إسرائيل ولفنسون
❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام (دكتوراه) ❝ ❞ موسى بن ميمون حياته ومصنفاته ❝ الناشرين : ❞ مطبعة لجنة التاليف والترجمة والنشر ❝ ❞ مطبعة الاعتماد ❝ ❱تم إيجاد له: كتابين.
إسرائيل ولفنسون باحث ومؤرخ يهودي اشتهر بمؤلفاته عن تاريخ اليهود في بلاد العرب، واللغات السامية، وعدد من أعلام التراث العربي والإسلامي. وقد كتب مؤلفاته تلك بالعربية إبان الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي. أهميته تتمثل في أمرين:
الأَوَّل: له علاقة بما ألفه من كتب ودراسات باللغة العربية؛ لأنها ما زالت المراجع الأولية فيما يتعلق بتاريخ اليهود في التراث العربي والإسلامي.
أما الأمر الآخر: فيتعلق بشخصه؛ فهو شخصية مُلْبِسة، غامضة، يتعسر على المطلع عليها الوقوف على كنهها، إلا بفض مغلق وحيد من مغاليق شخصيته تلك، وهو اعتزازه بيهوديته.
لم أكد أقع على مؤلفات إسرائيل ولفنسون (1899-1980) حتى استلبتني استلاباً، ووجدتني منهمكاً في قراءتها والوقوف على دقائق تأليفها.. إسرائيل ولفنسون شخصية محيرة، تقلبت في أدوار منفصلة بعضها عن بعض، وإن كان يجمع بينها جميعاً خيط واحد، شديد الرهافة في أوله، سميك بادي المعالم في وسطه وأخراه، وهو ما يتمثل في يهوديته، واعتزازه الشديد بها، ثم من بعد ذلك تأثره ببواعث الحركة الصهيونية، لا بفضل ما كانت تطمح إليه -وما زالت- من ظفر سياسي، وغلبة القوة والسطوة، ولكن بفضل ما سيعقب ذلك من إحياءٍ لأوصال ديانته الأثيرة لديه، ونفخٍ في روحها يضمن عودتها إلى الحياة مستأسدة غير وانية.
وُلد إسرائيل ولفنسون عام 1899م لأسرة يهودية أشكينازية من المهاجرين القدامى (كما سنرى في السطور القادمة) ودرس بفلسطين، وتعلم اللغة العربية والعلوم الإسلامية واليهودية، ثم سافر إلى مصر والتحق هناك بالجامعة المصرية، وصار أول طالبٍ يهودي يحصل على شهادة الدكتوراه من الجامعة المصرية بإشراف أستاذه الدكتور طه حسين. ألف عدداً من الدراسات الهامة فيما يتعلق بالتراث اليهودي والإسلامي المشترك، نذكر منها: تاريخ اليهود في بلاد العرب (1927)، تاريخ اللغات السامية (1929)، موسى بن ميمون (1936). وقد كتب عدداً من المقالات والأبحاث في عدد من الصحف والدوريات المصرية. ثم سافر من بعد إلى ألمانيا وحصل هناك على درجة الدكتوراه من جامعة يوهان فولفجانج جوته عام 1933م عن أطروحته «كعب الأحبار وأثره في كتب الحديث والقصص الإسلامية»(1). ثم عاد بعد ذلك إلى مصر أستاذاً للغات السامية بكلية دار العلوم العليا، التي يبدو أنه كان يعمل بها أستاذاً حتى قبل سفره إلى ألمانيا.
وعلى الرغم من استقراره بمصر، وعلو مكانته بها، ومشاركته في الأنشطة الأكاديمية والثقافية في زمنه، نجده قد اعتراه تحول فجائي دفعه إلى ترك ذلك كله والرجوع إلى فلسطين أواخر عام 1934م(2)، تلبية لنداء الواجب الذي شعر به آنذاك، فاشتغل قليلاً بالجامعة العبرية بالقدس، ثم عين عام 1941م موجهاً عاماً لتدريس اللغة العربية بالمدارس اليهودية، وفي أثناء ذلك ألف كتباً تعليمية في اللغة العربية تيسيراً على التلامذة والأساتذة. وكان إذ ذاك يسعى بكل ما أوتي من قوة إلى نشر اللغة العربية بين مهاجري اليهود؛ لأنه كان يشعر بأهمية هذه اللغة، وأن الثقافة العبرية اليهودية لا يمكن فصلها عن الثقافة العربية الإسلامية.
ولكي أقف على طبيعة تلك الشخصية، وجدتني بعد تطواف في المراجع والكتب، ولَأْيٍ في استخراج ما في بطونها -على قلته- مدفوعاً إلى النظر إليها من خلال محاورَ ثلاثة، هي: 1) الكشف عن أصوله وأسرته قبل نزوحهم إلى أرض فلسطين، 2) عروبته ونظرته إلى نفسه وتقلب انتمائه، 3) يهوديته واعتزازه المتوقد بها.
اليِِِِشوف وحلم الماشيح
من أي بلد جاءت عائلة إسرائيل ولفنسون؟ ومتى نزلت بأرض فلسطين؟ ولماذا؟
في عام 1808م هاجر جماعة من اليهود من أراضيهم في ليتوانيا وروسيا البيضاء قاصدين القدس بأرض فلسطين، والرحلة في ذاك الزمان لا مناص مُهلكة، فالمسافة بين الأرضين قاصية ووسائل الرحلة لا رفاهية فيها ولا وَثارة. وبالفعل سافر ما يربو على 500 من اليهود قاصدين الاستيطان في أرض الميعاد. ولكن ما الذي حدا تلك الجماعة على الإقدام على تلك المَهلكة، وقد قضى الكثير منهم نحبه بالفعل أثناء تلك الرحلة؟ الإجابة تتلخص في أمرين: حلم ظهور الماشيح، والفرار من شظف العيش، وسوء الحال والمآل. لقد كان هؤلاء المهاجرون هم اليشوف القدامى(3)، أو قدامى المستوطنين اليهود في أرض فلسطين، وقد كانت هجرتهم تلك بدعوى من العلامة الكبير وأحد أعلام زمانه في الدراسات التوراتية والعبرية الحبر إلياهو شلومو زالمان (1720-1797) جاءون(4) مدينة فيلنا Vilna الليتوانية/البولندية، الذي بشر بظهور الماشيح في ذلك الزمان، وأن ظهوره سيكون بأرض الميعاد (عام 5600 وفقاً للتقويم العبري/ 1840 ميلادية، وذلك حسب حسابات القَبَّالة اليهودية). ومنذ عام 1808م والهجرات اليهودية تقبل على الأراضي الفلسطينية تترى من شتى بقاع البلدان الأوروبية والعربية.
لقد كان تلامذة الجاءون زالمان ومريدوه هم البعثة الأولى التي أنفذها إلى أرض فلسطين، وكانوا يُعرفون باسم الفيروشيم Perushim. وقد كان حلمه في زيارة أرض إسرائيل واستيطانها -في حقيقة الأمر- هو الدافع الذي ألهب أفئدة مئات من تلامذته، وحضهم على تكبد مشاق تلك الرحلة المهولة الخطرة. وكان أول ما نزل هؤلاء المستوطنون أن نزلوا في صفد، وطبرية، والقدس، وقد تسموا بالفيروشيم؛ لأنهم آثروا العزلة والانفصال عن المجتمع، زاهدين الدنيا وما تموج به من غايات وغوايات. ولعل من اللافت أن الفريسيين القدماء Pharisees كانوا أول من أطلقوا على أنفسهم ذلك الاسم (المعتزلة أو المعتزلون!). وعلى ما كان في تلك الهجرة من قسوة، فقد آتت ثمارها من بعد؛ إذ كانت تلك الهجرة من الأراضي الروسية وشرقي أوروبا إلى أرض فلسطين النواة التي صارت فيما بعد أساس يهود الأشكيناز أو اليهود الغربيين.
ومن بين تلاميذ الجاءون كان ثمة تلميذ نابه وعالم ممتاز يُدعى الحاخام حاييم فولوجين، وهو أول من أسس معهداً علمياً yeshiva لدراسة التوراة والتلمود في بلده فولوجين بروسيا البيضاء. وقد هاجر حاييم فولوجين ومعه أسرته وتلامذته إلى الأراضي الفلسطينية تحقيقاً لحلم الجاءون وأمانيه. وبما أن المراجع التي أشارت إلى حياة ولفنسون تذكر بالإجماع أن أسرته كانت من أسر اليشوف القدامى(5) وأن هذه الأسرة نزحت من روسيا البيضاء متوجهة إلى الأراضي الفلسطينية عام 1809م، فإنني أرى أن أسرة ولفنسون هذه كانت ولابد واحدة من تلك الأسر التي هاجرت من بلدة فولوجين أو من بلدة مجاورة لها مع هجرة حاييم فولوجين تلميذ الجاءون زالمان الأشهر. وقد كان لتلك الهجرة بالغ الأثر على اليهود بفلسطين، فقد نشر هؤلاء التلاميذ آراء أستاذهم الجاءون، وصارت آراؤه وتعاليمه -التي تدعوا إلى الصرامة والالتزام بقواعد الشريعة مع دراسة التوراة والتلمود دراسة متفحصة- هي الرائدة فيما يخص الفكر اليهودي الأشكينازي فيما بعد.
أريد أن أخرج من هذا التأصيل التاريخي بتأكيد مفاده أن أسرة إسرائيل ولفنسون كانت ولابد أسرة علم، مطبوعة على الدرس والتمحيص العلميين اللذين غرسهما فيهم الحاخام حاييم فولوجين؛ فقد كانت دراسة التوراة والتلمود المحور الذي تدور حوله حياة تلك الأسر ومعاشها، كما أن نبوءات الجاءون زالمان كانت هي أحلامهم الأثيرة. إذن كان لهذا النسب أبلغ الأثر في تكوين شخصية ولفنسون، فهو منذ حداثته مغمور بدراسات التوراة والتلمود، وهي دراسات تتسم بكثير من الصرامة والقدرة على هزم الملال. ويبدو أن هذه الحال قد طبعت ولفنسون وكونته تكويناً راسخاً من وجهتين: الأولى هي ما ذكرناه من إلفه الدراسة المتمحصة الدقيقة. والأخرى تتمثل في اعتزازه بيهوديته وبأهل ملته اعتزازاً لم يخمد أُواره، ورؤيته إياهم في أعلى درجات التميز والتفرد. وهذا ما نلحظه في مؤلفاته عن كعب الأحبار، وموسى بن ميمون، وغيرهم من كبار اليهود الذين أتى على ذكرهم في طيات مصنفاته.
تطوره الفكري من خلال مؤلفاته العربية
المتتبع لأعمال إسرائيل ولفنسون العربية يلاحظ تغيراً مستمراً يعتري أسلوب تفكيره، والوجهة التي يتناول بها أبحاثه. فهو في (تاريخ اليهود في بلاد العرب) المنشور 1927، أقل حظاً من ناحية التوثيق العلمي، والرصانة الأكاديمية، ولكنه موفور الحماس، متقد الذهن فيما يعرضه من قضايا، إلا أنه بالغ في اعتماده على أعمال المستشرقين، وكان في أغلب الأحيان تبعاً لهم، لا يكاد يخرج عن أفلاكهم حتى يعود إليها. كما أنه يعمل جاهداً في طيات كتابه من أجل توكيد أمرين: علو مكانة اليهودية في الجزيرة العربية قبيل الإسلام وأثرها في الإسلام كعقيدة وفي العرب المسلمين؛ والأمر الآخر يتمثل في محاولته إثبات قرابة اليهودية للإسلام أكثر من غيرها من الديانات، وقرابة بني إسرائيل للعرب أكثر من غيرهم من الشعوب. وهذا أمر له ما يسوغه؛ فهو من موقعه كطالب ثم أستاذ للدراسات السامية داخل أهم معقل من معاقل العلم والدراسة الأكاديمية في العالم العربي آنذاك، يحاول أن يطرح صيغة من صيغ التعايش ما بين العرب واليهود، مبرزاً ما كان لليهود من فضائل ومزايا. فالكتاب إذن ليس كتاباً خالصاً للعلم، بل هو في منزلة بين منزلتين: منزلة العلم ومنزلة السياسة والمداورة. وقد نجح في بلوغ مآربه إلى حد بعيد.
ثم يخرج علينا بعد ذلك بكتاب (تاريخ اللغات السامية) المنشور 1929، فنجد أن أسلوبه ومنهجه قد مسّهما شيء من النضج الفكري. فقد حاول أن يثبت في هذا المصنف بعض آرائه الخاصة بتاريخ تطور اللغة العربية ولهجاتها. وقد عرض الكتاب على المستشرق الألماني الكبير إنّو لِتمان (الذي كان يعمل أستاذاً بالجامعة المصرية في ذلك الوقت)، وقد مدحه لِتمان على ما بذله من جهد، إلا أنه انتقد آراءه الجديدة الخاصة بتاريخ اللغة العربية ولهجاتها. وقد أثبت ولفنسون تلك الملاحظات والنقود جميعاً في ذيل الكتاب بعد أن ترجمها من الألمانية إلى العربية. وقد ظل كتابه هذا هو المرجع الوحيد بالمكتبة العربية الذي يتناول هذا الموضوع بشكل متقن، وذلك حتى ظهور ترجمات كتب برجشتريسر، بروكلمان، وموسكاتي(6). ولابد هنا من الإشارة إلى أن معارف ولفنسون في هذا المجال كانت قاصرة بمقاييس الحاضر، ولا يمكننا أن نعدَّ ذلك تقصيراً من قبل ولفنسون؛ لأن المعارف والدراسات الخاصة بهذا الحقل تطورت تطوراً كبيراً بُعيد نشر الكتاب، وتم الكشف عن كثير من النقوش والآثار التي غيرت مسار هذا الحقل وأثرته إثراءً عظيماً، لاسيما اكتشاف النقوش الأوجاريتية في رأس شمر شمال اللاذقية عام 1928م، وفك رموزها على أيدي باور H. Bauer، فيرولو C. Virolleaud، ودورم E. Dhorme عام 1930م(7).
أما كتاب (كعب الأحبار) فهو كما أسلفنا مبني على رسالته لنيل درجة الدكتوراه من جامعة يوهان فولفجانج جوته، التي حصل عليها عام 1933م. لذلك فإن النسخة العربية المنشورة بالقدس عام 1976م -أي قبل وفاة ولفنسون بأربعة أعوام- لابد وأنه قد أدخل عليها تعديلات لتناسب المكتبة العربية، فمن الراجح أن رسالته المكتوبة بالألمانية في زمن العنفوان الفكري، كانت أقوى وأكثر رصانة من الطبعة العربية المذكورة. وعلى الرغم من ذلك فإن ولفنسون في كتابه هذا يظهر لنا بمظهر جديد، فهو تراثي من الطراز الأول، مطلع على التراث العربي في متونه التاريخية، والحديثية، والتفسيرية، اطلاعاً مبهراً. وهو بهذا قد خطا خطوة أخرى صوب الرصانة العلمية والفكرية، على الرغم من محاولته في الكتاب إثبات ميل كعب الأحبار إلى اليهودية كما سنرى بعد قليل.
أما كتابه عن (موسى بن ميمون) الصادر عام 1936م، فيُظهر لنا ولفنسون في أبهى حُلل الرصانة والاتزان العلمي. فالكتاب بحق مرجع في موضوعه، لم يتم تجاوزه حتى الآن في المكتبة العربية. فقد استطاع أن يضع أمام القارئ العربي أنموذجاً جديداً للبحث العلمي الرصين، لم يكن يعهده ذلك القارئ حتى عند أساطين هذا الزمان من الأكاديميين والعلماء. فالكتاب يجمع بين التوثيق المتقن، والاطلاع على مصادر ومراجع بلغات عدة (العبرية، العربية، الألمانية، الفرنسية، الإنجليزية، الإيطالية، واللاتينية)، والقدرة على إثبات ذلك كله وإحالته داخل متن النص وحواشيه. والمطلع على مؤلفات تلك الفترة وما بعدها لكبار العلماء والأكاديميين العرب لا يجد هذا النمط من التوثيق العلمي والاهتمام بدقة الإحالة والإسناد حاضراً في كتاباتهم، فكأنهم كانوا يكتبون بفيض من الخاطر أو بوحي يوحى. إلا أننا يجب أن ننتبه إلى حقيقة هامة، وهي أن ولفنسون قد كتب (موسى بن ميمون) بعد أن درس في ألمانيا على جهابذة الاستشراق الألماني، أي بعد أن جمع بين يديه خُطُمَ البحث العلمي وأزِمَّته، وصار مثلهم مستشرقاً، مطبوعاً بطبائعهم الفكرية، ومنهاجهم البحثي الأكاديمي الرصين.
ابن ميمون لم يعتنق الإسلام قط!
لقد كان ما جُبِل عليه ولفنسون من حب ديانته ورؤيته إياها في أعلى درجات السمو والرفعة، ما جعله يذود عنها ذوداً اضطره -على غير وعي منه- إلى مهاوي المغالاة والشطط. فنجد هذا حاضراً في كتبه عن موسى بن ميمون وكعب الأحبار. فهو في معرض حديثه عن ابن ميمون وقضية إسلامه حين خرج من قرطبة وسكن المرية، وهي قضية خلافية يصعب فيها ترجيح رأي على آخر، نجده يبسط الأقاويل والروايات الخاصة بهذا الأمر مفنداً آراء القائلين بإسلام ابن ميمون، وقد خلص إلى ما يلي: «والذي لا شكَّ فيه أن أسرة ابن ميمون مكثت على دين أسلافها طيلة الأعوام التي أقاموها بالمرية... ولم يكونوا ممن مكثوا بقرطبة وتظاهروا بالإسلام»(.
أما فيما يخص كعب الأحبار، فنجد ولفنسون طوال دراسته يؤكد عراقة كعب في اليهودية، بل على صعوبة انسلاخ اليهودي عن ديانته حتى إن آمن إيماناً قوياً بالإسلام أو غيره، فإن يهوديته ما تزال داخله، تدفعه وتطبع رؤيته للعالم بطابعها الخاص. لذلك يقول ولفنسون عن كعب الأحبار: إنه «كان يهودياً من المهد إلى اللحد، فقد تشبع بالعقلية اليهودية، حتى برزت فيه هذه النحلة بروزاً لم يُر مثله عند غيره من مسلمة اليهود، فقد كان بعد إسلامه كأنه لم يترك دين أجداده؛ لأنه كان ينظر إلى الإسلام بالعين اليهودية»(9).
ولا يتوقف الأمر عند ذاك الحد؛ بل إن ولفنسون لا يترك فرصة تلوح له حتى يغتنمها كي يؤكد رؤيته تلك. والقارئ المنتبه لن يعدم مثل هذه الإشارات والتلميحات المنثورة في كتبه العربية كلها.
رؤيته للإسلام وتراثه
إذا حاولنا الوقوف على ماهية رؤية ولفنسون للإسلام وتراثه فلن نجد خيراً من مصنفاته الإسلامية لنلجأ إليها، لاسيما كتابيه عن تاريخ اليهود في بلاد العرب، وعن كعب الأحبار. إلا أنه إذا ما اتخذنا خطوتين إلى الوراء ونظرنا إلى فكره من بعيد سنلحظ ملمحين أساسيين يرتسمان على تقاسيم رؤيته تلك: الأول، هو مفهومه عن النبوة، والآخر يتمثل في تكوينه العلمي الذي اصطبغ بصبغة الاستشراق الألماني.
إن إثبات النبوة في الإسلام أصل من أصول العقيدة والإيمان. فللنبوة في الإدراك العقدي الإسلامي رسوخ وقداسة، لاسيما أنها مرتبطة بشخص النبي المرسل محمد بن عبد الله. وهو -وإن اختلفت الآراء- العماد الذي ترتكن إليه العقيدة الإسلامية؛ إذ هو حامل الرسالة الإلهية، ووسيط رواية النص المقدس، ومورد التشريع من بعد النص(10). لذلك نرى أن مفهوم الإلحاد في الإسلام كان يشير في بواكير الفكر الإسلامي إلى إنكار النبوة لا الإلوهية، فكانت كتابات ابن الرِيْوِندي الملحد (القرن الرابع الهجري) (11)، ومحمد بن زكريا الرازي (ت 313 هـ) في أساسها محاولات لإنكار النبوة وتفنيد دعائمها عن طريق الدليل العقلي والتاريخي(12). إذن النبوة في الإسلام ليست ترفاً أو ثورة إصلاحية فردية، ضمن محاولات متكررة (أكثرها تتسنمه نوازع القنوط وأمارات الفشل) من أجل هداية فرد بعينه أو أمة بعينها، كما هي حال أنبياء بني إسرائيل. فالنبوة في اليهودية تشير إلى أفراد «ملهمين» من قبل الرب، يدعون الناس على طريقة الخطباء والقادة إلى التوحيد، أو إلى الانصياع لأوامر الرب، وهم في الغالب يفشلون. لذلك نجد أن إبراهيم، وإسماعيل، وإسحق، ويعقوب، ويوسف، وموسى، وداود، وسليمان -وفقاً للمفهوم التوراتي- ليسوا أنبياءً بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكنهم الآباء المؤسسون للديانة Patriarchs، وقادة الشعب، ومخلصوه(13). أما الأنبياء، فلهم منـزلة أدنى من ذلك، لاسيما بعد صعود صمويل النبي وافتتاح عصر ملوك إسرائيل(14)، وهم من الكثرة حتى صُنف كل منهم على قدر منـزلته؛ فهناك الأنبياء الكبار وهناك أيضاً الصغار. كما أننا نجدهم على صنوف عدة؛ فمنهم رجال الدولة، ومنهم العرّافون، والخطباء، ورجال الدين الأتقياء، والكهنة، والمصلحون الاجتماعيون، وغير ذلك من الأدوار والوظائف(15).
هكذا النبوة في اليهودية وحسب المفهوم التوراتي، وهو المفهوم الذي تربى عليه ولفنسون واستساغه عقله. ويتجلى لنا ذلك في رؤيته للإسلام ونبيه؛ فهو يرى أن ظهور الإسلام يرجع الفضل فيه لليهودية التي بشرت بظهور المسيح/الماشيح، وبهذا مُهدت الجزيرة العربية لقبول الرسول(16)، كما أنه يرى أن الرسول كان منذ حداثته مرتبطاً «ارتباطاً شديداً» بيهود يثرب وخيبر(17)، وهذا تلميح لا يخفى على ذوي الفطن، ثم نأتي الآن لفقرة محورية، أراها مبينة لما كان يعتمل في فكره عن الإسلام ورسوله أشد الإبانة؛ إذ يقول:
«وإننا نعتقد أنه لو ظهر هناك يهودي ذو عاطفة ربانية قوية ودعا العرب إلى الدخول في دين جديد يشبه اليهودية في جوهره ويبقى عربياً في تقاليده وروحه لكانت دعوته قد وجدت آذاناً مصغية وقلوباً واعية... كذلك لو كان واحد من المفكرين الحنيفيين أو غيرهم دعا لتوحيد الإله مع إبقاء النظم العربية الاجتماعية التليدة لكانت دعوته قد صادفت أرضاً خصبة»(18).
هكذا لو ظهر هناك يهودي «ذو عاطفة ربانية قوية» أي في إهاب نبي، لدانت له العرب تماماً كما دانت لرسول الإسلام. وهو بهذا يرى الإسلام فرعاً من اليهودية، تولد عنها، وبفضلها. لذلك نراه يستنكر على بني النضير مناصرتهم قريش ضد المسلمين، فيقول:
«لكن الذي يلامون عليه بحق والذي يؤلم كل مؤمن بإله واحد من اليهود والمسلمين على السواء إنما هو تلك المحادثة التي جرت بين قريش الوثنيين؛ حيث فضل هؤلاء النفر من اليهود أديان قريش على دين صاحب الرسالة الإسلامية... كان من واجب هؤلاء اليهود ألا يتورطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش، وألا يصرحوا أمام زعماء قريش بأن عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامي، ولو أدى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطلبهم؛ لأن بني إسرائيل الذين كانوا مدة قرون حاملي راية التوحيد في العالم بين الأمم الوثنية باسم الآباء الأقدمين، والذين نكبوا بنكبات لا تحصى من تقتيل واضطهاد بسبب إيمانهم بإله واحد في عصور شتى من الأدوار التاريخية، كان من واجبهم أن يضحوا بحياتهم وبكل عزيز لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين. هذا فضلاً عن أنهم بالتجائهم إلى عبدة الأصنام إنما كانوا يحاربون أنفسهم بأنفسهم، ويناقضون تعاليم التوراة التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام والوقوف منهم موقف الخصومة»(19).
أما الملمح الآخر فيتمثل بجلاء في دراسته على عدد من أساطين الاستشراق الألماني إبان إقامته في ألمانيا، وحصوله على درجة الدكتوراه (الثانية) من جامعة يوهان فولفجانج جوته عام 1933م. وما أعنيه من تأثره بمدرسة الاستشراق الألماني في هذا السياق ينصب على نظرته للإسلام من خلال منظار تلك المدرسة. فالدرس على أعلام مثل يوسف هوروفتس (اليهودي)، وكارل هاينرش بكر، وهانز هينرش شيدر، وجوستاف فايل (اليهودي أيضاً) كفيل بأن يغرس في المتتلمذ عليهم ما كانوا يعتقدونه من آراء. وليس من شك في أن هؤلاء المستشرقين كانوا يرون الإسلام ونبيه من منظور تاريخي أنثروبولوجي؛ أي أن الإسلام ما هو إلا ظاهرة اجتمعت لها ظروف وروافد ثقافية عدة أسهمت في تكوينه واستوائه على ما وصل إليه. ونبي الإسلام –بالطبع- ما هو إلا مصلح اجتماعي أو سياسي بارع. وهذا جلي في أعمال هوروفتس التاريخية، وكتابات فايل عن الأصول الكتابية للقرآن. لهذا سلكتُ ولفنسون في سلكهم، وعددته من المستشرقين. والدليل على ذلك يتجلى في مسألة دقيقة، تتمثل في عدم توقعنا أن يستصرخ يهودي إسرائيلي العرب والمسلمين من أجل الحفاظ على تراثهم العربي الإسلامي أو دراسته ونشره على نحو مرضٍ ورصين، فنراه يكتب مقالاً في جريدة الأهرام المصرية عن تفسير (جامع البيان في تفسير القرآن) للطبري (ت 310 هـ) يقول فيه:
«وقبل أن نتعرض للكتاب يجدر بنا أن نشير إلى مسألة طبع الكتب العربية المخطوطة في الشرق الإسلامي عامة وفي مصر خاصة... إذا كنا اعتدنا أن نرمي المستشرقين في بعض الأحوال بالتعصب ضد الإسلام بنشرهم نظريات فيها شطط وتفريط في حق الدين الحنيف، فمما لا شكَّ فيه أن الواجب كان يقضي علينا بأن نسلك مسلكهم العلمي الدقيق المألوف عند تعرضهم لطبع كتبنا الشرقية...ومما يثير تعجبي أن الهيئات العلمية الإسلامية في الشرق لم تستفد الفائدة المرجوة من ظهور جامع البيان في تفسير القرآن؛ إذ لم يستعمل علماء التاريخ الإسلامي أو الباحثون في قواعد اللغة العربية أو من يعتني بأخبار الفرق الإسلامية.. المعلومات المبعثرة في ذلك الكتاب الذي يعد بحق دائرة معارف الرواية والحديث الإسلامي. ولماذا لم يتناول طلاب الأزهر ودار العلوم والجامعة المصرية تفسير الطبري؛ إذ هو بلا شكَّ يغنيهم عن البحث في النسفي والسيوطي والجلالين على أقل تقدير»(20).
وفي مقال آخر له عن مخطوط (الجامع في الحديث) لعبد الله بن وهب المصري (ت 197هـ) في الجريدة نفسها، نجده يتعجب فيقول:
«إنْ أعجب من شيء فعجبي من أن رجال الأزهر لم يلتفتوا للآن إلى هذا السفر النفيس بعد ظهوره، وقد كان من واجبهم أن يعدوا ظهور هذا التراث الديني الإسلامي القديم حادثاً عظيماً في تاريخ نشأة علم الحديث الشريف، فيبادروا -على الأقل- إلى تكوين لجنة من العلماء كي تراجعه مراجعة دقيقة، ومقابلته بالمجموعات الأخرى من صحيح الحديث للأئمة الآخرين، ثم تعمل بعد ذلك على نشره ليعم نفعه بين طلبة العلوم الإسلامية في مصر وغيرها من البلدان»(21).
إن الذي يكتب في هذه المقالات وغيرها هو إسرائيل ولفنسون المستشرق، الذي يشارك المستشرقين ولعهم بالتراث العربي، والانهماك والتبتل من أجل درسه وفهمه. ولهذا نراه دائماً ما يمهر تلك المقالات بتوقيع استشراقي، فيكتب: إسرائيل ولفنسون (أبو ذؤيب). وهذا ما كان يفعله كثير من المستشرقين، من أمثال أوجست ميللر الذي سمى نفسه «امرأ القيس بن الطحان» وهي ترجمة قريبة من اسمه الألماني، تماماً كما هي الحال مع (أبي ذؤيب) التي هي أيضاً ترجمة قريبة لكلمة «ولفنسون» التي تعني «ابن الذئب». ولا يمكنني في هذا السياق أن أستسلم لذلك التصور الساذج الذي قد يرد حميته وغيرته على التراث العربي إلى نشأته في البلدان العربية وتعلمه في فلسطين ومصر، ونهله من مناهل التراث العربي. فذلك رأي لا يستقيم عندي، فإن كان الأمر كذلك، فلماذا هاجر إلى إسرائيل فور استدعائه إليها؟ ولماذا ساعد بشكل ما الحركة الصهيونية وكان من رجالها في إسرائيل؟ ولماذا انصرف عن درس التراث العربي إلى دعم حركات التهويد في أفريقيا؟ الإجابة عن هذه الأسئلة لا تستأهل كثير جدل، ولا كداً للخاطر؛ فاعتقادي أن ولفنسون إنما يهتم بالتراث العربي؛ لأنه يراه في تماس مع تراثه وديانته، فيستطيع من خلال دراسته (أي التراث العربي) والوقوف على أسراره أن يقف على بعض أسرار ديانته وأن يفض بعض مغاليق تراثه. والغريب في الأمر أن ولفنسون لم يكن متصنعاً قط في حملته على كسل المؤسسات العربية والإسلامية وتخاذلها في نشر تراثها والعناية به، فمشاعره تلك تنبع من منبع آخر لا علاقة بانتمائه إلى إسرائيل، ذلك المنبع هو شغفه بالعلم، وهو شغف على صعيدين: صعيد مطلق، العلم فيه غاية تُبتغى لذاتها، وصعيد آخر مصلحي، العلم فيه تُكَأةٌ لبلوغ مدارك أعلى في فهم ديانته وتراثه.
من إسرائيل إلى إثيوبيا
أعود لتوكيد ما ذكرته سابقاً من أن إيمان ولفنسون بديانته واعتزازه بها كانا الدافع المحرك له في أدوار حياته كلها على اختلافها وتنوعها. فبعد هجرته (أو عودته) إلى إسرائيل، عمل ولفنسون موجهاً عاماً لتدريس اللغة العربية بالمدارس اليهودية كما ذكرت، وبعد أن اطمأن على ثمار جهده على هذا الدرب، اشتغل أستاذاً للغة العربية والدراسات الإسلامية بجامعة بار إيلان بالقدس. وهنا نجد أن اختياره للجامعة يشي أيضاً بما كان يعتمل في فكره؛ فجامعة بار إيلان جامعة دينية بالأساس تهدف إلى ترسيخ مبادئ اليهودية ونشرها بين يهود إسرائيل.
إلا أن نفسَ ولفنسون أبت الاستكانة إلى الدعة وقرير العيش، فيبدو أن الرجل كان يشعر أنه صاحب رسالة وأنه وُجد في هذا العالم ليرفع لواء ديانته اليهودية عالياً. ولابد هنا من التنويه إلى أمر شديد الأهمية: لم يكن ولفنسون من متطرفة اليهود، ولا من الساعين إلى هيمنة الجنس اليهودي (إذا جاز التعبير) على العالم. فعمله وجهده وكتاباته كلها كانت تصدر عن إيمان راسخ بعظمة الديانة اليهودية، وأنها ديانة صالحة لكل زمان ومكان؛ بل إنها أصل الأديان السماوية جمعاء. لذلك نراه في كتاباته يميل إلى الإسلام أكثر من المسيحية؛ لاعتقاده بوثاقة الصلة بين اليهودية والإسلام أكثر منها بين اليهودية والمسيحية. وهو لذلك لا ينفك عن التذكير بأن الديانتين (اليهودية والإسلام) ديانتا توحيد، وأن «بني إسرائيل كانوا مدة قرون حاملي راية التوحيد في العالم»(22). من أجل ذلك أنشأ عام 1955م(23) اتحاد دولي يهدف إلى نشر الديانة اليهودية بين الناس، وسماه الاتحاد العالمي لنشر اليهودية(24). وقد اهتم ببعض الشعوب الأفريقية على وجه الخصوص، استكمالاً لمسيرة جاك فيتلوفيتش كما سنرى؛ لأن هذه الشعوب على حال من البدائية الفكرية، والعوز المادي، مما يجعلهم أيسر في الاقتناع بالدخول في اليهودية. وقد بدأ جهوده تلك باستقطاب الأفارقة الذين يزعمون انتماءهم للديانة اليهودية في إثيوبيا وزيمبابوي.
لقد كان جاك فيتلوفيتش(25) (1881-1955) J. Faitlovitch رائد عمليات التهويد في أفريقيا، حتى لقب بأبي يهود الفلاشا(26)، وكان في نظر اليهود بطلاً من أبطال اليهودية. أما ولفنسون فقد كان في الثامنة من عمره حين التقى فيتلوفيتش للمرة الأولى؛ وذلك حين زار فيتلوفيتش مدرسته الابتدائية بلامل في القدس عام 1907م، ودخل عليهم غرفة الدرس بصحبة اثنين من يهود الحبشة دخول الأبطال المظفرين، اعترافاً بجهوده الجمة التي بذلها في القارة الأفريقية من أجل دراسة وفهم يهود الفلاشا. ومن وقتها وولفنسون ينظر إلى فيتلوفيتش نظرة إجلال وإكبار. إلا أنه عندما اكتملت أدواته، ونضجت عاطفته وآراؤه، لم يجد في نفسه الشغف ذاته الذي كان يملؤه تجاه فيتلوفيتش؛ فولفنسون لم يعجب كثيراً بسياسات فيتلوفيتش الخاصة بالتهويد؛ لأن الأخير كان يتبع الأنموذج اليهودي الأوروبي(27)، وهو على ما يبدو أنموذج فيه شيء من العنصرية أو النظرة الفوقية المتعالية. ولابد لنا هنا من التنويه على أمر شديد الأهمية: لقد كان ولفنسون مؤمناً إيماناً حقيقياً بضرورة التعايش بين ثقافات شديدة التباين فيما بينها، وكان ذلك مرده إلى شعوره المتعاظم بعالمية ديانته، وأنها قادرة على صهر كل هذه الثقافات داخل بوتقتها. وهناك أيضاً بعض المراجع التي تؤكد على ما كان له من نزوع للتحرر من القومية والمحلية(28). كل هذا جعله يرى في أنموذج فيتلوفيتش أنموذجاً بعيداً عن العدالة التي كان ينشدها لكل المتهوّدين، فعلى سبيل المثال لم ينظر ولفنسون إلى الفلاشا على أنهم يهود من الدرجة الثانية، أو أنهم يهود غير أصلاء، ولكنه كان يراهم يهوداً كاملي اليهودية، لهم ما لغيرهم من يهود إسرائيل من حقوق كاملة، وكان يرى أيضاً وجوب هجرتهم إلى إسرائيل، وتأسيس لجنة تهدف إلى نشر اليهودية في البلدان الأفريقية، لاسيما نيجيريا والكونغو.
وعلى الرغم من اختلافه مع آراء فيتلوفيتش وسياساته، فقد كان ولفنسون تملؤه النـزعة التبشيرية ذاتها التي كانت تملأ فيتلوفيتش، لذلك نجده قد انضم إلى تلك اللجان التي أسسها فيتلوفيتش إبان الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين. بل نجده يُصَدِّر الترجمة العبرية(29) لكتاب فيتلوفيتش «رحلتان إلى يهود الفلاشا»(30) بمقال احتفائي بعنوان (فيتلوفيتش: الحالم والمحارب) ذكر فيه جهود فيتلوفيتش الكبيرة في نشر اليهودية في القارة الأفريقية، وذلك بعد أربعة أعوام من وفاة فيتلوفيتش. وقد توجت مجهودات ولفنسون في هذا الصدد بأن عُين رئيساً لمنظمة الأجودا Agudah الإسرائيلية التي تسعى إلى رعاية المتهودين الجدد وحماية حقوقهم. وهنا يجب أن نذكر القارئ بأن دوافع ولفنسون لتهويد الأفارقة والأحباش، لم تكن محض انفعال أو صدفة، بل كانت مدفوعة بروح توراتية حملتها رؤية النبي صفنيا: «ففي ذلِكَ اليومِ أجعَلُ لِلشُّعوبِ شِفاهًا طاهِرةً لِيَدعوا باَسْمِ الرّبِّ ويَعبُدوهُ بِقلبٍ واحدٍ. مِنْ عَبْرِ أنهارِ كُوشَ يُقَدِّمونَ إليَ الهَدايا ويتَضرَّعونَ» (صفنيا 3: 9-10). وكان من ثمار هذا الاهتمام كتاب ألفه ولفنسون بالعبرية بعنوان «اعتناق اليهودية: المشكلات الحالية في ضوء التاريخ»(31).
اليهودي التائه:
أكثر ما يثير التساؤل في سيرة إسرائيل ولفنسون هو ما يجده الباحث من ندرة المصادر التي تشير إليه أو تتناول سيرته(32)، على الرغم مما كان له من أدوار مهمة لعبها في مصر، وألمانيا، ثم إسرائيل. ولنفترض أنه من المنظور العربي إسرائيل ولفنسون هو اليهودي الذي خان العرب بعد أن غررت به الصهيونية، وصار مدافعاً عن دولة إسرائيل بعد أن نهل من منابع مصر الثرة، وتتلمذ على أساتذتها الكبار، ودرّس في جامعتها، وعاش بين أهلها. لهذا فحقيق به ما يعتري المؤلفات العربية من إغفال ذكره، وطي وجوده. وهذا بالطبع إن كان فرضاً صحيحاً، فهو موقف لا يوصف إلا بالسخف وقصور الرؤية. ولكن لنفترض صحته كي نجد مسوغاً لتلك الغفلة أو الإغفال.
ولكن ما الذي يسوغ غياب ذكره في المصادر الغربية والعبرية؛ حتى إنني لم أجد له ذكراً في دائرة المعارف اليهودية، في طبعتها الثانية المزيدة المنقحة، الصادرة عام 2006م في 22 مجلداً؟ فإذا كان هو الصهيوني الخائن الذي يستحق التناسي والطمر من منظور ثقافتنا، فما الذي اقترفه إسرائيل ولفنسون لتسومه المصادر والمراجع الغربية والعبرية سوء التناسي والإغفال؟ الإجابة عن هذا في اعتقادي تتمثل في أمر وحيد: وهو رؤية ولفنسون لليهودية وفهمه لها. لم يكن ولفنسون من هؤلاء المتعصبين الغلاة، الذين ينظرون إلى اليهودية بصفتها ديناً له عرقية أو بالأحرى عرقية لها دين؛ بل كان ينظر لليهودية من منظور آخر..منظور عالمي يرى من خلاله اليهوديةَ ديناً عظيماً قادراً على استيعاب شعوب العالم على اختلاف روافدهم ومشاربهم الفكرية والحضارية. ولهذا نجده مثلا يسعى إلى استصدار قانونٍ حاخامي (وهو بمنـزلة الفتوى الملزمة شرعاً عندنا) يعطي المتهود الحرية في الاحتفاظ باسمه من دون أن يفرض عليه اسماً عبرياً كما هو الحال الآن.
هذا طرف من قصة إسرائيل ولفنسون (أبي ذؤيب) وسيرته ذات الفصول والوصول. ولا أعرف لماذا استحضر ذهني في هذا السياق أسطورة اليهودي التائه.. بيد أن التيه الذي أعنيه هنا ليس تيه اليهودي «أحشويروش» الذي ضن على المسيح بشيء من الراحة وهو حامل الصليب، فلعنه المسيح بالتيه حتى رجوعه مرة أخرى، بل تيه من نوع آخر.. تيه بين المصادر والمراجع، تيه في فلاة الذاكرة. لقد تقلب ولفنسون في أدوار عدة حسب المكان والزمان: فهو في مصر (أبو ذؤيب)، اليهودي البحاثة الذي تبناه طه حسين والشيخ عبد الوهاب النجار، وهو في ألمانيا (فولفنـزون)، المستعرب «الأورشليمي» كما كتب على غلاف رسالته للدكتوراه، الذي درس على أعلام الاستشراق الألماني في هذا الزمان: هوروفتس، هاينريش بِكر، ميتفوخ، شيدر، فايل، كونتسل، رايندورف، بلسنر، وماير. أما في إسرائيل فهو (بن زييف/زئيف أو بن زيب) من هؤلاء المستشرقين(33) الذين وضعوا أسس تعليم اللغة العربية في المدارس الإسرائيلية، وهو الذي كان يحلم بتهويد العرب المسلمين كوسيلة لحل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وهو المبشر الذي سعى بجهد لا يعرف الكلل من أجل نشر اليهودية في أفريقيا، وأيضاً في اليابان.
التيه هنا تيه بين الهويات، والقوميات، واللغات، والأسماء، والكنى.. تيه فعلي وآخر رمزي. تيهٌ طَمَسَ ذكره وصيره من المجهولين، حتى لنجد كثيراً من المراجع العربية والأجنبية لا تعرف متى وُلد أو متى وافته المنية على وجه الدقة. إلا أن كُلَفَ التجاهل والغفلة كُلَفٌ باهظة، تَفْدَح العلم وطُلابه أكثر ما تَفْدَح غيرهم(34). وإسرائيل ولفنسون -على أصعدة كثيرة- يستأهل أكثر من هذه الدراسة العابرة، ولعل المنقب عنه في الأرشيفات الإسرائيلية والمصرية، والإصدارات الصحفية والأكاديمية التي أسهم في تأسيسها أو بالمشاركة فيها، سيجد الكثير مما يخبرنا به عن الرجل. وقد أشرت في الهامش السابق إلى وجود ما يشبه السيرة الذاتية كتبها ولفنسون بنفسه وفقاً لرواية رودولف زيلهايم(35)، ولعل العثور على تلك السيرة قد يوقفنا على أسرار وإشارات قد نغير بها شيئاً مما نعرفه أو مما نقنع به عن هذه الحقبة من الزمان.
📚 🏆 عرض أشهر كتب لـ إسرائيل ولفنسون:
تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام (دكتوراه) PDF
قراءة و تحميل كتاب تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام (دكتوراه) PDF مجانا
مناقشات واقتراحات حول صفحة إسرائيل ولفنسون: