة، بالنظر إلى حال الأمة وحال الأعداء00
ولكنا هنا نرصد حركة التاريخ فى القرنين الماضيين، لنتتبع خطوطا معينة فى ذلك التاريخ0
لقد أدى الحال السيئ الذى وصلت إليه الأمة، واجتياح الأعداء لها من كل جانب، إلى قيام حركتين تصحيحيتين، تحاولان إصلاح الأحوال، وإعادة الحياة إلى ((الغثاء)) الذى صارت إليه الأمة كما أخبر الصادق المصدوق قبل أربعة عشر قرنا حين قال : ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها. قالوا : أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل. ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم، وليقذفن فى قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت))( )0
حركة التصحيح الأولى هى حركة ((التنوير)) أى حركة الإصلاح على النسق الغربى، المستفاد من أوربا، والحركة الأخرى هى الحركة الإسلامية، أى حركة العودة إلى الإسلام0
بدأت الأولى فى مصر وتركيا منذ قرنين من الزمان على وجه التقريب، ثم سرت فى بقية العالم الإسلامى عن قرن كامل. وقامت الأخرى فى أكثر من بلد من بلاد العالم الإسلامى، فى الجزيرة العربية، ومصر، والشمال الأفريقى، والهند، ولا يقل تاريخها فى أى بقعة من العالم الإسلامى عن نصف قرن على وجه التقريب0
وفى أكثر من كتاب ناقشنا الحركة الإسلامية لنرى ما لها وما عليها، وكان منهج النقاش أننا عرضنا الأمراض التى كانت تعانى منها الأمة وقت ظهور الحركة الإسلامية، والأسلوب الذى حاولت به الحركة أن تواجه تلك الأمراض وتعالجها، والجوانب التى نجحت فيها، والجوانب التى أخفقت فيها، ومدى مسئوليتها عن الفشل فيما فشلت فى علاجه من الأمراض. ولم نكن فى نقاشنا مجاملين للحركة الإسلامية، لأنه لا مجال للمجاملة فى أمر جاد يتوقف عليه مستقبل الأمة. فلئن قال قائل إن الأمراض كانت كثيرة، وإن الحركة لاقت مقاومة من هذا الجانب أو ذاك، فكل حركة إصلاحية فى التاريخ قد واجهت هذه المشكلات ذاتها: كثيرة الأمراض، وتوغلها فى جسم الأمة، وقلة المصلحين، والمقاومة التى تلقاها الحركة من هذا الجانب أو ذاك. ولكن على قدر إيمان كل حركة بما تقوم به، وعلى قدر صحة الأدوات التى تستخدمها، وعلى قدر عزيمتها ومثابرتها، يكون مدى نجاحها أو فشلها فى الإصلاح. وقد قلنا فى مناقشتنا للحركة الإسلامية إنها قد تعجلت فى مسيرتها، وأغفلت جوانب كان ينبغى أن توجه إليها عنايتها، وإن هذا التعجل قد أثر على الحركة ذاتها، وإنها ينبغى أن تراجع مسيرتها لتصحح مسارها، وتستدرك ما وقعت فيه من أخطاء، وتعوض ما وقع منها من تقصير( )0
وقد آن لنا الآن أن نناقش الحركة الأخرى لنرى ما لها وما عليها، على ذات المنهج الذى ناقشنا به الحركة الإسلامية، فنذكر الأمراض التى كانت تعانى منها الأمة الإسلامية وقت ظهور الحركة التى سمت نفسها أحيانا حركة النهضة، وأحيانا حركة الإصلاح، وأحيانا حركة التنوير (وهو أحب أسمائها إليها فى الوقت الحاضر)، والأسلوب الذى حاولت به الحركة أن تواجه تلك الأمراض وتعالجها، والجوانب التى نجحت فيها، والجوانب التى أخفقت فيها، ومدى مسئوليتها عن ا لفشل فيما فشلت فى علاجه من الأمراض0
وكما أننا لم نجامل الحركة الإسلامية، لأنه لا مجال للمجاملة فى أمر يتوقف عليه مستقبل الأمة، فكذلك لا ينبغى أن نجامل الحركة الأخرى، أولاً: ليكون النقاش عادلا ومتوازنا، وثانياً: لأن أى مجاملة على أساس كثرة الأمراض، وتوغلها فى جسم الأمة، وقلة المصلحين، والمقاومة التى تلقاها الحركة، هى سلاح يمكن لأى حركة إصلاحية أن تبرر به أخطاءها وتقصيرها، وما أسهل التبرير!
ولكن هناك نقطة واقعية لابد أن نضعها فى اعتبارنا ونحن نناقش كلتا الحركتين، فلئن كانت كلتا الحركتين قد لاقت مقاومة فى مبدأ أمرها من هذا الجانب أو ذاك، فإن هناك فرقا فى جانب مهم من القضية، هو أن حركة التنوير قد لاقت تشجيعا كبيرا من السلطات سواء المحلية أو العالمية، بينما الحركة الإسلامية قد وجدت –وما تزال تجد- مقاومة عنيدة من كل السلطات، سواء المحلية أو العالمية، وهذا أمر لابد أن يوضع فى الحسبان عند استخلاص النتائج النهائية لكلتا الحركتين0
وليس الهدف على أى حال هو مجرد المقارنة بين منهجين مختلفين فى الإصلاح. إنما الهدف أن تراجع الأمة مسيرتها لتحدد لنفسها اتجاهها. فكل أمة حية لابد أن تراجع مسيرتها بين الحين والحين، لتعرف هل تقدمت إلى الأمام، أم انتكست إلى الخلف، أم أنها واقفة مكانها لا تتحرك0
وحين تقوم الأمم الحية بهذه المراجعة فإنها تنظر فى حاضرها لتقوم مساره إن وجدت أنه لم يحقق آمالها، ثم تخطط لمستقبلها على ضوء مراجعتها لحاضرها، فتحاول أن تتدارك النقص، أو تقوم الأعوجاج0
وأحد أمراض الأمة الإسلامية فى وقتها الحاضر أنها لا تراجع مسيرتها! ولا تنظر فى حاضرها على ضوء خطواتها فى الماضى، ولا تخطط لمستقبلها! إنما تذهب حسبما يجرفها التيار!
ونعتقد اعتقادا جازما أنه لا تفلح أمة على هذا النحو00 وأنه لابد أن يقوم نفر من أبناء هذه الأمة – كل حسبما تؤهله قدرته واجتهاده – بعملية المراجعة والتقويم، ليرفعوا أمام أمتهم المرآة التى ترى فيها نفسها على حقيقتها، لتقرر على بصيرة أين تضع أقدامها وكيف تكون خطوتها القادمة00 وهذا فرض كفاية إن لم يقم به القادرون عليه أثمت الأمة كلها، تصديقا لقوله تعالى: ((واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة))( )0
ولنعلم كذلك أننا محاسبون أمام الله يوم القيامة عن عملنا كله فى الحياة الدنيا، وأن من بين ما نحن محاسبون عليه موقفنا من واقعنا المعاصر: هل ارتضيناه أم كرهناه؟ وهل حاولنا تغييره أم استسلمنا له؟ وهل شاركنا فى أمراضه أم حاولنا علاجها؟ وأن المسئولية تشمل الناس جميعاً، كل بحسب موقعه وما منحه الله من قدرات، ولا يقبل من أحد أن يقول يوم القيامة إننى لم أكن من المسئولين ! والله سبحانه وتعالى يقول : ((بل الإنسان على نفسه بصيرة* ولو ألقى معاذيره))( ) ويقول الرسول  : (( لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن أساءوا أسأنا!))( )0
ولنتدبر عبرة التاريخ 00 فالأمور لا تجرى فى الحياة الدنيا بلا ضابط00 إنما تحكم الحياة سنن ربانية، لا يشذ عنها شىء، ولا يخرج عن مقتضياتها شىء . وهى سنن حاسمة صارمة، لا تجامل ولا تحابى ولا تتخلف، والفلاح فى الدنيا والآخرة مرهون باتباعها، والعمل بمقتضياتها0
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، ووفقنا بفضلك ورحمتك إلى ما تحبه وترضاه
محمد قطب - ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ دراسات في النفس الانسانية ❝ ❞ العلمانيون والإسلام ❝ ❞ قبسات من الرسول ❝ ❞ لا يأتون بمثله! ❝ ❞ ماذا يعطى الإسلام للبشرية ❝ ❞ دراسات فى النفس الإنسانية ❝ ❞ واقعنا المعاصر ❝ ❞ لزوم بازنویسی تاریخ اسلام ❝ ❞ ماذا يعطى الإسلام للبشرية؟ ❝ الناشرين : ❞ دار الشروق للنشر والتوزيع: مصر - لبنان ❝ ❱
من قضايا معاصرة - مكتبة المكتبة التجريبية.

نبذة عن الكتاب:
قضية التنوير

فى القرنين الأخيرين كانت حال الأمة الإسلامية قد وصلت إلى حد من السوء لم تبلغه من قبل قط. فقد مرت بالأمة من قبل فترات من الضعف والاضمحلال – كانت تعود بعدها إلى القوة والتمكين – ولكنها لم تكن تضمحل فى مجموعها، بل كان الضعف يحتل جانبا من الساحة بينما يكون جانب آخر ما زال ممكنا فى الأرض، فحينما اجتاحت جحافل التتار الدولة العباسية فى المشرق، كانت الدولة الإسلامية فى المغرب والأندلس ما تزال قائمة، وحين سقطت الأندلس كانت الدولة العثمانية قد استولت على القسطنطينية وبدأت تتوغل فى شرق أوربا0
أما فى القرنين الأخيرين فقد استولى الضعف والاضمحلال على العالم الإسلامى كله، وتمكن الصليبيون فى جولتهم الثانية من الاستيلاء على معظم أجزاء العالم الإسلامى، ثم استطاعوا – بمعاونة الصهيونية العالمية – إزالة الدولة الإسلامية من الوجود0
وما يساورنا الشك فى أن فترة الاضمحلال الحالية ستنتهى كما انتهت سابقاتها، وستعود الأمة الإسلامية إلى التمكين مرة أخرى كما وعد الله ورسوله –ووعده الحق- ولو احتاج الأمر إلى وقت أطول وجهد أكبر مما احتاج إليه الأمر فى أى مرة سابقة، بالنظر إلى حال الأمة وحال الأعداء00
ولكنا هنا نرصد حركة التاريخ فى القرنين الماضيين، لنتتبع خطوطا معينة فى ذلك التاريخ0
لقد أدى الحال السيئ الذى وصلت إليه الأمة، واجتياح الأعداء لها من كل جانب، إلى قيام حركتين تصحيحيتين، تحاولان إصلاح الأحوال، وإعادة الحياة إلى ((الغثاء)) الذى صارت إليه الأمة كما أخبر الصادق المصدوق قبل أربعة عشر قرنا حين قال : ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها. قالوا : أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل. ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم، وليقذفن فى قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت))( )0
حركة التصحيح الأولى هى حركة ((التنوير)) أى حركة الإصلاح على النسق الغربى، المستفاد من أوربا، والحركة الأخرى هى الحركة الإسلامية، أى حركة العودة إلى الإسلام0
بدأت الأولى فى مصر وتركيا منذ قرنين من الزمان على وجه التقريب، ثم سرت فى بقية العالم الإسلامى عن قرن كامل. وقامت الأخرى فى أكثر من بلد من بلاد العالم الإسلامى، فى الجزيرة العربية، ومصر، والشمال الأفريقى، والهند، ولا يقل تاريخها فى أى بقعة من العالم الإسلامى عن نصف قرن على وجه التقريب0
وفى أكثر من كتاب ناقشنا الحركة الإسلامية لنرى ما لها وما عليها، وكان منهج النقاش أننا عرضنا الأمراض التى كانت تعانى منها الأمة وقت ظهور الحركة الإسلامية، والأسلوب الذى حاولت به الحركة أن تواجه تلك الأمراض وتعالجها، والجوانب التى نجحت فيها، والجوانب التى أخفقت فيها، ومدى مسئوليتها عن الفشل فيما فشلت فى علاجه من الأمراض. ولم نكن فى نقاشنا مجاملين للحركة الإسلامية، لأنه لا مجال للمجاملة فى أمر جاد يتوقف عليه مستقبل الأمة. فلئن قال قائل إن الأمراض كانت كثيرة، وإن الحركة لاقت مقاومة من هذا الجانب أو ذاك، فكل حركة إصلاحية فى التاريخ قد واجهت هذه المشكلات ذاتها: كثيرة الأمراض، وتوغلها فى جسم الأمة، وقلة المصلحين، والمقاومة التى تلقاها الحركة من هذا الجانب أو ذاك. ولكن على قدر إيمان كل حركة بما تقوم به، وعلى قدر صحة الأدوات التى تستخدمها، وعلى قدر عزيمتها ومثابرتها، يكون مدى نجاحها أو فشلها فى الإصلاح. وقد قلنا فى مناقشتنا للحركة الإسلامية إنها قد تعجلت فى مسيرتها، وأغفلت جوانب كان ينبغى أن توجه إليها عنايتها، وإن هذا التعجل قد أثر على الحركة ذاتها، وإنها ينبغى أن تراجع مسيرتها لتصحح مسارها، وتستدرك ما وقعت فيه من أخطاء، وتعوض ما وقع منها من تقصير( )0
وقد آن لنا الآن أن نناقش الحركة الأخرى لنرى ما لها وما عليها، على ذات المنهج الذى ناقشنا به الحركة الإسلامية، فنذكر الأمراض التى كانت تعانى منها الأمة الإسلامية وقت ظهور الحركة التى سمت نفسها أحيانا حركة النهضة، وأحيانا حركة الإصلاح، وأحيانا حركة التنوير (وهو أحب أسمائها إليها فى الوقت الحاضر)، والأسلوب الذى حاولت به الحركة أن تواجه تلك الأمراض وتعالجها، والجوانب التى نجحت فيها، والجوانب التى أخفقت فيها، ومدى مسئوليتها عن ا لفشل فيما فشلت فى علاجه من الأمراض0
وكما أننا لم نجامل الحركة الإسلامية، لأنه لا مجال للمجاملة فى أمر يتوقف عليه مستقبل الأمة، فكذلك لا ينبغى أن نجامل الحركة الأخرى، أولاً: ليكون النقاش عادلا ومتوازنا، وثانياً: لأن أى مجاملة على أساس كثرة الأمراض، وتوغلها فى جسم الأمة، وقلة المصلحين، والمقاومة التى تلقاها الحركة، هى سلاح يمكن لأى حركة إصلاحية أن تبرر به أخطاءها وتقصيرها، وما أسهل التبرير!
ولكن هناك نقطة واقعية لابد أن نضعها فى اعتبارنا ونحن نناقش كلتا الحركتين، فلئن كانت كلتا الحركتين قد لاقت مقاومة فى مبدأ أمرها من هذا الجانب أو ذاك، فإن هناك فرقا فى جانب مهم من القضية، هو أن حركة التنوير قد لاقت تشجيعا كبيرا من السلطات سواء المحلية أو العالمية، بينما الحركة الإسلامية قد وجدت –وما تزال تجد- مقاومة عنيدة من كل السلطات، سواء المحلية أو العالمية، وهذا أمر لابد أن يوضع فى الحسبان عند استخلاص النتائج النهائية لكلتا الحركتين0
وليس الهدف على أى حال هو مجرد المقارنة بين منهجين مختلفين فى الإصلاح. إنما الهدف أن تراجع الأمة مسيرتها لتحدد لنفسها اتجاهها. فكل أمة حية لابد أن تراجع مسيرتها بين الحين والحين، لتعرف هل تقدمت إلى الأمام، أم انتكست إلى الخلف، أم أنها واقفة مكانها لا تتحرك0
وحين تقوم الأمم الحية بهذه المراجعة فإنها تنظر فى حاضرها لتقوم مساره إن وجدت أنه لم يحقق آمالها، ثم تخطط لمستقبلها على ضوء مراجعتها لحاضرها، فتحاول أن تتدارك النقص، أو تقوم الأعوجاج0
وأحد أمراض الأمة الإسلامية فى وقتها الحاضر أنها لا تراجع مسيرتها! ولا تنظر فى حاضرها على ضوء خطواتها فى الماضى، ولا تخطط لمستقبلها! إنما تذهب حسبما يجرفها التيار!
ونعتقد اعتقادا جازما أنه لا تفلح أمة على هذا النحو00 وأنه لابد أن يقوم نفر من أبناء هذه الأمة – كل حسبما تؤهله قدرته واجتهاده – بعملية المراجعة والتقويم، ليرفعوا أمام أمتهم المرآة التى ترى فيها نفسها على حقيقتها، لتقرر على بصيرة أين تضع أقدامها وكيف تكون خطوتها القادمة00 وهذا فرض كفاية إن لم يقم به القادرون عليه أثمت الأمة كلها، تصديقا لقوله تعالى: ((واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة))( )0
ولنعلم كذلك أننا محاسبون أمام الله يوم القيامة عن عملنا كله فى الحياة الدنيا، وأن من بين ما نحن محاسبون عليه موقفنا من واقعنا المعاصر: هل ارتضيناه أم كرهناه؟ وهل حاولنا تغييره أم استسلمنا له؟ وهل شاركنا فى أمراضه أم حاولنا علاجها؟ وأن المسئولية تشمل الناس جميعاً، كل بحسب موقعه وما منحه الله من قدرات، ولا يقبل من أحد أن يقول يوم القيامة إننى لم أكن من المسئولين ! والله سبحانه وتعالى يقول : ((بل الإنسان على نفسه بصيرة* ولو ألقى معاذيره))( ) ويقول الرسول  : (( لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن أساءوا أسأنا!))( )0
ولنتدبر عبرة التاريخ 00 فالأمور لا تجرى فى الحياة الدنيا بلا ضابط00 إنما تحكم الحياة سنن ربانية، لا يشذ عنها شىء، ولا يخرج عن مقتضياتها شىء . وهى سنن حاسمة صارمة، لا تجامل ولا تحابى ولا تتخلف، والفلاح فى الدنيا والآخرة مرهون باتباعها، والعمل بمقتضياتها0
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، ووفقنا بفضلك ورحمتك إلى ما تحبه وترضاه .
المزيد..

تعليقات القرّاء:

فى القرنين الأخيرين كانت حال الأمة الإسلامية قد وصلت إلى حد من السوء لم تبلغه من قبل قط. فقد مرت بالأمة من قبل فترات من الضعف والاضمحلال كانت تعود بعدها إلى القوة والتمكين ولكنها لم تكن تضمحل فى مجموعها، بل كان الضعف يحتل جانبا من الساحة بينما يكون جانب آخر ما زال ممكنا فى الأرض، فحينما اجتاحت جحافل التتار الدولة العباسية فى المشرق، كانت الدولة الإسلامية فى المغرب والأندلس ما تزال قائمة، وحين سقطت الأندلس كانت الدولة العثمانية قد استولت على القسطنطينية وبدأت تتوغل فى شرق أوربا0

        أما فى القرنين الأخيرين فقد استولى الضعف والاضمحلال على العالم الإسلامى كله، وتمكن الصليبيون فى جولتهم الثانية من الاستيلاء على معظم أجزاء العالم الإسلامى، ثم استطاعوا بمعاونة الصهيونية العالمية إزالة الدولة الإسلامية من الوجود0

        وما يساورنا الشك فى أن فترة الاضمحلال الحالية ستنتهى كما انتهت سابقاتها، وستعود الأمة الإسلامية إلى التمكين مرة أخرى كما وعد الله ورسوله ووعده الحق- ولو احتاج الأمر إلى وقت أطول وجهد أكبر مما احتاج إليه الأمر فى أى مرة سابقة، بالنظر إلى حال الأمة وحال الأعداء00

        ولكنا هنا نرصد حركة التاريخ فى القرنين الماضيين، لنتتبع خطوطا معينة فى ذلك التاريخ0

        لقد أدى الحال السيئ الذى وصلت إليه الأمة، واجتياح الأعداء لها من كل جانب، إلى قيام حركتين تصحيحيتين، تحاولان إصلاح الأحوال، وإعادة الحياة إلى ((الغثاء)) الذى صارت إليه الأمة كما أخبر الصادق المصدوقr قبل أربعة عشر قرنا حين قال : ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها. قالوا : أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل. ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم، وليقذفن فى قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت))([1])0

        حركة التصحيح الأولى هى حركة ((التنوير)) أى حركة الإصلاح على النسق الغربى، المستفاد من أوربا، والحركة الأخرى هى الحركة الإسلامية، أى حركة العودة إلى الإسلام0

        بدأت الأولى فى مصر وتركيا منذ قرنين من الزمان على وجه التقريب، ثم سرت فى بقية العالم الإسلامى عن قرن كامل. وقامت الأخرى فى أكثر من بلد من بلاد العالم الإسلامى، فى الجزيرة العربية، ومصر، والشمال الأفريقى، والهند، ولا يقل تاريخها فى أى بقعة من العالم الإسلامى عن نصف قرن على وجه التقريب0

        وفى أكثر من كتاب ناقشنا الحركة الإسلامية لنرى ما لها وما عليها، وكان منهج النقاش أننا عرضنا الأمراض التى كانت تعانى منها الأمة وقت ظهور الحركة الإسلامية، والأسلوب الذى حاولت به الحركة أن تواجه تلك الأمراض وتعالجها، والجوانب التى نجحت فيها، والجوانب التى أخفقت فيها، ومدى مسئوليتها عن الفشل فيما فشلت فى علاجه من الأمراض. ولم نكن فى نقاشنا مجاملين للحركة الإسلامية، لأنه لا مجال للمجاملة فى أمر جاد يتوقف عليه مستقبل الأمة. فلئن قال قائل إن الأمراض كانت كثيرة، وإن الحركة لاقت مقاومة من هذا الجانب أو ذاك، فكل حركة إصلاحية فى التاريخ قد واجهت هذه المشكلات ذاتها: كثيرة الأمراض، وتوغلها فى جسم الأمة، وقلة المصلحين، والمقاومة التى تلقاها الحركة من هذا الجانب أو ذاك. ولكن على قدر إيمان كل حركة بما تقوم به، وعلى قدر صحة الأدوات التى تستخدمها، وعلى قدر عزيمتها ومثابرتها، يكون مدى نجاحها أو فشلها فى الإصلاح. وقد قلنا فى مناقشتنا للحركة الإسلامية إنها قد تعجلت فى مسيرتها، وأغفلت جوانب كان ينبغى أن توجه إليها عنايتها، وإن هذا التعجل قد أثر على الحركة ذاتها، وإنها ينبغى أن تراجع مسيرتها لتصحح مسارها، وتستدرك ما وقعت فيه من أخطاء، وتعوض ما وقع منها من تقصير([2])0

        وقد آن لنا الآن أن نناقش الحركة الأخرى لنرى ما لها وما عليها، على ذات المنهج الذى ناقشنا به الحركة الإسلامية، فنذكر الأمراض التى كانت تعانى منها الأمة الإسلامية وقت ظهور الحركة التى سمت نفسها أحيانا حركة النهضة، وأحيانا حركة الإصلاح، وأحيانا حركة التنوير (وهو أحب أسمائها إليها فى الوقت الحاضر)، والأسلوب الذى حاولت به الحركة أن تواجه تلك الأمراض وتعالجها، والجوانب التى نجحت فيها، والجوانب التى أخفقت فيها، ومدى مسئوليتها عن ا لفشل فيما فشلت فى علاجه من الأمراض0

        وكما أننا لم نجامل الحركة الإسلامية، لأنه لا مجال للمجاملة فى أمر يتوقف عليه مستقبل الأمة، فكذلك لا ينبغى أن نجامل الحركة الأخرى، أولاً: ليكون النقاش عادلا ومتوازنا، وثانياً: لأن أى مجاملة على أساس كثرة الأمراض، وتوغلها فى جسم الأمة، وقلة المصلحين، والمقاومة التى تلقاها الحركة، هى سلاح يمكن لأى حركة إصلاحية أن تبرر به أخطاءها وتقصيرها، وما أسهل التبرير!

        ولكن هناك نقطة واقعية لابد أن نضعها فى اعتبارنا ونحن نناقش كلتا الحركتين، فلئن كانت كلتا الحركتين قد لاقت مقاومة فى مبدأ أمرها من هذا الجانب أو ذاك، فإن هناك فرقا فى جانب مهم من القضية، هو أن حركة التنوير قد لاقت تشجيعا كبيرا من السلطات سواء المحلية أو العالمية، بينما الحركة الإسلامية قد وجدت وما تزال تجد- مقاومة عنيدة من كل السلطات، سواء المحلية أو العالمية، وهذا أمر لابد أن يوضع فى الحسبان عند استخلاص النتائج النهائية لكلتا الحركتين0

        وليس الهدف على أى حال هو مجرد المقارنة بين منهجين مختلفين فى الإصلاح. إنما الهدف أن تراجع الأمة مسيرتها لتحدد لنفسها اتجاهها. فكل أمة حية لابد أن تراجع مسيرتها بين الحين والحين، لتعرف هل تقدمت إلى الأمام، أم انتكست إلى الخلف، أم أنها واقفة مكانها لا تتحرك0

        وحين تقوم الأمم الحية بهذه المراجعة فإنها تنظر فى حاضرها لتقوم مساره إن وجدت أنه لم يحقق آمالها، ثم تخطط لمستقبلها على ضوء مراجعتها لحاضرها، فتحاول أن تتدارك النقص، أو تقوم الأعوجاج0

وأحد أمراض الأمة الإسلامية فى وقتها الحاضر أنها لا تراجع مسيرتها! ولا تنظر فى حاضرها على ضوء خطواتها فى الماضى، ولا تخطط لمستقبلها! إنما تذهب حسبما يجرفها التيار!

ونعتقد اعتقادا جازما أنه لا تفلح أمة على هذا النحو00 وأنه لابد أن يقوم نفر من أبناء هذه الأمة كل حسبما تؤهله قدرته واجتهاده بعملية المراجعة والتقويم، ليرفعوا أمام أمتهم المرآة التى ترى فيها نفسها على حقيقتها، لتقرر على بصيرة أين تضع أقدامها وكيف تكون خطوتها القادمة00 وهذا فرض كفاية إن لم يقم به القادرون عليه أثمت الأمة كلها، تصديقا لقوله تعالى: ((واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة))([3])0

ولنعلم كذلك أننا محاسبون أمام الله يوم القيامة عن عملنا كله فى الحياة الدنيا، وأن من بين ما نحن محاسبون عليه موقفنا من واقعنا المعاصر: هل ارتضيناه أم كرهناه؟ وهل حاولنا تغييره أم استسلمنا له؟ وهل شاركنا فى أمراضه أم حاولنا علاجها؟ وأن المسئولية تشمل الناس جميعاً، كل بحسب موقعه وما منحه الله من قدرات، ولا يقبل من أحد أن يقول يوم القيامة إننى لم أكن من المسئولين ! والله سبحانه وتعالى يقول : ((بل الإنسان على نفسه بصيرة* ولو ألقى معاذيره))([4]) ويقول الرسول r : (( لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن أساءوا أسأنا!))([5])0

ولنتدبر عبرة التاريخ 00 فالأمور لا تجرى فى الحياة الدنيا بلا ضابط00 إنما تحكم الحياة سنن ربانية، لا يشذ عنها شىء، ولا يخرج عن مقتضياتها شىء . وهى سنن حاسمة صارمة، لا تجامل ولا تحابى ولا تتخلف، والفلاح فى الدنيا والآخرة مرهون باتباعها، والعمل بمقتضياتها0

اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، ووفقنا بفضلك ورحمتك إلى ما تحبه وترضاه0

محمد قطب

 

 

 



حجم الكتاب عند التحميل : 96 كيلوبايت .
نوع الكتاب : doc.
عداد القراءة: عدد قراءة قضية التنوير

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل قضية التنوير
شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

برنامج تشغيل ملفات docقبل تحميل الكتاب ..
يجب ان يتوفر لديكم برنامج تشغيل وقراءة ملفات doc
يمكن تحميلة من هنا 'http://www.microsoftstore.com/store/msmea/ar_EG/pdp/Office-365-Personal/productID.299498600'

المؤلف:
محمد قطب - Muhammad Qutb

كتب محمد قطب ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ دراسات في النفس الانسانية ❝ ❞ العلمانيون والإسلام ❝ ❞ قبسات من الرسول ❝ ❞ لا يأتون بمثله! ❝ ❞ ماذا يعطى الإسلام للبشرية ❝ ❞ دراسات فى النفس الإنسانية ❝ ❞ واقعنا المعاصر ❝ ❞ لزوم بازنویسی تاریخ اسلام ❝ ❞ ماذا يعطى الإسلام للبشرية؟ ❝ الناشرين : ❞ دار الشروق للنشر والتوزيع: مصر - لبنان ❝ ❱. المزيد..

كتب محمد قطب