❞ كتاب النظرية النقدية للمجتمع ❝  ⏤ حسام الدين فياض

❞ كتاب النظرية النقدية للمجتمع ❝ ⏤ حسام الدين فياض

تعد النظرية النقدية من أهم النظريات التي انتعشت في فترة (مابعد الحداثة) في ألمانيا، وإن كانت هذه النظرية قد تبلورت في فترة مبكرة، في ثلاثينيات القرن العشرين بمدرسة فرانكفورت، وتجسدت في عدة ميادين ومجالات معرفية، كالفلسفة، وعلم الاجتماع، والسياسة، والفن، والنقد الأدبي. بيد أن هذه المدرسة قد أخذت طابعا فكريا مغايرا منذ السبعينيات من القرن العشرين، وانضم إليها مثقفون آخرون أغنوها نظريا وتطبيقيا. ومن ثم، فقد تحولت النظرية عند مارتن جاي (M.Jay)"من (نادي ماركس) قبل هجرتها من فرانكفورت، إلى (نادي ماكس) بعد عودتها، وحيث هناك في المهجر، فقد الحرف(R) الذي تبدأ به كلمة الثورة (Revolution)"[1]. ويعني هذا انتقال مدرسة فرانكفورت من أفكار ثورية ماركسية إلى أفكار متطورة في عهد ماكس هوركايمر، حيث تم التركيز على الفلسفة بدل التركيز على التاريخ والاقتصاد كما كان في السابق. وبالتالي، فقد استهدفت النظرية النقدية تقويض الثقافة البورجوازية الرأسمالية الاستهلاكية. وعليه، فهدف النظرية النقدية هي تغيير المجتمع على جميع المستويات والأصعدة، وتحقيق التحرر البشري، والمؤالفة بين النظرية والممارسة، والجمع بين المعرفة والغاية، والتوفيق بين العقل النظري والعقل العملي، والمزاوجة بين الحقيقة والقيمة. علاوة على ذلك، فقد كانت النظرية النقدية بمثابة تجديد نقدي للنظريات الماركسية والراديكالية.

هذا، ويمكن التمييز بين فترتين في النظرية النقدية أو مدرسة فرانكفورت: فترة الريادة من الثلاثينيات إلى أواخر الستينيات، وهي فترة هوركايمر، وماركوز، وأدورنو، وفروم...، وفترة التجديد من بداية السبعينيات إلى سنوات الثمانين من القرن الماضي، وهي فترة يورجين هابرماس، وألفرد شميدت، وكلاوس أوفي، وألبرخت فيلمر... وقد احتفظت النظرية النقدية الجديدة لــ(مابعد الحداثة) باهتمامها الخاص بفلسفة العلوم الاجتماعية ونقد الإيدولوجيا .



1- مفهوم النظرية النقدية:

يقصد بالنظرية النقدية تلك النظرية التي كان ينطلق منها رواد مدرسة فرانكفورت في انتقادهم للواقعية الساذجة المباشرة، فالنظرية النقدية تهتم بنقد النظام الهيجلي، ونقد الاقتصاد السياسي، والنقد الجدلي. وتهدف هذه النظرية إلى إقامة نظرية اجتماعية متعددة المصادر والمنطلقات، كالاستعانة بالماركسية، والتحليل النفسي، والاعتماد على البحوث التجريبية. وبتعبير آخر، فالنظرية النقدية هي تجاوز للنظرية الكانطية، والمثالية الهيجيلية، والجدلية الماركسية. وبالتالي، فهي نقض للواقع، ونقد للمجتمع بطريقة سلبية إيجابية. ومن ثم، فليس نقد متناقضات المجتمع فعلا سلبيا، بل هو فعل إيجابي في منظور مدرسة فرانكفورت. ويرتبط مفهوم(النظرية النقدية) بعنوان كتاب هوركايمر(النظرية التقليدية والنظرية النقدية) (1937م)، وقد جمع فيه صاحبه مجمل التصورات التي عرف بها أصحاب مدرسة فرانكفورت، سواء النظرية منها أوالتطبيقية، كما ضمنه مجمل المقترحات التي كانوا يؤمنون بها لإنقاذ الواقع وتصحيحه . ومن ثم، فالنظرية النقدية هي تجاوز للنظريات الوضعية التي كانت ترفض التأملية الانعكاسية منهجا في التعامل مع الموضوع المرصود . ومن جهة أخرى، فقد استهدفت النظرية النقدية تنوير الإنسان الملتزم تنويرا ذهنيا وفكريا، وتغييره تغييرا إيجابيا، بعد أن حررته من ضغوطه الذاتية،عن طريق نقد المجتمع بتعريته إيديولوجيا[2].

وعليه، فالنظرية النقدية عند هوركايمر هي" ما تعبر عنه الاتجاهات الوضعية في نظريتها للنشاط البشري على أنه شيء أو موضوع خارجي داخل إطار من الحتمية الميكانيكية، على حين ترفض النظرية النقدية النظر إلى الوقائع الاجتماعية على أنها أشياء، ومن ثم ترفض طابع الحياد الذي تتسم به الوضعية، وتحاول في المقابل أن تطرح فكرا لايفصل بين النظرية والممارسة.

وقد فهم هوركايمر، ومعه فلاسفة فرانكفورت، الماركسية على أنها العلم النقدي للمجتمع. وبالتالي، فمهمة الفلسفة هي متابعة العملية النقدية، والتحري عن أشكال الاغتراب الجديدة. وقد أخذت مساهمته الخاصة شكل تحليل نقدي للعقل. فلئن يكن العقل قد صاغ في الماضي، مثل: العدالة، والحرية، والديمقراطية، فإن هذه المثل حل بها الفساد في ظل هيمنة البورجوازية التي أدت إلى تحلل حقيقي للعقل. ومن هنا، بدت الحاجة إلى نظرية نقدية جدلية تستطيع أن تتعقل اغتراب العقل بالذات."[3]

ونفهم من هذا أن النظرية النقدية ظهرت رد فعل على المثالية الألمانية، وكذلك رد فعل على الوضعية التجريبية التي كانت تدرس الظواهر الاجتماعية دراسة علمية موضوعية، من خلال ربط المسببات بالأسباب، في إطار تصور آلي ميكانيكي. ومن هنا، فالنظرية النقدية هي قراءة نقدية للعقل الجدلي ليس بالطريقة الكانطية، بل في ضوء رؤية ماركسية واقعية جدلية. وبالتالي، تعمل النظرية النقدية على نقد الواقع الاجتماعي، وتقويض تصوراته الإيديولوجية الليبرالية، والبحث عن تجليات الاغتراب الذاتي والمكاني، سواء في النصوص والخطابات أو في واقع الممارسة. وتهدف النظرية النقدية - حسب هوركايمر- إلى تحقيق مهام ثلاث:" أولها، الكشف في كل نظرية عن المصلحة الاجتماعية التي ولدتها وحددتها، وهنا يتوجه هوركايمر، كما فعل ماركس، إلى تحقيق الانفصال عن المثالية الألمانية، ومناقشتها في ضوء المصالح الاجتماعية التي أنتجتها.والمهمة الثانية للنظرية النقدية عنده، هي أن تظل هذه النظرية على وعي بكونها لاتمثل مذهبا خارج التطور الاجتماعي التاريخي. فهي لاتطرح نفسها باعتبارها مبدأ إطلاقيا، أو أنها تعكس أي مبدإ إطلاقي خارج صيرورة الواقع. والمقياس الوحيد الذي تلتزم به هو كونها تعكس مصلحة الأغلبية الاجتماعية في تنظيم علاقات الإنتاج بما يحقق تطابق العقل مع الواقع، وتطابق مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة. أما المهمة الثالثة، فهي التصدي لمختلف الأشكال اللامعقولة التي حاولت المصالح الطبقية السائدة أن تلبسها للعقل، و تؤسس اليقين بها على اعتبار أنها هي التي تجسد العقل. في حين، إن هذه الأشكال من العقلانية المزيفة ليست سوى أدوات لاستخدام العقل في تدعيم النظم الاجتماعية القائمة، وهو ما دعاه هوركايمر بالعقل الأداتي."[4]

وعليه، فالنظرية النقدية هي التي تحقق المصلحة الاجتماعية، وتراعي التطور الاجتماعي التاريخي في إطار المادية التاريخية، وهذا يقرب النظرية النقدية من المادية الثقافية، كما تهدف هذه النظرية إلى خدمة مصالح الأغلبية، والتصدي للأشكال الشكلية والتيارات اللامعقولة التي تخدم الأنظمة الحاكمة.

وعلاوة على ذلك، فالنظرية النقدية هي قراءة ماركسية لواقع المجتمعي. وفي هذا الصدد، يقول توم بوتمور(T.Bottomore) في كتابه (مدرسة فرانكفورت):"تؤكد النظرية النقدية على انتسابها إلى الماركسية، دون أن تضيع الاختلاف مع قراءاتها الكلاسكية، وبخاصة تلك التفسيرات والأطروحات التي قدمها رواد ومنظرو الأممية الثانية والثالثة، وعلى رفضها الاختيار بين التماثل المتناقض مع الفلسفة والعلم، بادعاء أن ماقدمته هو شكل جديد للموضوعية الاجتماعية التاريخية، وهو ما جعلها في تعارض مع الميتافيزيقا والوضعية."[5]

وتأسيسا على ماسبق، فالنظرية النقدية نظرية تتجاوز الوضعية، وترفض منطلقات المثالية الألمانية، ومن ثم، فهي نظرية اجتماعية ماركسية، تولي أهمية كبيرة للذات في تفاعلها مع الموضوع، كما ترتكز على المادية التاريخية، وتعتني بالقيم والأخلاق، وتؤمن بتفاعل الذات مع المجتمع على أن الذوات البشرية مستقلة وغير خاضعة لحتميات أوجبريات موضوعية. ويعني هذا أن الإنسان له دور كبير في صنع التاريخ، وتغيير مجتمعه. ومن ثم، فالنظرية النقدية في الحقيقة هي رؤية نقدية إزاء المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي، في قمة تطبيقاته العملية واليومية.



2- سيـــاق النظرية النقدية

من المعلوم أن النظرية النقدية، في مجال علم الاجتماع، قد ارتبطت بمعهد البحوث الاجتماعية أو بمدرسة فرانكفورت الألمانية التي يمثلها كل من: تيودور أدورنو (Theodor.Adorno)، وماكس هوركايمر(M.Horkheimer)، وهربرت ماركوز(H.Marcuse)، ويورغن هابرماس (J.Habermas)، ووالتر بنيامين(W.Benjamin)، وفردريك لوبوك (F.Pollock)، وإيريك فروم (E.Fromm)، ولوفينتال(L.Lowenthal)، ووألفريد شميت (Alfred shmidt)، وكلاوس أوفي (C.Offe)، وأولبرخت فيلمر(A.Wellmer)، وفرانز نيومان (F.Neuwmann)... وقد ظهرت هذه المدرسة في ألمانيا، في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين،وقد انتقل المعهد إلى نيويورك إبان المرحلة النازية، ثم استقر بفرانكفورت مرة أخرى في عام 1950م. وقد تأثر تحليل مفكري هذه المدرسة ونقدهم للثقافة الحديثة والمجتمع بما تعرضوا له من مضايقات وتعسفات وضغوطات في عهد الفاشية.

هذا، وقد جاءت النظرية النقدية رد فعل على الوضعية (Positivism) التي كانت تعنى مع أوجست كونت بدراسة الظواهر الاجتماعية دراسة علمية موضوعية تجريبية، باستخدام الملاحظة والتكرار والتجربة، وربط الأسباب بمسبباتها، بغية فهم الظواهر العلمية فهما علميا دقيقا. وكانت الوضعية تهتم أيضا بوصف الظواهر دون تفسيرها، لأن التفسير يرتبط في منظور الوضعية بالـتأملات الفلسفية والميتافيزيقية. كما استبعدت الوضعية البعد الإنساني والتأملي والأخلاقي في عملية البحث. وقد وجهت مدرسة فرانكفورت إلى هذه النظرية الوضعية انتقادات قاسية. وفي هذا الصدد، يقول توم بوتومور في كتابه( مدرسة فرانكفورت):"اتخذ أصحاب مدرسة فرانكفورت موقفا مناهضا لها، فانتقدها أدورنو لعجزها عن اكتشاف المصلحة الذاتية التي قد تسهم في تحقيق تقدم موضوعي، بسبب القصور الكامن في أسسها المنهجية، وفشلها في إقامة صلة قوية بين المعرفة من ناحية، والعمليات الاجتماعية الحقيقية من ناحية أخرى.لذلك، انتقدها هابرماس بسبب طبيعتها المحافظة، وقصورها عن فهم العلاقة الخاصة بعلم الاجتماع والتاريخ، انطلاقا من أن علم الاجتماع الوضعي لايأخذ في اعتباره دور التحولات التاريخية في تشكيل المجتمعات.

وبشكل عام، هاجم مفكرو مدرسة فرانكفورت سعي الوضعية إلى تحقيق المعرفة العلمية، وتكميم الحقائق، بما يؤدي إلى ضياع المعنى الجوهري للظواهر الاجتماعية. وأنه ارتباطا بذلك، فقد أدى تمثل الوضعية لنموذج العلم الطبيعي في علم الاجتماع إلى فصل المعرفة عن بعدها الأخلاقي، وهو ما يعني استبعاد الموقف الأخلاقي للباحث، عن طريق الادعاء بأن علم الاجتماع هو علم متحرر من القيمة، وهو ما يعني أيضا أن هذا العلم يمكن أن يكون أداتيا بالنسبة للقوى الاجتماعية المتسلطة، أو هو وسيلة للتحكم والهيمنة كما حدث في الرأسمالية المتقدمة."[6]

ويدل هذا على أن الوضعية العلمية تستبعد الذات، والتاريخ، والأخلاق، والمصلحة الاجتماعية، وأنها في خدمة الليبرالية المستغلة. علاوة على ذلك، أنها تعتبر البشر كائنات مقيدة بحتميات علمية جبرية. وبالتالي، فالإنسان ليس له أي دور في التغيير أو صنع التاريخ،" يرى مفكرو فرانكفورت أن التراث الوضعي يميل للنظر إلى البشر باعتبارهم كائنات لاقوة لها في مواجهة المجتمع، وهو ما يتضح لدى دوركايم الذي يؤكد أن الفرد يجد نفسه في مواجهة المجتمع كقوة أسمى منه عليه أن ينحني أمامها، أو مايؤكد عليه ماكس فيبر حين يرى أن الفرد في المجتمعات البيروقراطية، رأسمالية أم اشتراكية، ليس إلا ترسا في آلة كبيرة.

وفي مواجهة ذلك، ترى النظرية النقدية أن ذلك ناتج عن العمق الداخلي للإنسان، ومن ثم، تؤكد هذه النظرية على العلاقة الجدلية بين الفرد والمجتمع، كذوات مستقلة غير خاضعة، تعكس جوانب الحقيقة الكلية."[7]

هذا، وقد جاءت النظرية النقدية رد فعل على النظريات النقدية للعقل المثالي كما عند كانط وهيجل، بالاعتماد على القراءة الماركسية الجدلية، والاستعانة بالمادية التاريخية. كما وقفت إزاء النظريات البورجوازية التي مارست صنوفا من السلطة الفكرية، ورفضت الفصل بين النظرية والممارسة، بعد أن كانت النظرية في المثالية الألمانية هي المفضلة. وباختصار، فإن النظرية النقدية قد انتقدت النزعة العلمية المغالية، وانتقدت أيضا العقلانية العلمية التقنية، باعتبارها شكلا من أشكال الهيمنة التي ميزت الرأسمالية الأكثر تطورا، أو بشكل أوسع انتقدت تلك المجتمعات الصناعية المتقدمة في القرن العشرين. وجاءت أيضا لنقد الإيديولوجيات السائدة، ونقد الفاشية المستبدة، ونقد النزعة المعادية للسامية إبان وصول النازية إلى الحكم.



3- رواد النظرية النقدية:

بادىء ذي بدء، لم يتفق رواد مدرسة فرانكفورت على تصور مذهبي ونظري واحد، فهم مختلفون في كثير من الآراء والتصورات، لكنهم يتفقون في بعض النقاط المشتركة، بل يمكن التمييز بين النظرية النقدية الكلاسيكية والنظرية النقدية الجديدة. ومن ثم، يعد ماكس هوركايمر من المؤسسين الحقيقيين لمدرسة فرانكفورت، وقد كان مديرا لها منذ 1931م، وقد اهتم في بداية المعهد بدراسة الفلسفة الاجتماعية، ونقد المذهب الوضعي والمثالية الألمانية والوضعية المنطقية، وهاجم الميتافيزيقا الغربية على غرار جاك ديريدا ومارتن هايدجر. وقد عاب هوركامير على الوضعية ميلها الكبير إلى العلمية والموضوعية والتجريبية، وتشييء الإنسان، وفصل الحقيقة عن القيم كفصلها المعرفة عن المصالح البشرية.

وهكذا، يقدم هوركايمر، مقابل الوضعية، وعلى النقيض منها"نظرية جدلية تظهر فيها الحقائق الفردية بذاتها في ترابط لا لبس فيه دائما، وتسعى لأن تعكس الواقع في كليته. فضلا عن ذلك، فإن الفكر الجدلي، يوحد المكونات التجريبية في تركيبات من الخبرة... المهمة للمصالح التاريخية التي يرتبط بها الفكر الجدلي... فعندما يعي فرد فعال من ذوي الحس السليم الوضع الكريه للعالم، فإن الرغبة في تغييره تصبح هي المبدأ المرشد الذي ينظم به الحقائق المعطاة، ويشكل منها نظرية ... وبقدر ما يعتمد التفكير الصائب على إرادة قويمة، بقدر ما تعتمد الإرادة القويمة على التفكير الصلب."[8]

ويتابع ماكس هوركايمر التعريف بنظريات مدرسة فرانكفورت وتوجهاتها في مقال قيم تحت عنوان( النظرية التقليدية والنظرية النقدية)(1937م)، يوضح فيه أسس المدرسة ومرتكزاتها النظرية والتطبيقية. وقد سعى هوركايمر جادا إلى تسليح الطبقة العاملة (البروليتاريا) بفكر نقدي تغييري، ووعي طبقي تنويري. وقد اهتم هوركايمر بالمجال الثقافي، واهتم كذلك بالفرد كمركز للفكر والعمل، متأثرا في ذلك بالفلسفة الوجودية السارترية وفلسفة ماكس فيبر، واعتنى بشكل من الأشكال بعلم نفس الفرد والتحليل السيكولوجي. وقد انتهى هوركايمر، في نهاية حياته، عن أن يكون منظرا نقديا، فتحول إلى راهب ديني وصوفي، حينما جعل كانط وهيجل فوق ماركس.

أما الثوري النقدي هربرت ماركوز، فقد كتب مجموعة من المقالات في الثلاثينيات من القرن الماضي، خاصة كتابه( العقل والثورة) (1941م)، داعيا إلى نظرية اجتماعية جدلية مناقضة للعلم الاجتماعي الوضعي، كما عند أوجست كونت، وشتال، وفون شتاين خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي؛ لأنها كانت تماثل بين دراسة المجتمع ودراسة الطبيعة. وما يلاحظ على ماركوز أنه بنى نظريته الجدلية على أفكار هيجل، وحول فكر ماركس إلى هيجيلية راديكالية، فحصر اهتمامه في نقد أصول الفلسفة الوضعية والعلم الاجتماعي.

وقد عرف ماركوز بعدائه الشديد للهيمنة التقنية، وكان يعتبر العقل المنغلق سببا في استلاب الإنسان وتحويله إلى آلة انتاجية ليس إلا. ومن ثم، فقد بلور ماركوز فلسفة تشاؤمية بسبب اغتراب الإنسان في المجتمع الصناعي الحديث الذي تغلب عليه التقنية، ويضيع فيه الإنسان باعتباره ذاتا وكينونة ووجودا، وهي النزعة التشاؤمية نفسها الموجودة عند ماكس فيبر، و يرجع هذا التشاؤم إلى شعور فئة معينة من المجتمع.أي: الشريحة العليا المثقفة من الطبقة الوسطى، أوالصفوة المثقفة بالإحباط وخيبة الأمل.

وقد برهن ماركوز، في كتابه (إنسان البعد الواحد)، على اختفاء الدور التاريخي الفعال للطبقة البورجوازية والطبقة البروليتارية على حد سواء، و هناك قوة واحدة مخفية متحكمة في مسار هاتين الطبقتين معا هي العقلانية العلمية التقنية. وليست هناك طبقة معارضة، فقد تم استيعاب الطبقة العاملة واسترضاؤها من خلال تحفيزات مادية استهلاكية، وترشيد عملية الإنتاج ذاتها. وقد أثارت أفكار ماركوز"استجابة سريعة لدى حركة الطلبة الأمريكية في أواخر الستينيات بمعارضتها للنظام، ولدى حركات طلابية أخرى في دول أوروبية شتى إلى حدما. لكن الحركات الاجتماعية في ذلك الوقت كانت جميعها واقعة تحت تأثير تحليلات متنوعة عن البنية الطبقية المتغيرة، وعن مغزى التقنوقراطية والبيروقراطية، التي قدم علماء الاجتماع إسهامات ملحوظة بصددها."[9]

وتتركز أفكار هربرت ماركوز - سياسيا- حول ثلاث قضايا شائكة: دور الطلاب في العالم الرأسمالي، والحركة الطلابية في فرنسا عام1968م، ودور الطبقة العاملة الحديثة في الغرب.

هذا، وقد آمن ماركوز بقوى ثورية جديدة ستظهر في المستقبل داخل المجتمع الحديث، وسيتحقق التحرر الاجتماعي عن طريق الإشباع الجنسي، كما يبين ذلك في كتابه (الحب والحضارة). وقد برهن فيه سيكولوجيا" بأن تجاوز الندرة المادية في المجتمعات الصناعية المتقدمة، سيخلق الشروط المناسبة لإحراز البشر هدفهم في السعادة من خلال التحرر الجنسي، وتفوق مبدأ المتعة، الذي تصوره كأساس للانعتاق الشامل المؤثر في كافة العلاقات الاجتماعية."[10]

ويعد تيودور أدورنو من أهم رواد النظرية النقدية، ومن المؤسسين الفعليين لمدرسة فرانكفورت، وقد انصب اهتمامه على مجال الثقافة، وبخاصة الموسيقا، والتحليل النفسي، ونظرية علم الجمال، متأثرا في ذلك بوالتر بنيامين، ولم يعرف بالنظرية الجدلية، بقدر ماعرف بالجدل السلبي في نقده للنظريات الفلسفية والنظريات الاجتماعية، كأنه يعيدنا بهذه الأفكار السلبية إلى مذاهب الشك والنسبية. وإذا كان هوركايمر وماركوز لهما صياغة اجتماعية إيجابية على أساس التصور الهيغلي للعقل، فإن آراء أدورنو كانت بعيدة عن الماركسية، على الرغم من كونه يدعي أن فلسفته مادية جدلية. وقد انتقد أدورنو مرات عديدة أفكار ماركس، وخاصة علم التاريخ والمادية التاريخية، ولم يهتم بتحليل ماركس الاقتصادي، وعلاقته بنظريته عن الطبقات، بل أخذ من جورج لوكاش المستوى السلبي من النقد الإيديولوجي في نقد الوعي الطبقي البورجوازي. وقد ساهم في بلورة النقد الثقافي، كما يبدو ذلك واضحا في بحثه الذي كتبه مع هوركايمر بعنوان( جدل التنوير) (1944م)، حيث انتقد فيه العقل العلمي الوضعي الذي يقدم حقائق زائفة عن الوضع البشري، وانتقد العلم والتقنية، وكان يرى أنهما السبب في استلاب الإنسان واستغلاله، وأنهما وهم إيديولوجي زائف ليس إلا. كما انتقد الثقافة الجماهيرية الساذجة التي تساعد على انتشار الإيدولوجيا الواهمة.

ومن جهة أخرى، رفض أدورنو نظرية لوكاش الواقعية التي تقوم على الانعكاس المباشر، حيث يتحول الأدب أو الفن، في منظوره، إلى مرآة تعكس بطريقة مباشرة مايقع في الواقع محاكاة وتمثلا ونقلا وتصورا. وقد اهتم أدورنو بالجمال اهتماما لافتا للانتباه، ويعد أدورنو كذلك من رواد نظرية الجمالية الجديدة، حيث ألف كتابا تحت عنوان (نظرية الجمال)، حيث يعطي مفهوما جديدا للفن والجمال مخالفا للتصور الماركسي الذي يرى الجمال تمثلا للعالم وانعكاسا له، بينما يرى أدورنو الجمال أو الفن وسيلة هروب غامضة. و" هكذا، يرفض أدورنو نظرة لوكاش إلى الواقعية، مؤكدا أن الأدب لايتصل اتصالا مباشرا بالواقع على نحو مايفعل العقل، فتباعد الفن عن الواقع هو الذي يكسبه قوته ودلالته الخاصة. ويتوقف أدورنو عند الطرائق التي يستخدم بها المسرحي صمويل بيكيت الشكل، والموسيقار شوبنبرج الثورة اللانغمية، ليصور خواء الثقافة الحديثة."[11]

ويعني هذا أن شعرية الأدب لاتكمن في مفهوم المحاكاة، بل في الانزياح والابتعاد عن مفهوم الانعكاس المباشر. كما يتخذ الفن - عند أدورنو- موقفا نقديا وسلبيا من العالم. وفي هذا السياق، يقول دافيد كارتر (David karter):" انتقد أدورنو نظرية لوكاش القائلة: إن للفن علاقة مباشرة مع الواقع. وبالنسبة لأدورنو، إن الفن، بما في ذلك الأدب، معزول عن الواقع، وهذا هو مصدر قوته تماما. إن أشكال الفن الشعبي تؤكد فقط، على مطابقة قواعد المجتمع، وتخضع لتلك القواعد أيضا، ولكن الفن الحقيقي يتخذ موقفا نقديا، في منأى عن العالم الذي أنشأه : " الفن هو المعرفة السلبية للعالم الفعلي". ورأى أدورنو الاغتراب واضحا في كتابات بروست وبيكيت على أنها تثبت هذه المعرفة السلبية للعالم الحديث."[12]

ومن هنا، فالنظرية النقدية - حسب أدورنو - هي نقد للواقعية الماركسية الانعكاسية الساذجة التي تعقد الصلة المباشرة بين الأدب والمجتمع، في جل تناقضاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية.

وفي الأخير،" لم ير أدورنو إمكانية لتحرير الفرد من التسلط والهيمنة، لا في ظهور جماعات معارضة جديدة، ولا في التحرر الجنسي، وإنما ارتأى هذه الإمكانية بالأحرى في عمل الفنان الأصيل الذي يواجه الواقع المعطى بالتلميح إلى مايمكن أن يكون. وعلى هذا، فإن الفن الأصيل يمتلك قوة غلابة، لدرجة يضعه أدورنو في مواجهة العلم الذي يعكس الواقع الموجود فحسب، فيما يمثل الفن الأصيل شكلا أعلى من أشكال المعرفة، وسعيا متجها إلى المستقبل وراء الحق."[13]

أما والتر بنيامين (1892-1940م)، فيعد أيضا من رواد مدرسة فرانكفورت، وقد تأثر بكتابات كارل ماركس وأفكار جورج لوكاش الواقعية، وتكمن أهميته في كونه قدم أفضل الصيغ في الفكر النقدي للأدب، وقد ساهمت نظريته بشكل من الأشكال في ظهور البنيوية التكوينية عند لوسيان كولدمان. وقد اهتم بالفن كأدورنو اهتماما لافتا للانتباه،حيث درس الأدب في ضوء مفاهيم ماركسية، حيث اعتبر الفن والإبداع الأدبي إنتاجا والمؤلف منتجا، كما يتضح ذلك جليا في كتابه( المؤلف منتج) (1934م). وقد طالب بنيامين أن يكون الإنتاج ثوريا، وعاملا فعالا في خلق علاقات اجتماعية جديدة بينه وبين المتلقي. ويعني هذا أنه يدعو إلى الفن الثوري الذي يغير المجتمع شكلا ومضمونا، وينوره بشكل إيجابي عبر تمرير رسائل ثورية . ومن هنا، يعتمد الفن عند والتر بنيامين " على تقنيات معينة من الإنتاج، شأنه في ذلك شأن غيره من أشكال الإنتاج.أي: يعتمد على أنماط معينة في الرسم والنشر والعرض المسرحي...إلخ.هذه الأنماط جزء من القوى الإنتاجية للفن، وجانب من مرحلة من مراحل تطور الإنتاج الفني، تتضمن جماعا من العلاقات الاجتماعية بين الفنان المنتج والمتلقي المستهلك."[14]

ومن جهة أخرى، يرى بنيامين أن الاستنساخ الصناعي قد قضى على الفن الراقي والسامي، وحوله إلى كليشيهات لاحياة فيها ولاروح. وهكذا، يقول بنيامين في مقاله( العمل الفني في عصر الاستنساخ الصناعي) (1933م):" إن الأعمال التراثية في الفن كانت تحيط بها هالة من التفرد والتميز والتباعد والديمومة. ولكن الاستنساخ الآلي للرسم، مثلا، قضى على هذا التفرد، وأحل محل اللوحة الفريدة نسخا شعبية، فحطم بذلك من هالة الفن المتوحد المغترب، وأتاح للمشاهد أن يرى اللوحة حيث يشاء، وحين يشاء. وإذا كان البورتريه يحافظ على تباعده عن الموضوع، فإن آلة التصوير تنفذ إلى الموضوع، وتقارب بينه وبين المشاهد إنسانيا ومكانيا إلى أبعد حد، فتقضي على أي سحر غامض ينطوي عليه الموضوع. يضاف إلى ذلك أن الفيلم في آلة التصوير يجعل الناس جميعا خبراء، ماظلوا قادرين على التقاط الصور الفوتوغرافية؛ فتتهدم الشعيرة التقليدية لما سمي بالفن الراقي."[15]

هذا، وقد كرس إريك فروم كتاباته لإنشاء علاقة بين التحليل النفسي والماركسية" عن طريق توسيع تفسيرات سيغموند فرويد فيما يتعلق بالفرد، لتشمل الموقع الطبقي للأسرة والوضع التاريخي للطبقات الاجتماعية. وتابع فروم في أعماله اللاحقة هذا الهدف الرامي إلى إقامة علم نفس اجتماعي ماركسي، يمكن أن تندمج فيه نظرية فرويدية معدلة، وبخاصة في نموذجه عن" الشخصية الاجتماعية"، التي صاغها في ملحق كتابه( الخوف من الحرية). ومع ذلك، توقف فروم في ذلك الوقت عن إقامة أية علاقات مع المعهد. فقد كان تفسيره السوسيولوجي الجديد، والذي يعد أكثر تجريبية وأكثر ماركسية للتحليل النفسي، موضع نقد كل من أدورنو وماركوز بعد فترة وجيزة."[16]

أما يورجين هابرماس مجدد مدرسة فرانكفورت، فيمثل النظرية النقدية في مرحلة مابعد الحداثة، وهو من أبرز المعبرين عن الاتجاه العقلاني، إذ نقد الطابع التقني والوضعي القمعي للعقل في الممارسات الرأسمالية والاشتراكية، ويعد أيضا عند توم بوتومور المفكر الأكبر لما بعد مدرسة فرانكفورت أو النظرية النقدية الجديدة. و"على الرغم من قربه من الماركسية، فإنه يختلف مع ماركس في أمر أساسي: فهو يرى أن ماركس قد أخطأ في إعطائه للإنتاج المادي المركز الأول في تعريفه للإنسان في رؤيته التاريخية، باعتباره تطورا للأشكال والأنماط الاجتماعية .

ولهذا، يرى هابرماس أن التفاعل الاجتماعي هو أيضا بعد أساسي من أبعاد الممارسة الإنسانية، وليس الإنتاج وحده، وهو ما يوضح فلسفته التي تقوم على مفهوم الاتصال أو التواصل، وعلى أسبقية اللغة، وأولويتها على العمل.

والعقل الاتصالي عند هابرماس، هو فاعلية تتجاوز العقل المتمركز حول الذات، والعقل الشمولي المنغلق الذي يدعي أنه يتضمن كل شيء، والعقل الأداتي الوضعي الذي يفتت الواقع ويجزئه، ويحول كل شيء إلى موضوع جزئي حتى العقل نفسه." [17]

وقد وجه هابرماس انتقادات صارمة للماركسية، فأعاد بناءها على أسس جديدة، وتسمى هذه المرحلة من مراحل مدرسة فرانكفورت بمرحلة مابعد الماركسية. وقد بدأ مقالاته التي كتبها في الستينيات بتقويم الوضعية العلمية والمنطقية على غرار أسلافه من مفكري معهد فرانكفورت. وقد ميز بين ثلاثة أنواع من المعرفة انطلاقا من منظور المصلحة التي تحققها للجنس البشري في كتابه(المعرفة والمصالح البشرية) (1974م)، وقد حصرها في مصلحة تقنية، ومصلحة عملية، ومصلحة تحررية. وقد اعتبر هابرماس النموذج النفسي الفرويدي أداة صالحة للنظرية النقدية لتحقيق الثورة التحررية الإنسانية والمجتمعية. وقد أكد هابرماس أسبقية اللغة على العمل، وأكد أيضا ترابط اللغة والعمل الاجتماعي، حيث من الصعب فصل عنصر على آخر، وخالف بذلك رأي ماركس الذي كان يعتبر العمل هو الذي يخلق الإنسان . لكن هابرماس يرى أن اللغة بأنها هي التي تحقق الاستقلال الذاتي والمسؤولية. وبهذا، يكون هابرماس قد انتقل من نظرية المصالح المعرفية إلى نظرية اللغة والاتصال. ويلاحظ أن هناك ارتباطا في فكر هابرماس بين التحليل الفلسفي ونظرية المجتمع، وإن تغيرت طبيعة هذا الارتباط بالتدريج. ففي كتابه( المعرفة والمصلحة البشرية)، كان هناك تماثل بين الأنواع الثلاثة من المعرفة مع قسمات رئيسة للحياة الاجتماعية، وهي: العمل، والتفاعل، والتسلط. وانتقل في المرحلة الثانية إلى تقديم نظرية في الحق لاتضرب بجذورها في المجتمع، وإنما في اللغة بوصفها ميزة عامة للجنس البشري، وتستمر هذه الفكرة في أعمال هابرماس، وإن كان يشدد في الأخير على إعادة بناء النظرية في المجتمع. و" بالفعل، فإن هذا التطور يسجل ابتعادا أكثر عن نظرة مدرسة فرانكفورت في مرحلتها الأخيرة، وأصبح هذا التباعد أكثر صراحة بإعلان هابرماس أنه يتناول النظرية الاجتماعية بوصفه" منظرا ماركسيا مهتما بمواصلة التعاليم الماركسية في ظل ظروف تاريخية متغيرة على نحو كبير". وهكذا، قدم هابرماس عناصر النظرية الماركسية المعاد بناؤها في عملين مهمين خلال السبعينيات، دار أولهما حول مشكلات الشرعية في المجتمعات الرأسمالية إبان مراحل تطورها الأخيرة، والثاني حول المادية التاريخية."[18]

وبناء على ماسبق، فقد حدد هابرماس أربعة أنواع من الأزمات التي تعانيها المجتمعات الرأسمالية المعاصرة: الأزمة الاقتصادية، وأزمة العقلانية، وأزمة الشرعية، وأزمة الدافعية أو أزمة التحفيز.ومن ثم، فقد حاول أن يقدم تقويما للتحول الذاتي للرأسمالية المتطورة. ومن هنا، يقدم هابرماس قراءة تقويضية للمجتمع الرأسمالي، وقراءة تفكيكية للمجتمع البورجوازي المعاصر. و" في الظن أن المسألة الأكثر وضوحا، هي مدى ابتعاده عن أفكار مدرسة فرانكفورت الباكرة، حيث نجده قد سار، إلى حد ما، في عكس الاتجاه الذي بدأه أدورنو وهوركايمر، بإيلائه أهمية كبرى للنظرية الماركسية في المجتمع على نحو متميز، حين كرس مزيدا من الاهتمام لتحليل الهياكل الاقتصادية والسياسية، فيما نجد، على العكس، إشارات ضئيلة في أعماله لصناعة الثقافة.

وأكثر من هذا، فإنه لايطابق النظرية النقدية بالفكر الفلسفي في مواجهة العلم. فهو يقترح أن يوضع النقد بطريقة ما بين الفلسفة والعلم. وهذا المفهوم يتيح مجالا لعلم تجريبي عن المجتمع، على الرغم من أن ذلك لاينبغي أن يستنفذ إمكانية المعرفة الاجتماعية، ويجب إتمامه، أو وضعه، في إطار فلسفة تاريخ لها هدف سياسي.

وفي الوقت نفسه، توجد هناك أيضا استمراريات واضحة في النظرية النقدية من الثلاثينيات حتى الوقت الراهن.

وعلى الرغم من أن هابرماس لم ينسب إلى الفلسفة دورا بارزا للغاية، مثل ذلك الذي حازته في فكر أدورنو وهوركايمر، فإن واقع الحال بلا شك، وبخاصة في أعماله الباكرة، أنه كان لايزال مشغولا إلى حد بعيد بنقد الوضعية، وكان تأثيره ملحوظا بقوة كبيرة في المناظرات ما بعد النظرية حول الأسس الفلسفية للعلوم الاجتماعية."[19]

هذا، وقد مال هابرماس إلى البنيوية التكوينية باعتبارها بديلا لفلسفة التاريخ التي تبنتها مدرسة فرانفكورت إبان بدايتها، متأثرا في ذلك بجان بياجيه، ولوسيان كولدمان.وبعد ذلك، يشرع في التمييز بين الرأسمالية المنظمة والاشتراكية البيروقراطية بوصفهما الشكلين الرئيسين للترشيد العقلاني للمجتمعات الحديثة. ويبني هابرماس نظريته النقدية في علم الاجتماع على مرتكزين ضروريين هما: الفلسفة والعلم. بيد أن نظرية هابرماس غير تاريخية، ولاتعتني بالاقتصاد، كما هو حال النظرية الماركسية الأولى. و" نرى أن السمة الأكثر تميزا لنظرية ماركس، وإسهامها الأكثر أهمية في إقامة علم واقعي عن المجتمع، هي أنها لا تتعامل مع التفاعل الاجتماعي على وجه العموم، وإنما تتناول علاقة البشر بالطبيعة، والتفاعل فيما بين البشر في عملية الإنتاج، كاتجاهات سائدة ومولدة ومحددة لأشكال أخرى من التفاعل.

إن هذا هو المفهوم الذي منح الماركسية قوتها التفسيرية، والذي لايزال يمنحها هذه القوة حتى اليوم.لأنه مهما تكن الحاجة إلى إعادة بناء للنظرية الماركسية من أجل فهم المراحل المستجدة من تطور المجتمعات الحديثة بشكل ملائم، ولاسيما دورالدولة وطبيعة الصراعات الطبقية، فإنه لايزال ضروريا البدء من تحليل تنظيم الإنتاج وتسييره، سواء كان ذلك على شكل تسلط رأس المال المتركز في شركات وطنية أو متعددة الجنسية، أو تسلط الإدارة البيروقراطية للصناعة المؤممة."[20]

وعليه، فقد مر فكر هابرماس – حسب سامي خشبة- بمرحلتين رئيستين: مرحلة نقد العقل الوضعي الذي ساد الغرب مع نضج الرأسمالية، وتطور العلوم الإنسانية والتجريبية. والمرحلة الثانية التي انشغل فيها هابرماس ببناء نظرية اجتماعية قائمة على حركة تنويرية جديدة أو استئناف القديمة، وصياغة عقلانية تسترشد بالمنجزات العصرية لعلوم الطبيعة والعلوم الاجتماعية، وخاصة علم الاجتماع، وعلوم اللغة والاتصال، وعلم النفس التربوي التطوري.[21]

ويمكن أن نحدد بدورنا مراحل أخرى لفكر هابرماس، ففي المرحلة الأولى، انتقد الوضعية العلمية والمنطقية. وبعد ذلك، انتقل إلى الحداثة ليعتبرها دليلا على العقل التنويري مقابل النزعات اللاعقلانية التقويضية والتفكيكية، وقد ارتأى أن الحداثة نموذج للتحرر من كل أنواع السيطرة، حيث تتطابق النظرية والتطبيق، والمعرفة والمصلحة... و ركز أيضا على الاتصال بأنواعه باعتباره وسيلة لبناء المعرفة، وليس مجرد تبادلها، كما أشار إلى ذلك في كتابه (الاتصال ونشوء المجتمع)(1976). وقد أعاد للقيم والمعايير الاجتماعية أهميتها، وتبنى الكفاءة الأخلاقية كمضمون للاتصال الاجتماعي، وذلك في كتابه (نظرية الفعل الاتصالي)(1981م). لكن هابرماس ينتقد (مابعد الحداثة) التاريخية ابتداء من عام 1985م، حيث يرجع فشلها إلى اختلال التوازن بين القيمة المعنوية والقيمة المادية؛ مما حول عقلانية التنوير إلى حالة مرضية، وتلك هي الحال التي يصف بها تصور فرانسوا ليوتار وجان بودريار لما بعد الحداثة[22].



5- النظرية النقدية في الميزان:

من أهم إيجابيات النظرية النقدية أنها تنتقد التوجهات الرأسمالية بالتقويض والتشريح والتفكيك، وتنتقد النظريات العلمية والوضعية التي أهملت الإنسان والذات والمجتمع والمصلحة الاجتماعية والقيم الأخلاقية، واعتبرت الإنسان موضوعا مشيأ، تتحكم فيه الحتميات الجبرية، وأنه لاقوة له ولافاعلية في صنع التاريخ أو تغيير المجتمع. ومن ثم، فقد جاءت النظرية النقدية لتصحيح أوضاع المجتمع وتغييرها بتعرية المؤسسات الرأسمالية المهيمنة، وفضح أوهامها الإيديولوجية، وتطوير المفاهيم الماركسية في ثوب جديد، أو إعادة صياغتها مرة أخرى كما فعل هابرماس. وقد تحققت -فعلا- قطيعة إبستمولوجية بين النظرية النقدية القديمة والنظرية النقدية الجديدة.

ويمكن القول: لقد مرت مدرسة فرانكفورت بمجموعة من المراحل، فقد انشغلت في الثلاثينيات والأربعينيات بالاشتراكية الوطنية، ومعاداة السامية، واهتمت في الخمسينيات بصناعة الثقافة، واعتنت في الستينيات بالحركات الثورية التحررية، ولاسيما ثورة الطلبة والأقليات العرقية، لتهتم في سنوات السبعين وبعدها بنظرية المعرفة، وإعادة النظر في كثير من الآراء الماركسية، وبناء أسسها من جديد، وصياغة نظرية ماركسية جديدة، والاعتناء بالقضايا السياسية والمجتمعية في ضوء النظرية النقدية. وقد ارتبط علم الاجتماع بالماركسية، ووضعت النظرية النقدية إبستمولوجيا بين الفلسفة والعلم، وخاصة مع مفكر التجديد هابرماس.

أما عن أهم الانتقادات الموجهة إلى مفكري مدرسة فرانكفورت اختلاف آرائهم من شخص إلى آخر، واختلاف توجهات مدرسة فرانكفورت لـــ(مابعد الحداثة) عن مدرسة فرانكفورت في فترة الثلاثينيات من القرن العشرين. كما استبعدت المدرسة اهتمامها بالتاريخ والاقتصاد إلى حد كبير، وانحرفت انحرافا كبيرا عن مبادىء الماركسية الكلاسكية، كما يتضح ذلك جليا عند الجيل الثاني من مفكري معهد فرانكفورت. وقد همشت النظرية النقدية الجديدة مع هابرماس الطبقة العاملة باعتبارها طبقة ثورية سياسية فاعلة ومغيرة.لذا، وصفت مدرسة فرانكفورت بأنها" ماركسية بدون بروليتاريا"[23]. ومن هنا، " يبدو أن مفهوم مدرسة فرانكفورت عن تدهور، أو تلاشي الطبقة العاملة كقوة سياسية، قدم أساسا على فكرة طوباوية وخيالية عن الثورة التي هي بأية حال الطريقة الوحيدة، أو الأكثر ماركسية، لتصور عملية الثورة الاجتماعية. وربما يكون هذا المفهوم قائما أيضا على انعكاس الخبرة الاستثنائية الأمريكية، الناجمة عن غياب طبقة عاملة منظمة سياسيا في المجتمع الأمريكي، على فكرهم، ولاسيما في حالة ماركوز."[24]

وفي هذا النطاق، يقول توم بوتومور في كتابه( مدرسة فرانكفورت): " وقد أخفقت مدرسة فرانكفورت في الالتزام بالطريقة القاطعة التي اقترحها هوركايمر للنظرية النقدية، حين ذكر أنها لا تمتلك المفاهيم والأدوات التصورية القادرة على سد الفجوة بين الحاضر والمستقبل."[25]

وفي الأخير، يمكن القول بأن النظرية النقدية في عمومها قد ابتعدت في مراحلها الأخيرة عن الماركسية التي انطلقت منها في بداياتها، بل أعلنت هذه النظرية فشلها حينما اعتبر هابرماس بأن نظرية (مابعد الحداثة) حالة مرضية بسبب اختلال التوازن بين ماهو معنوي وماهو مادي.



الخاتمة:

وهكذا، نصل إلى أن النظرية النقدية هي قراءة ماركسية للمجتمع، ونقد للنظرية العلمية والوضعية التي أهملت الإنسان والذات والتاريخ والمجتمع والأخلاق. ومن ثم، تعمل النظرية النقدية على تنوير المرء الملتزم، وتنويره عقلانيا وذهنيا، وانتقاد الاغتراب في المجتمع الرأسمالي، وإدانة فكرة التشييء والاستلاب والقمع الآلي. ومن ثم، تستند النظرية النقدية، في قراءتها للأدب والفن والمجتمع، إلى مفاهيم النقد المراكسي الكلاسكي أو الماركسية المعدلة في نظرية هابرماس. ويمكن أن نحدد مجموعة من المراحل التي قطعتها النظرية النقدية الجديدة، فكان هناك في البداية اهتمام بنقد الوضعية العلمية ومعاداة الفكرة السامية. وبعد ذلك، انتقل الاهتمام إلى المجال الثقافي مع ماركوز، ليتم الإنصات إلى الحركات الثورية الطلابية والأقليات الممضطهدة، لتتخذ النظرية النقدية توجها جديا مع هابرماس، حيث بدأت النظرية النقدية الجديدة تقدم تصورات مختلفة حول المجتمع، متأرجحة في ذلك بين الفلسفة والعلم. كما أعيدت صياغة الماركسية من جديد على أسس علمية وسياسية واجتماعية مابعد حداثية، لتنتهي النظرية النقدية بالثورة على (مابعد الحداثة) نفسها، حينما وقع اختلال مجتمعي وحضاري بين القيم المادية والقيم المعنوية، فترتب على ذلك أن أصبحت (مابعد الحداثة) حالة مرضية مأساوية.


حسام الدين فياض -
د حسام الدين فياض
كاتب
الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة قسم علم الاجتاع - كلية
الآداب في جامعة ماردين - جامعة حلب سابقاً. ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ النظرية النقدية للمجتمع ❝ ❞ النظرية النقدية عند رايت ميلرز رؤية راديكالية ملتزمة ❝ الناشرين : ❞ نحو علم اجتماع تنويرى ❝ ❱
من أدبية متنوعة - مكتبة كتب الأدب.

نبذة عن الكتاب:
النظرية النقدية للمجتمع

2010م - 1445هـ
تعد النظرية النقدية من أهم النظريات التي انتعشت في فترة (مابعد الحداثة) في ألمانيا، وإن كانت هذه النظرية قد تبلورت في فترة مبكرة، في ثلاثينيات القرن العشرين بمدرسة فرانكفورت، وتجسدت في عدة ميادين ومجالات معرفية، كالفلسفة، وعلم الاجتماع، والسياسة، والفن، والنقد الأدبي. بيد أن هذه المدرسة قد أخذت طابعا فكريا مغايرا منذ السبعينيات من القرن العشرين، وانضم إليها مثقفون آخرون أغنوها نظريا وتطبيقيا. ومن ثم، فقد تحولت النظرية عند مارتن جاي (M.Jay)"من (نادي ماركس) قبل هجرتها من فرانكفورت، إلى (نادي ماكس) بعد عودتها، وحيث هناك في المهجر، فقد الحرف(R) الذي تبدأ به كلمة الثورة (Revolution)"[1]. ويعني هذا انتقال مدرسة فرانكفورت من أفكار ثورية ماركسية إلى أفكار متطورة في عهد ماكس هوركايمر، حيث تم التركيز على الفلسفة بدل التركيز على التاريخ والاقتصاد كما كان في السابق. وبالتالي، فقد استهدفت النظرية النقدية تقويض الثقافة البورجوازية الرأسمالية الاستهلاكية. وعليه، فهدف النظرية النقدية هي تغيير المجتمع على جميع المستويات والأصعدة، وتحقيق التحرر البشري، والمؤالفة بين النظرية والممارسة، والجمع بين المعرفة والغاية، والتوفيق بين العقل النظري والعقل العملي، والمزاوجة بين الحقيقة والقيمة. علاوة على ذلك، فقد كانت النظرية النقدية بمثابة تجديد نقدي للنظريات الماركسية والراديكالية.

هذا، ويمكن التمييز بين فترتين في النظرية النقدية أو مدرسة فرانكفورت: فترة الريادة من الثلاثينيات إلى أواخر الستينيات، وهي فترة هوركايمر، وماركوز، وأدورنو، وفروم...، وفترة التجديد من بداية السبعينيات إلى سنوات الثمانين من القرن الماضي، وهي فترة يورجين هابرماس، وألفرد شميدت، وكلاوس أوفي، وألبرخت فيلمر... وقد احتفظت النظرية النقدية الجديدة لــ(مابعد الحداثة) باهتمامها الخاص بفلسفة العلوم الاجتماعية ونقد الإيدولوجيا .



1- مفهوم النظرية النقدية:

يقصد بالنظرية النقدية تلك النظرية التي كان ينطلق منها رواد مدرسة فرانكفورت في انتقادهم للواقعية الساذجة المباشرة، فالنظرية النقدية تهتم بنقد النظام الهيجلي، ونقد الاقتصاد السياسي، والنقد الجدلي. وتهدف هذه النظرية إلى إقامة نظرية اجتماعية متعددة المصادر والمنطلقات، كالاستعانة بالماركسية، والتحليل النفسي، والاعتماد على البحوث التجريبية. وبتعبير آخر، فالنظرية النقدية هي تجاوز للنظرية الكانطية، والمثالية الهيجيلية، والجدلية الماركسية. وبالتالي، فهي نقض للواقع، ونقد للمجتمع بطريقة سلبية إيجابية. ومن ثم، فليس نقد متناقضات المجتمع فعلا سلبيا، بل هو فعل إيجابي في منظور مدرسة فرانكفورت. ويرتبط مفهوم(النظرية النقدية) بعنوان كتاب هوركايمر(النظرية التقليدية والنظرية النقدية) (1937م)، وقد جمع فيه صاحبه مجمل التصورات التي عرف بها أصحاب مدرسة فرانكفورت، سواء النظرية منها أوالتطبيقية، كما ضمنه مجمل المقترحات التي كانوا يؤمنون بها لإنقاذ الواقع وتصحيحه . ومن ثم، فالنظرية النقدية هي تجاوز للنظريات الوضعية التي كانت ترفض التأملية الانعكاسية منهجا في التعامل مع الموضوع المرصود . ومن جهة أخرى، فقد استهدفت النظرية النقدية تنوير الإنسان الملتزم تنويرا ذهنيا وفكريا، وتغييره تغييرا إيجابيا، بعد أن حررته من ضغوطه الذاتية،عن طريق نقد المجتمع بتعريته إيديولوجيا[2].

وعليه، فالنظرية النقدية عند هوركايمر هي" ما تعبر عنه الاتجاهات الوضعية في نظريتها للنشاط البشري على أنه شيء أو موضوع خارجي داخل إطار من الحتمية الميكانيكية، على حين ترفض النظرية النقدية النظر إلى الوقائع الاجتماعية على أنها أشياء، ومن ثم ترفض طابع الحياد الذي تتسم به الوضعية، وتحاول في المقابل أن تطرح فكرا لايفصل بين النظرية والممارسة.

وقد فهم هوركايمر، ومعه فلاسفة فرانكفورت، الماركسية على أنها العلم النقدي للمجتمع. وبالتالي، فمهمة الفلسفة هي متابعة العملية النقدية، والتحري عن أشكال الاغتراب الجديدة. وقد أخذت مساهمته الخاصة شكل تحليل نقدي للعقل. فلئن يكن العقل قد صاغ في الماضي، مثل: العدالة، والحرية، والديمقراطية، فإن هذه المثل حل بها الفساد في ظل هيمنة البورجوازية التي أدت إلى تحلل حقيقي للعقل. ومن هنا، بدت الحاجة إلى نظرية نقدية جدلية تستطيع أن تتعقل اغتراب العقل بالذات."[3]

ونفهم من هذا أن النظرية النقدية ظهرت رد فعل على المثالية الألمانية، وكذلك رد فعل على الوضعية التجريبية التي كانت تدرس الظواهر الاجتماعية دراسة علمية موضوعية، من خلال ربط المسببات بالأسباب، في إطار تصور آلي ميكانيكي. ومن هنا، فالنظرية النقدية هي قراءة نقدية للعقل الجدلي ليس بالطريقة الكانطية، بل في ضوء رؤية ماركسية واقعية جدلية. وبالتالي، تعمل النظرية النقدية على نقد الواقع الاجتماعي، وتقويض تصوراته الإيديولوجية الليبرالية، والبحث عن تجليات الاغتراب الذاتي والمكاني، سواء في النصوص والخطابات أو في واقع الممارسة. وتهدف النظرية النقدية - حسب هوركايمر- إلى تحقيق مهام ثلاث:" أولها، الكشف في كل نظرية عن المصلحة الاجتماعية التي ولدتها وحددتها، وهنا يتوجه هوركايمر، كما فعل ماركس، إلى تحقيق الانفصال عن المثالية الألمانية، ومناقشتها في ضوء المصالح الاجتماعية التي أنتجتها.والمهمة الثانية للنظرية النقدية عنده، هي أن تظل هذه النظرية على وعي بكونها لاتمثل مذهبا خارج التطور الاجتماعي التاريخي. فهي لاتطرح نفسها باعتبارها مبدأ إطلاقيا، أو أنها تعكس أي مبدإ إطلاقي خارج صيرورة الواقع. والمقياس الوحيد الذي تلتزم به هو كونها تعكس مصلحة الأغلبية الاجتماعية في تنظيم علاقات الإنتاج بما يحقق تطابق العقل مع الواقع، وتطابق مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة. أما المهمة الثالثة، فهي التصدي لمختلف الأشكال اللامعقولة التي حاولت المصالح الطبقية السائدة أن تلبسها للعقل، و تؤسس اليقين بها على اعتبار أنها هي التي تجسد العقل. في حين، إن هذه الأشكال من العقلانية المزيفة ليست سوى أدوات لاستخدام العقل في تدعيم النظم الاجتماعية القائمة، وهو ما دعاه هوركايمر بالعقل الأداتي."[4]

وعليه، فالنظرية النقدية هي التي تحقق المصلحة الاجتماعية، وتراعي التطور الاجتماعي التاريخي في إطار المادية التاريخية، وهذا يقرب النظرية النقدية من المادية الثقافية، كما تهدف هذه النظرية إلى خدمة مصالح الأغلبية، والتصدي للأشكال الشكلية والتيارات اللامعقولة التي تخدم الأنظمة الحاكمة.

وعلاوة على ذلك، فالنظرية النقدية هي قراءة ماركسية لواقع المجتمعي. وفي هذا الصدد، يقول توم بوتمور(T.Bottomore) في كتابه (مدرسة فرانكفورت):"تؤكد النظرية النقدية على انتسابها إلى الماركسية، دون أن تضيع الاختلاف مع قراءاتها الكلاسكية، وبخاصة تلك التفسيرات والأطروحات التي قدمها رواد ومنظرو الأممية الثانية والثالثة، وعلى رفضها الاختيار بين التماثل المتناقض مع الفلسفة والعلم، بادعاء أن ماقدمته هو شكل جديد للموضوعية الاجتماعية التاريخية، وهو ما جعلها في تعارض مع الميتافيزيقا والوضعية."[5]

وتأسيسا على ماسبق، فالنظرية النقدية نظرية تتجاوز الوضعية، وترفض منطلقات المثالية الألمانية، ومن ثم، فهي نظرية اجتماعية ماركسية، تولي أهمية كبيرة للذات في تفاعلها مع الموضوع، كما ترتكز على المادية التاريخية، وتعتني بالقيم والأخلاق، وتؤمن بتفاعل الذات مع المجتمع على أن الذوات البشرية مستقلة وغير خاضعة لحتميات أوجبريات موضوعية. ويعني هذا أن الإنسان له دور كبير في صنع التاريخ، وتغيير مجتمعه. ومن ثم، فالنظرية النقدية في الحقيقة هي رؤية نقدية إزاء المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي، في قمة تطبيقاته العملية واليومية.



2- سيـــاق النظرية النقدية

من المعلوم أن النظرية النقدية، في مجال علم الاجتماع، قد ارتبطت بمعهد البحوث الاجتماعية أو بمدرسة فرانكفورت الألمانية التي يمثلها كل من: تيودور أدورنو (Theodor.Adorno)، وماكس هوركايمر(M.Horkheimer)، وهربرت ماركوز(H.Marcuse)، ويورغن هابرماس (J.Habermas)، ووالتر بنيامين(W.Benjamin)، وفردريك لوبوك (F.Pollock)، وإيريك فروم (E.Fromm)، ولوفينتال(L.Lowenthal)، ووألفريد شميت (Alfred shmidt)، وكلاوس أوفي (C.Offe)، وأولبرخت فيلمر(A.Wellmer)، وفرانز نيومان (F.Neuwmann)... وقد ظهرت هذه المدرسة في ألمانيا، في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين،وقد انتقل المعهد إلى نيويورك إبان المرحلة النازية، ثم استقر بفرانكفورت مرة أخرى في عام 1950م. وقد تأثر تحليل مفكري هذه المدرسة ونقدهم للثقافة الحديثة والمجتمع بما تعرضوا له من مضايقات وتعسفات وضغوطات في عهد الفاشية.

هذا، وقد جاءت النظرية النقدية رد فعل على الوضعية (Positivism) التي كانت تعنى مع أوجست كونت بدراسة الظواهر الاجتماعية دراسة علمية موضوعية تجريبية، باستخدام الملاحظة والتكرار والتجربة، وربط الأسباب بمسبباتها، بغية فهم الظواهر العلمية فهما علميا دقيقا. وكانت الوضعية تهتم أيضا بوصف الظواهر دون تفسيرها، لأن التفسير يرتبط في منظور الوضعية بالـتأملات الفلسفية والميتافيزيقية. كما استبعدت الوضعية البعد الإنساني والتأملي والأخلاقي في عملية البحث. وقد وجهت مدرسة فرانكفورت إلى هذه النظرية الوضعية انتقادات قاسية. وفي هذا الصدد، يقول توم بوتومور في كتابه( مدرسة فرانكفورت):"اتخذ أصحاب مدرسة فرانكفورت موقفا مناهضا لها، فانتقدها أدورنو لعجزها عن اكتشاف المصلحة الذاتية التي قد تسهم في تحقيق تقدم موضوعي، بسبب القصور الكامن في أسسها المنهجية، وفشلها في إقامة صلة قوية بين المعرفة من ناحية، والعمليات الاجتماعية الحقيقية من ناحية أخرى.لذلك، انتقدها هابرماس بسبب طبيعتها المحافظة، وقصورها عن فهم العلاقة الخاصة بعلم الاجتماع والتاريخ، انطلاقا من أن علم الاجتماع الوضعي لايأخذ في اعتباره دور التحولات التاريخية في تشكيل المجتمعات.

وبشكل عام، هاجم مفكرو مدرسة فرانكفورت سعي الوضعية إلى تحقيق المعرفة العلمية، وتكميم الحقائق، بما يؤدي إلى ضياع المعنى الجوهري للظواهر الاجتماعية. وأنه ارتباطا بذلك، فقد أدى تمثل الوضعية لنموذج العلم الطبيعي في علم الاجتماع إلى فصل المعرفة عن بعدها الأخلاقي، وهو ما يعني استبعاد الموقف الأخلاقي للباحث، عن طريق الادعاء بأن علم الاجتماع هو علم متحرر من القيمة، وهو ما يعني أيضا أن هذا العلم يمكن أن يكون أداتيا بالنسبة للقوى الاجتماعية المتسلطة، أو هو وسيلة للتحكم والهيمنة كما حدث في الرأسمالية المتقدمة."[6]

ويدل هذا على أن الوضعية العلمية تستبعد الذات، والتاريخ، والأخلاق، والمصلحة الاجتماعية، وأنها في خدمة الليبرالية المستغلة. علاوة على ذلك، أنها تعتبر البشر كائنات مقيدة بحتميات علمية جبرية. وبالتالي، فالإنسان ليس له أي دور في التغيير أو صنع التاريخ،" يرى مفكرو فرانكفورت أن التراث الوضعي يميل للنظر إلى البشر باعتبارهم كائنات لاقوة لها في مواجهة المجتمع، وهو ما يتضح لدى دوركايم الذي يؤكد أن الفرد يجد نفسه في مواجهة المجتمع كقوة أسمى منه عليه أن ينحني أمامها، أو مايؤكد عليه ماكس فيبر حين يرى أن الفرد في المجتمعات البيروقراطية، رأسمالية أم اشتراكية، ليس إلا ترسا في آلة كبيرة.

وفي مواجهة ذلك، ترى النظرية النقدية أن ذلك ناتج عن العمق الداخلي للإنسان، ومن ثم، تؤكد هذه النظرية على العلاقة الجدلية بين الفرد والمجتمع، كذوات مستقلة غير خاضعة، تعكس جوانب الحقيقة الكلية."[7]

هذا، وقد جاءت النظرية النقدية رد فعل على النظريات النقدية للعقل المثالي كما عند كانط وهيجل، بالاعتماد على القراءة الماركسية الجدلية، والاستعانة بالمادية التاريخية. كما وقفت إزاء النظريات البورجوازية التي مارست صنوفا من السلطة الفكرية، ورفضت الفصل بين النظرية والممارسة، بعد أن كانت النظرية في المثالية الألمانية هي المفضلة. وباختصار، فإن النظرية النقدية قد انتقدت النزعة العلمية المغالية، وانتقدت أيضا العقلانية العلمية التقنية، باعتبارها شكلا من أشكال الهيمنة التي ميزت الرأسمالية الأكثر تطورا، أو بشكل أوسع انتقدت تلك المجتمعات الصناعية المتقدمة في القرن العشرين. وجاءت أيضا لنقد الإيديولوجيات السائدة، ونقد الفاشية المستبدة، ونقد النزعة المعادية للسامية إبان وصول النازية إلى الحكم.



3- رواد النظرية النقدية:

بادىء ذي بدء، لم يتفق رواد مدرسة فرانكفورت على تصور مذهبي ونظري واحد، فهم مختلفون في كثير من الآراء والتصورات، لكنهم يتفقون في بعض النقاط المشتركة، بل يمكن التمييز بين النظرية النقدية الكلاسيكية والنظرية النقدية الجديدة. ومن ثم، يعد ماكس هوركايمر من المؤسسين الحقيقيين لمدرسة فرانكفورت، وقد كان مديرا لها منذ 1931م، وقد اهتم في بداية المعهد بدراسة الفلسفة الاجتماعية، ونقد المذهب الوضعي والمثالية الألمانية والوضعية المنطقية، وهاجم الميتافيزيقا الغربية على غرار جاك ديريدا ومارتن هايدجر. وقد عاب هوركامير على الوضعية ميلها الكبير إلى العلمية والموضوعية والتجريبية، وتشييء الإنسان، وفصل الحقيقة عن القيم كفصلها المعرفة عن المصالح البشرية.

وهكذا، يقدم هوركايمر، مقابل الوضعية، وعلى النقيض منها"نظرية جدلية تظهر فيها الحقائق الفردية بذاتها في ترابط لا لبس فيه دائما، وتسعى لأن تعكس الواقع في كليته. فضلا عن ذلك، فإن الفكر الجدلي، يوحد المكونات التجريبية في تركيبات من الخبرة... المهمة للمصالح التاريخية التي يرتبط بها الفكر الجدلي... فعندما يعي فرد فعال من ذوي الحس السليم الوضع الكريه للعالم، فإن الرغبة في تغييره تصبح هي المبدأ المرشد الذي ينظم به الحقائق المعطاة، ويشكل منها نظرية ... وبقدر ما يعتمد التفكير الصائب على إرادة قويمة، بقدر ما تعتمد الإرادة القويمة على التفكير الصلب."[8]

ويتابع ماكس هوركايمر التعريف بنظريات مدرسة فرانكفورت وتوجهاتها في مقال قيم تحت عنوان( النظرية التقليدية والنظرية النقدية)(1937م)، يوضح فيه أسس المدرسة ومرتكزاتها النظرية والتطبيقية. وقد سعى هوركايمر جادا إلى تسليح الطبقة العاملة (البروليتاريا) بفكر نقدي تغييري، ووعي طبقي تنويري. وقد اهتم هوركايمر بالمجال الثقافي، واهتم كذلك بالفرد كمركز للفكر والعمل، متأثرا في ذلك بالفلسفة الوجودية السارترية وفلسفة ماكس فيبر، واعتنى بشكل من الأشكال بعلم نفس الفرد والتحليل السيكولوجي. وقد انتهى هوركايمر، في نهاية حياته، عن أن يكون منظرا نقديا، فتحول إلى راهب ديني وصوفي، حينما جعل كانط وهيجل فوق ماركس.

أما الثوري النقدي هربرت ماركوز، فقد كتب مجموعة من المقالات في الثلاثينيات من القرن الماضي، خاصة كتابه( العقل والثورة) (1941م)، داعيا إلى نظرية اجتماعية جدلية مناقضة للعلم الاجتماعي الوضعي، كما عند أوجست كونت، وشتال، وفون شتاين خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي؛ لأنها كانت تماثل بين دراسة المجتمع ودراسة الطبيعة. وما يلاحظ على ماركوز أنه بنى نظريته الجدلية على أفكار هيجل، وحول فكر ماركس إلى هيجيلية راديكالية، فحصر اهتمامه في نقد أصول الفلسفة الوضعية والعلم الاجتماعي.

وقد عرف ماركوز بعدائه الشديد للهيمنة التقنية، وكان يعتبر العقل المنغلق سببا في استلاب الإنسان وتحويله إلى آلة انتاجية ليس إلا. ومن ثم، فقد بلور ماركوز فلسفة تشاؤمية بسبب اغتراب الإنسان في المجتمع الصناعي الحديث الذي تغلب عليه التقنية، ويضيع فيه الإنسان باعتباره ذاتا وكينونة ووجودا، وهي النزعة التشاؤمية نفسها الموجودة عند ماكس فيبر، و يرجع هذا التشاؤم إلى شعور فئة معينة من المجتمع.أي: الشريحة العليا المثقفة من الطبقة الوسطى، أوالصفوة المثقفة بالإحباط وخيبة الأمل.

وقد برهن ماركوز، في كتابه (إنسان البعد الواحد)، على اختفاء الدور التاريخي الفعال للطبقة البورجوازية والطبقة البروليتارية على حد سواء، و هناك قوة واحدة مخفية متحكمة في مسار هاتين الطبقتين معا هي العقلانية العلمية التقنية. وليست هناك طبقة معارضة، فقد تم استيعاب الطبقة العاملة واسترضاؤها من خلال تحفيزات مادية استهلاكية، وترشيد عملية الإنتاج ذاتها. وقد أثارت أفكار ماركوز"استجابة سريعة لدى حركة الطلبة الأمريكية في أواخر الستينيات بمعارضتها للنظام، ولدى حركات طلابية أخرى في دول أوروبية شتى إلى حدما. لكن الحركات الاجتماعية في ذلك الوقت كانت جميعها واقعة تحت تأثير تحليلات متنوعة عن البنية الطبقية المتغيرة، وعن مغزى التقنوقراطية والبيروقراطية، التي قدم علماء الاجتماع إسهامات ملحوظة بصددها."[9]

وتتركز أفكار هربرت ماركوز - سياسيا- حول ثلاث قضايا شائكة: دور الطلاب في العالم الرأسمالي، والحركة الطلابية في فرنسا عام1968م، ودور الطبقة العاملة الحديثة في الغرب.

هذا، وقد آمن ماركوز بقوى ثورية جديدة ستظهر في المستقبل داخل المجتمع الحديث، وسيتحقق التحرر الاجتماعي عن طريق الإشباع الجنسي، كما يبين ذلك في كتابه (الحب والحضارة). وقد برهن فيه سيكولوجيا" بأن تجاوز الندرة المادية في المجتمعات الصناعية المتقدمة، سيخلق الشروط المناسبة لإحراز البشر هدفهم في السعادة من خلال التحرر الجنسي، وتفوق مبدأ المتعة، الذي تصوره كأساس للانعتاق الشامل المؤثر في كافة العلاقات الاجتماعية."[10]

ويعد تيودور أدورنو من أهم رواد النظرية النقدية، ومن المؤسسين الفعليين لمدرسة فرانكفورت، وقد انصب اهتمامه على مجال الثقافة، وبخاصة الموسيقا، والتحليل النفسي، ونظرية علم الجمال، متأثرا في ذلك بوالتر بنيامين، ولم يعرف بالنظرية الجدلية، بقدر ماعرف بالجدل السلبي في نقده للنظريات الفلسفية والنظريات الاجتماعية، كأنه يعيدنا بهذه الأفكار السلبية إلى مذاهب الشك والنسبية. وإذا كان هوركايمر وماركوز لهما صياغة اجتماعية إيجابية على أساس التصور الهيغلي للعقل، فإن آراء أدورنو كانت بعيدة عن الماركسية، على الرغم من كونه يدعي أن فلسفته مادية جدلية. وقد انتقد أدورنو مرات عديدة أفكار ماركس، وخاصة علم التاريخ والمادية التاريخية، ولم يهتم بتحليل ماركس الاقتصادي، وعلاقته بنظريته عن الطبقات، بل أخذ من جورج لوكاش المستوى السلبي من النقد الإيديولوجي في نقد الوعي الطبقي البورجوازي. وقد ساهم في بلورة النقد الثقافي، كما يبدو ذلك واضحا في بحثه الذي كتبه مع هوركايمر بعنوان( جدل التنوير) (1944م)، حيث انتقد فيه العقل العلمي الوضعي الذي يقدم حقائق زائفة عن الوضع البشري، وانتقد العلم والتقنية، وكان يرى أنهما السبب في استلاب الإنسان واستغلاله، وأنهما وهم إيديولوجي زائف ليس إلا. كما انتقد الثقافة الجماهيرية الساذجة التي تساعد على انتشار الإيدولوجيا الواهمة.

ومن جهة أخرى، رفض أدورنو نظرية لوكاش الواقعية التي تقوم على الانعكاس المباشر، حيث يتحول الأدب أو الفن، في منظوره، إلى مرآة تعكس بطريقة مباشرة مايقع في الواقع محاكاة وتمثلا ونقلا وتصورا. وقد اهتم أدورنو بالجمال اهتماما لافتا للانتباه، ويعد أدورنو كذلك من رواد نظرية الجمالية الجديدة، حيث ألف كتابا تحت عنوان (نظرية الجمال)، حيث يعطي مفهوما جديدا للفن والجمال مخالفا للتصور الماركسي الذي يرى الجمال تمثلا للعالم وانعكاسا له، بينما يرى أدورنو الجمال أو الفن وسيلة هروب غامضة. و" هكذا، يرفض أدورنو نظرة لوكاش إلى الواقعية، مؤكدا أن الأدب لايتصل اتصالا مباشرا بالواقع على نحو مايفعل العقل، فتباعد الفن عن الواقع هو الذي يكسبه قوته ودلالته الخاصة. ويتوقف أدورنو عند الطرائق التي يستخدم بها المسرحي صمويل بيكيت الشكل، والموسيقار شوبنبرج الثورة اللانغمية، ليصور خواء الثقافة الحديثة."[11]

ويعني هذا أن شعرية الأدب لاتكمن في مفهوم المحاكاة، بل في الانزياح والابتعاد عن مفهوم الانعكاس المباشر. كما يتخذ الفن - عند أدورنو- موقفا نقديا وسلبيا من العالم. وفي هذا السياق، يقول دافيد كارتر (David karter):" انتقد أدورنو نظرية لوكاش القائلة: إن للفن علاقة مباشرة مع الواقع. وبالنسبة لأدورنو، إن الفن، بما في ذلك الأدب، معزول عن الواقع، وهذا هو مصدر قوته تماما. إن أشكال الفن الشعبي تؤكد فقط، على مطابقة قواعد المجتمع، وتخضع لتلك القواعد أيضا، ولكن الفن الحقيقي يتخذ موقفا نقديا، في منأى عن العالم الذي أنشأه : " الفن هو المعرفة السلبية للعالم الفعلي". ورأى أدورنو الاغتراب واضحا في كتابات بروست وبيكيت على أنها تثبت هذه المعرفة السلبية للعالم الحديث."[12]

ومن هنا، فالنظرية النقدية - حسب أدورنو - هي نقد للواقعية الماركسية الانعكاسية الساذجة التي تعقد الصلة المباشرة بين الأدب والمجتمع، في جل تناقضاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية.

وفي الأخير،" لم ير أدورنو إمكانية لتحرير الفرد من التسلط والهيمنة، لا في ظهور جماعات معارضة جديدة، ولا في التحرر الجنسي، وإنما ارتأى هذه الإمكانية بالأحرى في عمل الفنان الأصيل الذي يواجه الواقع المعطى بالتلميح إلى مايمكن أن يكون. وعلى هذا، فإن الفن الأصيل يمتلك قوة غلابة، لدرجة يضعه أدورنو في مواجهة العلم الذي يعكس الواقع الموجود فحسب، فيما يمثل الفن الأصيل شكلا أعلى من أشكال المعرفة، وسعيا متجها إلى المستقبل وراء الحق."[13]

أما والتر بنيامين (1892-1940م)، فيعد أيضا من رواد مدرسة فرانكفورت، وقد تأثر بكتابات كارل ماركس وأفكار جورج لوكاش الواقعية، وتكمن أهميته في كونه قدم أفضل الصيغ في الفكر النقدي للأدب، وقد ساهمت نظريته بشكل من الأشكال في ظهور البنيوية التكوينية عند لوسيان كولدمان. وقد اهتم بالفن كأدورنو اهتماما لافتا للانتباه،حيث درس الأدب في ضوء مفاهيم ماركسية، حيث اعتبر الفن والإبداع الأدبي إنتاجا والمؤلف منتجا، كما يتضح ذلك جليا في كتابه( المؤلف منتج) (1934م). وقد طالب بنيامين أن يكون الإنتاج ثوريا، وعاملا فعالا في خلق علاقات اجتماعية جديدة بينه وبين المتلقي. ويعني هذا أنه يدعو إلى الفن الثوري الذي يغير المجتمع شكلا ومضمونا، وينوره بشكل إيجابي عبر تمرير رسائل ثورية . ومن هنا، يعتمد الفن عند والتر بنيامين " على تقنيات معينة من الإنتاج، شأنه في ذلك شأن غيره من أشكال الإنتاج.أي: يعتمد على أنماط معينة في الرسم والنشر والعرض المسرحي...إلخ.هذه الأنماط جزء من القوى الإنتاجية للفن، وجانب من مرحلة من مراحل تطور الإنتاج الفني، تتضمن جماعا من العلاقات الاجتماعية بين الفنان المنتج والمتلقي المستهلك."[14]

ومن جهة أخرى، يرى بنيامين أن الاستنساخ الصناعي قد قضى على الفن الراقي والسامي، وحوله إلى كليشيهات لاحياة فيها ولاروح. وهكذا، يقول بنيامين في مقاله( العمل الفني في عصر الاستنساخ الصناعي) (1933م):" إن الأعمال التراثية في الفن كانت تحيط بها هالة من التفرد والتميز والتباعد والديمومة. ولكن الاستنساخ الآلي للرسم، مثلا، قضى على هذا التفرد، وأحل محل اللوحة الفريدة نسخا شعبية، فحطم بذلك من هالة الفن المتوحد المغترب، وأتاح للمشاهد أن يرى اللوحة حيث يشاء، وحين يشاء. وإذا كان البورتريه يحافظ على تباعده عن الموضوع، فإن آلة التصوير تنفذ إلى الموضوع، وتقارب بينه وبين المشاهد إنسانيا ومكانيا إلى أبعد حد، فتقضي على أي سحر غامض ينطوي عليه الموضوع. يضاف إلى ذلك أن الفيلم في آلة التصوير يجعل الناس جميعا خبراء، ماظلوا قادرين على التقاط الصور الفوتوغرافية؛ فتتهدم الشعيرة التقليدية لما سمي بالفن الراقي."[15]

هذا، وقد كرس إريك فروم كتاباته لإنشاء علاقة بين التحليل النفسي والماركسية" عن طريق توسيع تفسيرات سيغموند فرويد فيما يتعلق بالفرد، لتشمل الموقع الطبقي للأسرة والوضع التاريخي للطبقات الاجتماعية. وتابع فروم في أعماله اللاحقة هذا الهدف الرامي إلى إقامة علم نفس اجتماعي ماركسي، يمكن أن تندمج فيه نظرية فرويدية معدلة، وبخاصة في نموذجه عن" الشخصية الاجتماعية"، التي صاغها في ملحق كتابه( الخوف من الحرية). ومع ذلك، توقف فروم في ذلك الوقت عن إقامة أية علاقات مع المعهد. فقد كان تفسيره السوسيولوجي الجديد، والذي يعد أكثر تجريبية وأكثر ماركسية للتحليل النفسي، موضع نقد كل من أدورنو وماركوز بعد فترة وجيزة."[16]

أما يورجين هابرماس مجدد مدرسة فرانكفورت، فيمثل النظرية النقدية في مرحلة مابعد الحداثة، وهو من أبرز المعبرين عن الاتجاه العقلاني، إذ نقد الطابع التقني والوضعي القمعي للعقل في الممارسات الرأسمالية والاشتراكية، ويعد أيضا عند توم بوتومور المفكر الأكبر لما بعد مدرسة فرانكفورت أو النظرية النقدية الجديدة. و"على الرغم من قربه من الماركسية، فإنه يختلف مع ماركس في أمر أساسي: فهو يرى أن ماركس قد أخطأ في إعطائه للإنتاج المادي المركز الأول في تعريفه للإنسان في رؤيته التاريخية، باعتباره تطورا للأشكال والأنماط الاجتماعية .

ولهذا، يرى هابرماس أن التفاعل الاجتماعي هو أيضا بعد أساسي من أبعاد الممارسة الإنسانية، وليس الإنتاج وحده، وهو ما يوضح فلسفته التي تقوم على مفهوم الاتصال أو التواصل، وعلى أسبقية اللغة، وأولويتها على العمل.

والعقل الاتصالي عند هابرماس، هو فاعلية تتجاوز العقل المتمركز حول الذات، والعقل الشمولي المنغلق الذي يدعي أنه يتضمن كل شيء، والعقل الأداتي الوضعي الذي يفتت الواقع ويجزئه، ويحول كل شيء إلى موضوع جزئي حتى العقل نفسه." [17]

وقد وجه هابرماس انتقادات صارمة للماركسية، فأعاد بناءها على أسس جديدة، وتسمى هذه المرحلة من مراحل مدرسة فرانكفورت بمرحلة مابعد الماركسية. وقد بدأ مقالاته التي كتبها في الستينيات بتقويم الوضعية العلمية والمنطقية على غرار أسلافه من مفكري معهد فرانكفورت. وقد ميز بين ثلاثة أنواع من المعرفة انطلاقا من منظور المصلحة التي تحققها للجنس البشري في كتابه(المعرفة والمصالح البشرية) (1974م)، وقد حصرها في مصلحة تقنية، ومصلحة عملية، ومصلحة تحررية. وقد اعتبر هابرماس النموذج النفسي الفرويدي أداة صالحة للنظرية النقدية لتحقيق الثورة التحررية الإنسانية والمجتمعية. وقد أكد هابرماس أسبقية اللغة على العمل، وأكد أيضا ترابط اللغة والعمل الاجتماعي، حيث من الصعب فصل عنصر على آخر، وخالف بذلك رأي ماركس الذي كان يعتبر العمل هو الذي يخلق الإنسان . لكن هابرماس يرى أن اللغة بأنها هي التي تحقق الاستقلال الذاتي والمسؤولية. وبهذا، يكون هابرماس قد انتقل من نظرية المصالح المعرفية إلى نظرية اللغة والاتصال. ويلاحظ أن هناك ارتباطا في فكر هابرماس بين التحليل الفلسفي ونظرية المجتمع، وإن تغيرت طبيعة هذا الارتباط بالتدريج. ففي كتابه( المعرفة والمصلحة البشرية)، كان هناك تماثل بين الأنواع الثلاثة من المعرفة مع قسمات رئيسة للحياة الاجتماعية، وهي: العمل، والتفاعل، والتسلط. وانتقل في المرحلة الثانية إلى تقديم نظرية في الحق لاتضرب بجذورها في المجتمع، وإنما في اللغة بوصفها ميزة عامة للجنس البشري، وتستمر هذه الفكرة في أعمال هابرماس، وإن كان يشدد في الأخير على إعادة بناء النظرية في المجتمع. و" بالفعل، فإن هذا التطور يسجل ابتعادا أكثر عن نظرة مدرسة فرانكفورت في مرحلتها الأخيرة، وأصبح هذا التباعد أكثر صراحة بإعلان هابرماس أنه يتناول النظرية الاجتماعية بوصفه" منظرا ماركسيا مهتما بمواصلة التعاليم الماركسية في ظل ظروف تاريخية متغيرة على نحو كبير". وهكذا، قدم هابرماس عناصر النظرية الماركسية المعاد بناؤها في عملين مهمين خلال السبعينيات، دار أولهما حول مشكلات الشرعية في المجتمعات الرأسمالية إبان مراحل تطورها الأخيرة، والثاني حول المادية التاريخية."[18]

وبناء على ماسبق، فقد حدد هابرماس أربعة أنواع من الأزمات التي تعانيها المجتمعات الرأسمالية المعاصرة: الأزمة الاقتصادية، وأزمة العقلانية، وأزمة الشرعية، وأزمة الدافعية أو أزمة التحفيز.ومن ثم، فقد حاول أن يقدم تقويما للتحول الذاتي للرأسمالية المتطورة. ومن هنا، يقدم هابرماس قراءة تقويضية للمجتمع الرأسمالي، وقراءة تفكيكية للمجتمع البورجوازي المعاصر. و" في الظن أن المسألة الأكثر وضوحا، هي مدى ابتعاده عن أفكار مدرسة فرانكفورت الباكرة، حيث نجده قد سار، إلى حد ما، في عكس الاتجاه الذي بدأه أدورنو وهوركايمر، بإيلائه أهمية كبرى للنظرية الماركسية في المجتمع على نحو متميز، حين كرس مزيدا من الاهتمام لتحليل الهياكل الاقتصادية والسياسية، فيما نجد، على العكس، إشارات ضئيلة في أعماله لصناعة الثقافة.

وأكثر من هذا، فإنه لايطابق النظرية النقدية بالفكر الفلسفي في مواجهة العلم. فهو يقترح أن يوضع النقد بطريقة ما بين الفلسفة والعلم. وهذا المفهوم يتيح مجالا لعلم تجريبي عن المجتمع، على الرغم من أن ذلك لاينبغي أن يستنفذ إمكانية المعرفة الاجتماعية، ويجب إتمامه، أو وضعه، في إطار فلسفة تاريخ لها هدف سياسي.

وفي الوقت نفسه، توجد هناك أيضا استمراريات واضحة في النظرية النقدية من الثلاثينيات حتى الوقت الراهن.

وعلى الرغم من أن هابرماس لم ينسب إلى الفلسفة دورا بارزا للغاية، مثل ذلك الذي حازته في فكر أدورنو وهوركايمر، فإن واقع الحال بلا شك، وبخاصة في أعماله الباكرة، أنه كان لايزال مشغولا إلى حد بعيد بنقد الوضعية، وكان تأثيره ملحوظا بقوة كبيرة في المناظرات ما بعد النظرية حول الأسس الفلسفية للعلوم الاجتماعية."[19]

هذا، وقد مال هابرماس إلى البنيوية التكوينية باعتبارها بديلا لفلسفة التاريخ التي تبنتها مدرسة فرانفكورت إبان بدايتها، متأثرا في ذلك بجان بياجيه، ولوسيان كولدمان.وبعد ذلك، يشرع في التمييز بين الرأسمالية المنظمة والاشتراكية البيروقراطية بوصفهما الشكلين الرئيسين للترشيد العقلاني للمجتمعات الحديثة. ويبني هابرماس نظريته النقدية في علم الاجتماع على مرتكزين ضروريين هما: الفلسفة والعلم. بيد أن نظرية هابرماس غير تاريخية، ولاتعتني بالاقتصاد، كما هو حال النظرية الماركسية الأولى. و" نرى أن السمة الأكثر تميزا لنظرية ماركس، وإسهامها الأكثر أهمية في إقامة علم واقعي عن المجتمع، هي أنها لا تتعامل مع التفاعل الاجتماعي على وجه العموم، وإنما تتناول علاقة البشر بالطبيعة، والتفاعل فيما بين البشر في عملية الإنتاج، كاتجاهات سائدة ومولدة ومحددة لأشكال أخرى من التفاعل.

إن هذا هو المفهوم الذي منح الماركسية قوتها التفسيرية، والذي لايزال يمنحها هذه القوة حتى اليوم.لأنه مهما تكن الحاجة إلى إعادة بناء للنظرية الماركسية من أجل فهم المراحل المستجدة من تطور المجتمعات الحديثة بشكل ملائم، ولاسيما دورالدولة وطبيعة الصراعات الطبقية، فإنه لايزال ضروريا البدء من تحليل تنظيم الإنتاج وتسييره، سواء كان ذلك على شكل تسلط رأس المال المتركز في شركات وطنية أو متعددة الجنسية، أو تسلط الإدارة البيروقراطية للصناعة المؤممة."[20]

وعليه، فقد مر فكر هابرماس – حسب سامي خشبة- بمرحلتين رئيستين: مرحلة نقد العقل الوضعي الذي ساد الغرب مع نضج الرأسمالية، وتطور العلوم الإنسانية والتجريبية. والمرحلة الثانية التي انشغل فيها هابرماس ببناء نظرية اجتماعية قائمة على حركة تنويرية جديدة أو استئناف القديمة، وصياغة عقلانية تسترشد بالمنجزات العصرية لعلوم الطبيعة والعلوم الاجتماعية، وخاصة علم الاجتماع، وعلوم اللغة والاتصال، وعلم النفس التربوي التطوري.[21]

ويمكن أن نحدد بدورنا مراحل أخرى لفكر هابرماس، ففي المرحلة الأولى، انتقد الوضعية العلمية والمنطقية. وبعد ذلك، انتقل إلى الحداثة ليعتبرها دليلا على العقل التنويري مقابل النزعات اللاعقلانية التقويضية والتفكيكية، وقد ارتأى أن الحداثة نموذج للتحرر من كل أنواع السيطرة، حيث تتطابق النظرية والتطبيق، والمعرفة والمصلحة... و ركز أيضا على الاتصال بأنواعه باعتباره وسيلة لبناء المعرفة، وليس مجرد تبادلها، كما أشار إلى ذلك في كتابه (الاتصال ونشوء المجتمع)(1976). وقد أعاد للقيم والمعايير الاجتماعية أهميتها، وتبنى الكفاءة الأخلاقية كمضمون للاتصال الاجتماعي، وذلك في كتابه (نظرية الفعل الاتصالي)(1981م). لكن هابرماس ينتقد (مابعد الحداثة) التاريخية ابتداء من عام 1985م، حيث يرجع فشلها إلى اختلال التوازن بين القيمة المعنوية والقيمة المادية؛ مما حول عقلانية التنوير إلى حالة مرضية، وتلك هي الحال التي يصف بها تصور فرانسوا ليوتار وجان بودريار لما بعد الحداثة[22].



5- النظرية النقدية في الميزان:

من أهم إيجابيات النظرية النقدية أنها تنتقد التوجهات الرأسمالية بالتقويض والتشريح والتفكيك، وتنتقد النظريات العلمية والوضعية التي أهملت الإنسان والذات والمجتمع والمصلحة الاجتماعية والقيم الأخلاقية، واعتبرت الإنسان موضوعا مشيأ، تتحكم فيه الحتميات الجبرية، وأنه لاقوة له ولافاعلية في صنع التاريخ أو تغيير المجتمع. ومن ثم، فقد جاءت النظرية النقدية لتصحيح أوضاع المجتمع وتغييرها بتعرية المؤسسات الرأسمالية المهيمنة، وفضح أوهامها الإيديولوجية، وتطوير المفاهيم الماركسية في ثوب جديد، أو إعادة صياغتها مرة أخرى كما فعل هابرماس. وقد تحققت -فعلا- قطيعة إبستمولوجية بين النظرية النقدية القديمة والنظرية النقدية الجديدة.

ويمكن القول: لقد مرت مدرسة فرانكفورت بمجموعة من المراحل، فقد انشغلت في الثلاثينيات والأربعينيات بالاشتراكية الوطنية، ومعاداة السامية، واهتمت في الخمسينيات بصناعة الثقافة، واعتنت في الستينيات بالحركات الثورية التحررية، ولاسيما ثورة الطلبة والأقليات العرقية، لتهتم في سنوات السبعين وبعدها بنظرية المعرفة، وإعادة النظر في كثير من الآراء الماركسية، وبناء أسسها من جديد، وصياغة نظرية ماركسية جديدة، والاعتناء بالقضايا السياسية والمجتمعية في ضوء النظرية النقدية. وقد ارتبط علم الاجتماع بالماركسية، ووضعت النظرية النقدية إبستمولوجيا بين الفلسفة والعلم، وخاصة مع مفكر التجديد هابرماس.

أما عن أهم الانتقادات الموجهة إلى مفكري مدرسة فرانكفورت اختلاف آرائهم من شخص إلى آخر، واختلاف توجهات مدرسة فرانكفورت لـــ(مابعد الحداثة) عن مدرسة فرانكفورت في فترة الثلاثينيات من القرن العشرين. كما استبعدت المدرسة اهتمامها بالتاريخ والاقتصاد إلى حد كبير، وانحرفت انحرافا كبيرا عن مبادىء الماركسية الكلاسكية، كما يتضح ذلك جليا عند الجيل الثاني من مفكري معهد فرانكفورت. وقد همشت النظرية النقدية الجديدة مع هابرماس الطبقة العاملة باعتبارها طبقة ثورية سياسية فاعلة ومغيرة.لذا، وصفت مدرسة فرانكفورت بأنها" ماركسية بدون بروليتاريا"[23]. ومن هنا، " يبدو أن مفهوم مدرسة فرانكفورت عن تدهور، أو تلاشي الطبقة العاملة كقوة سياسية، قدم أساسا على فكرة طوباوية وخيالية عن الثورة التي هي بأية حال الطريقة الوحيدة، أو الأكثر ماركسية، لتصور عملية الثورة الاجتماعية. وربما يكون هذا المفهوم قائما أيضا على انعكاس الخبرة الاستثنائية الأمريكية، الناجمة عن غياب طبقة عاملة منظمة سياسيا في المجتمع الأمريكي، على فكرهم، ولاسيما في حالة ماركوز."[24]

وفي هذا النطاق، يقول توم بوتومور في كتابه( مدرسة فرانكفورت): " وقد أخفقت مدرسة فرانكفورت في الالتزام بالطريقة القاطعة التي اقترحها هوركايمر للنظرية النقدية، حين ذكر أنها لا تمتلك المفاهيم والأدوات التصورية القادرة على سد الفجوة بين الحاضر والمستقبل."[25]

وفي الأخير، يمكن القول بأن النظرية النقدية في عمومها قد ابتعدت في مراحلها الأخيرة عن الماركسية التي انطلقت منها في بداياتها، بل أعلنت هذه النظرية فشلها حينما اعتبر هابرماس بأن نظرية (مابعد الحداثة) حالة مرضية بسبب اختلال التوازن بين ماهو معنوي وماهو مادي.



الخاتمة:

وهكذا، نصل إلى أن النظرية النقدية هي قراءة ماركسية للمجتمع، ونقد للنظرية العلمية والوضعية التي أهملت الإنسان والذات والتاريخ والمجتمع والأخلاق. ومن ثم، تعمل النظرية النقدية على تنوير المرء الملتزم، وتنويره عقلانيا وذهنيا، وانتقاد الاغتراب في المجتمع الرأسمالي، وإدانة فكرة التشييء والاستلاب والقمع الآلي. ومن ثم، تستند النظرية النقدية، في قراءتها للأدب والفن والمجتمع، إلى مفاهيم النقد المراكسي الكلاسكي أو الماركسية المعدلة في نظرية هابرماس. ويمكن أن نحدد مجموعة من المراحل التي قطعتها النظرية النقدية الجديدة، فكان هناك في البداية اهتمام بنقد الوضعية العلمية ومعاداة الفكرة السامية. وبعد ذلك، انتقل الاهتمام إلى المجال الثقافي مع ماركوز، ليتم الإنصات إلى الحركات الثورية الطلابية والأقليات الممضطهدة، لتتخذ النظرية النقدية توجها جديا مع هابرماس، حيث بدأت النظرية النقدية الجديدة تقدم تصورات مختلفة حول المجتمع، متأرجحة في ذلك بين الفلسفة والعلم. كما أعيدت صياغة الماركسية من جديد على أسس علمية وسياسية واجتماعية مابعد حداثية، لتنتهي النظرية النقدية بالثورة على (مابعد الحداثة) نفسها، حينما وقع اختلال مجتمعي وحضاري بين القيم المادية والقيم المعنوية، فترتب على ذلك أن أصبحت (مابعد الحداثة) حالة مرضية مأساوية.



.
المزيد..

تعليقات القرّاء:

آخرون أغنوها نظريا وتطبيقيا. ومن ثم، فقد تحولت النظرية عند مارتن جاي (M.Jay)"من (نادي ماركس) قبل هجرتها من فرانكفورت، إلى (نادي ماكس) بعد عودتها، وحيث هناك في المهجر، فقد الحرف(R) الذي تبدأ به كلمة الثورة (Revolution)"[1]. ويعني هذا انتقال مدرسة فرانكفورت من أفكار ثورية ماركسية إلى أفكار متطورة في عهد ماكس هوركايمر، حيث تم التركيز على الفلسفة بدل التركيز على التاريخ والاقتصاد كما كان في السابق. وبالتالي، فقد استهدفت النظرية النقدية تقويض الثقافة البورجوازية الرأسمالية الاستهلاكية. وعليه، فهدف النظرية النقدية هي تغيير المجتمع على جميع المستويات والأصعدة، وتحقيق التحرر البشري، والمؤالفة بين النظرية والممارسة، والجمع بين المعرفة والغاية، والتوفيق بين العقل النظري والعقل العملي، والمزاوجة بين الحقيقة والقيمة. علاوة على ذلك، فقد كانت النظرية النقدية بمثابة تجديد نقدي للنظريات الماركسية والراديكالية.

هذا، ويمكن التمييز بين فترتين في النظرية النقدية أو مدرسة فرانكفورت: فترة الريادة من الثلاثينيات إلى أواخر الستينيات، وهي فترة هوركايمر، وماركوز، وأدورنو، وفروم...، وفترة التجديد من بداية السبعينيات إلى سنوات الثمانين من القرن الماضي، وهي فترة يورجين هابرماس، وألفرد شميدت، وكلاوس أوفي، وألبرخت فيلمر... وقد احتفظت النظرية النقدية الجديدة لــ(مابعد الحداثة) باهتمامها الخاص بفلسفة العلوم الاجتماعية ونقد الإيدولوجيا .

 

1- مفهوم النظرية النقدية:

يقصد بالنظرية النقدية تلك النظرية التي كان ينطلق منها رواد مدرسة فرانكفورت في انتقادهم للواقعية الساذجة المباشرة، فالنظرية النقدية تهتم بنقد النظام الهيجلي، ونقد الاقتصاد السياسي، والنقد الجدلي. وتهدف هذه النظرية إلى إقامة نظرية اجتماعية متعددة المصادر والمنطلقات، كالاستعانة بالماركسية، والتحليل النفسي، والاعتماد على البحوث التجريبية. وبتعبير آخر، فالنظرية النقدية هي تجاوز للنظرية الكانطية، والمثالية الهيجيلية، والجدلية الماركسية. وبالتالي، فهي نقض للواقع، ونقد للمجتمع بطريقة سلبية إيجابية. ومن ثم، فليس نقد متناقضات المجتمع فعلا سلبيا، بل هو فعل إيجابي في منظور مدرسة فرانكفورت. ويرتبط مفهوم(النظرية النقدية) بعنوان كتاب هوركايمر(النظرية التقليدية والنظرية النقدية) (1937م)، وقد جمع فيه صاحبه مجمل التصورات التي عرف بها أصحاب مدرسة فرانكفورت، سواء النظرية منها أوالتطبيقية، كما ضمنه مجمل المقترحات التي كانوا يؤمنون بها لإنقاذ الواقع وتصحيحه . ومن ثم، فالنظرية النقدية هي تجاوز للنظريات الوضعية التي كانت ترفض التأملية الانعكاسية منهجا في التعامل مع الموضوع المرصود . ومن جهة أخرى، فقد استهدفت النظرية النقدية تنوير الإنسان الملتزم تنويرا ذهنيا وفكريا، وتغييره تغييرا إيجابيا، بعد أن حررته من ضغوطه الذاتية،عن طريق نقد المجتمع بتعريته إيديولوجيا[2].

وعليه، فالنظرية النقدية عند هوركايمر هي" ما تعبر عنه الاتجاهات الوضعية في نظريتها للنشاط البشري على أنه شيء أو موضوع خارجي داخل إطار من الحتمية الميكانيكية، على حين ترفض النظرية النقدية النظر إلى الوقائع الاجتماعية على أنها أشياء، ومن ثم ترفض طابع الحياد الذي تتسم به الوضعية، وتحاول في المقابل أن تطرح فكرا لايفصل بين النظرية والممارسة.

وقد فهم هوركايمر، ومعه فلاسفة فرانكفورت، الماركسية على أنها العلم النقدي للمجتمع. وبالتالي، فمهمة الفلسفة هي متابعة العملية النقدية، والتحري عن أشكال الاغتراب الجديدة. وقد أخذت مساهمته الخاصة شكل تحليل نقدي للعقل. فلئن يكن العقل قد صاغ في الماضي، مثل: العدالة، والحرية، والديمقراطية، فإن هذه المثل حل بها الفساد في ظل هيمنة البورجوازية التي أدت إلى تحلل حقيقي للعقل. ومن هنا، بدت الحاجة إلى نظرية نقدية جدلية تستطيع أن تتعقل اغتراب العقل بالذات."[3]

ونفهم من هذا أن النظرية النقدية ظهرت رد فعل على المثالية الألمانية، وكذلك رد فعل على الوضعية التجريبية التي كانت تدرس الظواهر الاجتماعية دراسة علمية موضوعية، من خلال ربط المسببات بالأسباب، في إطار تصور آلي ميكانيكي. ومن هنا، فالنظرية النقدية هي قراءة نقدية للعقل الجدلي ليس بالطريقة الكانطية، بل في ضوء رؤية ماركسية واقعية جدلية. وبالتالي، تعمل النظرية النقدية على نقد الواقع الاجتماعي، وتقويض تصوراته الإيديولوجية الليبرالية، والبحث عن تجليات الاغتراب الذاتي والمكاني، سواء في النصوص والخطابات أو في واقع الممارسة. وتهدف النظرية النقدية - حسب هوركايمر- إلى تحقيق مهام ثلاث:" أولها، الكشف في كل نظرية عن المصلحة الاجتماعية التي ولدتها وحددتها، وهنا يتوجه هوركايمر، كما فعل ماركس، إلى تحقيق الانفصال عن المثالية الألمانية، ومناقشتها في ضوء المصالح الاجتماعية التي أنتجتها.والمهمة الثانية للنظرية النقدية عنده، هي أن تظل هذه النظرية على وعي بكونها لاتمثل مذهبا خارج التطور الاجتماعي التاريخي. فهي لاتطرح نفسها باعتبارها مبدأ إطلاقيا، أو أنها تعكس أي مبدإ إطلاقي خارج صيرورة الواقع. والمقياس الوحيد الذي تلتزم به هو كونها تعكس مصلحة الأغلبية الاجتماعية في تنظيم علاقات الإنتاج بما يحقق تطابق العقل مع الواقع، وتطابق مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة. أما المهمة الثالثة، فهي التصدي لمختلف الأشكال اللامعقولة التي حاولت المصالح الطبقية السائدة أن تلبسها للعقل، و تؤسس اليقين بها على اعتبار أنها هي التي تجسد العقل. في حين، إن هذه الأشكال من العقلانية المزيفة ليست سوى أدوات لاستخدام العقل في تدعيم النظم الاجتماعية القائمة، وهو ما دعاه هوركايمر بالعقل الأداتي."[4]

وعليه، فالنظرية النقدية هي التي تحقق المصلحة الاجتماعية، وتراعي التطور الاجتماعي التاريخي في إطار المادية التاريخية، وهذا يقرب النظرية النقدية من المادية الثقافية، كما تهدف هذه النظرية إلى خدمة مصالح الأغلبية، والتصدي للأشكال الشكلية والتيارات اللامعقولة التي تخدم الأنظمة الحاكمة.

وعلاوة على ذلك، فالنظرية النقدية هي قراءة ماركسية لواقع المجتمعي. وفي هذا الصدد، يقول توم بوتمور(T.Bottomore) في كتابه (مدرسة فرانكفورت):"تؤكد النظرية النقدية على انتسابها إلى الماركسية، دون أن تضيع الاختلاف مع قراءاتها الكلاسكية، وبخاصة تلك التفسيرات والأطروحات التي قدمها رواد ومنظرو الأممية الثانية والثالثة، وعلى رفضها الاختيار بين التماثل المتناقض مع الفلسفة والعلم، بادعاء أن ماقدمته هو شكل جديد للموضوعية الاجتماعية التاريخية، وهو ما جعلها في تعارض مع الميتافيزيقا والوضعية."[5]

وتأسيسا على ماسبق، فالنظرية النقدية نظرية تتجاوز الوضعية، وترفض منطلقات المثالية الألمانية، ومن ثم، فهي نظرية اجتماعية ماركسية، تولي أهمية كبيرة للذات في تفاعلها مع الموضوع، كما ترتكز على المادية التاريخية، وتعتني بالقيم والأخلاق، وتؤمن بتفاعل الذات مع المجتمع على أن الذوات البشرية مستقلة وغير خاضعة لحتميات أوجبريات موضوعية. ويعني هذا أن الإنسان له دور كبير في صنع التاريخ، وتغيير مجتمعه. ومن ثم، فالنظرية النقدية في الحقيقة هي رؤية نقدية إزاء المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي، في قمة تطبيقاته العملية واليومية.

 

2- سيـــاق النظرية النقدية

من المعلوم أن النظرية النقدية، في مجال علم الاجتماع، قد ارتبطت بمعهد البحوث الاجتماعية أو بمدرسة فرانكفورت الألمانية التي يمثلها كل من: تيودور أدورنو (Theodor.Adorno)، وماكس هوركايمر(M.Horkheimer)، وهربرت ماركوز(H.Marcuse)، ويورغن هابرماس (J.Habermas)، ووالتر بنيامين(W.Benjamin)، وفردريك لوبوك (F.Pollock)، وإيريك فروم (E.Fromm)، ولوفينتال(L.Lowenthal)، ووألفريد شميت (Alfred shmidt)، وكلاوس أوفي (C.Offe)، وأولبرخت فيلمر(A.Wellmer)، وفرانز نيومان (F.Neuwmann)... وقد ظهرت هذه المدرسة في ألمانيا، في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين،وقد انتقل المعهد إلى نيويورك إبان المرحلة النازية، ثم استقر بفرانكفورت مرة أخرى في عام 1950م. وقد تأثر تحليل مفكري هذه المدرسة ونقدهم للثقافة الحديثة والمجتمع بما تعرضوا له من مضايقات وتعسفات وضغوطات في عهد الفاشية.

هذا، وقد جاءت النظرية النقدية رد فعل على الوضعية (Positivism) التي كانت تعنى مع أوجست كونت بدراسة الظواهر الاجتماعية دراسة علمية موضوعية تجريبية، باستخدام الملاحظة والتكرار والتجربة، وربط الأسباب بمسبباتها، بغية فهم الظواهر العلمية فهما علميا دقيقا. وكانت الوضعية تهتم أيضا بوصف الظواهر دون تفسيرها، لأن التفسير يرتبط في منظور الوضعية بالـتأملات الفلسفية والميتافيزيقية. كما استبعدت الوضعية البعد الإنساني والتأملي والأخلاقي في عملية البحث. وقد وجهت مدرسة فرانكفورت إلى هذه النظرية الوضعية انتقادات قاسية. وفي هذا الصدد، يقول توم بوتومور في كتابه( مدرسة فرانكفورت):"اتخذ أصحاب مدرسة فرانكفورت موقفا مناهضا لها، فانتقدها أدورنو لعجزها عن اكتشاف المصلحة الذاتية التي قد تسهم في تحقيق تقدم موضوعي، بسبب القصور الكامن في أسسها المنهجية، وفشلها في إقامة صلة قوية بين المعرفة من ناحية، والعمليات الاجتماعية الحقيقية من ناحية أخرى.لذلك، انتقدها هابرماس بسبب طبيعتها المحافظة، وقصورها عن فهم العلاقة الخاصة بعلم الاجتماع والتاريخ، انطلاقا من أن علم الاجتماع الوضعي لايأخذ في اعتباره دور التحولات التاريخية في تشكيل المجتمعات.

وبشكل عام، هاجم مفكرو مدرسة فرانكفورت سعي الوضعية إلى تحقيق المعرفة العلمية، وتكميم الحقائق، بما يؤدي إلى ضياع المعنى الجوهري للظواهر الاجتماعية. وأنه ارتباطا بذلك، فقد أدى تمثل الوضعية لنموذج العلم الطبيعي في علم الاجتماع إلى فصل المعرفة عن بعدها الأخلاقي، وهو ما يعني استبعاد الموقف الأخلاقي للباحث، عن طريق الادعاء بأن علم الاجتماع هو علم متحرر من القيمة، وهو ما يعني أيضا أن هذا العلم يمكن أن يكون أداتيا بالنسبة للقوى الاجتماعية المتسلطة، أو هو وسيلة للتحكم والهيمنة كما حدث في الرأسمالية المتقدمة."[6]

ويدل هذا على أن الوضعية العلمية تستبعد الذات، والتاريخ، والأخلاق، والمصلحة الاجتماعية، وأنها في خدمة الليبرالية المستغلة. علاوة على ذلك، أنها تعتبر البشر كائنات مقيدة بحتميات علمية جبرية. وبالتالي، فالإنسان ليس له أي دور في التغيير أو صنع التاريخ،" يرى مفكرو فرانكفورت أن التراث الوضعي يميل للنظر إلى البشر باعتبارهم كائنات لاقوة لها في مواجهة المجتمع، وهو ما يتضح لدى دوركايم الذي يؤكد أن الفرد يجد نفسه في مواجهة المجتمع كقوة أسمى منه عليه أن ينحني أمامها، أو مايؤكد عليه ماكس فيبر حين يرى أن الفرد في المجتمعات البيروقراطية، رأسمالية أم اشتراكية، ليس إلا ترسا في آلة كبيرة.

وفي مواجهة ذلك، ترى النظرية النقدية أن ذلك ناتج عن العمق الداخلي للإنسان، ومن ثم، تؤكد هذه النظرية على العلاقة الجدلية بين الفرد والمجتمع، كذوات مستقلة غير خاضعة، تعكس جوانب الحقيقة الكلية."[7]

هذا، وقد جاءت النظرية النقدية رد فعل على النظريات النقدية للعقل المثالي كما عند كانط وهيجل، بالاعتماد على القراءة الماركسية الجدلية، والاستعانة بالمادية التاريخية. كما وقفت إزاء النظريات البورجوازية التي مارست صنوفا من السلطة الفكرية، ورفضت الفصل بين النظرية والممارسة، بعد أن كانت النظرية في المثالية الألمانية هي المفضلة. وباختصار، فإن النظرية النقدية قد انتقدت النزعة العلمية المغالية، وانتقدت أيضا العقلانية العلمية التقنية، باعتبارها شكلا من أشكال الهيمنة التي ميزت الرأسمالية الأكثر تطورا، أو بشكل أوسع انتقدت تلك المجتمعات الصناعية المتقدمة في القرن العشرين. وجاءت أيضا لنقد الإيديولوجيات السائدة، ونقد الفاشية المستبدة، ونقد النزعة المعادية للسامية إبان وصول النازية إلى الحكم.

 

3- رواد النظرية النقدية:

بادىء ذي بدء، لم يتفق رواد مدرسة فرانكفورت على تصور مذهبي ونظري واحد، فهم مختلفون في كثير من الآراء والتصورات، لكنهم يتفقون في بعض النقاط المشتركة، بل يمكن التمييز بين النظرية النقدية الكلاسيكية والنظرية النقدية الجديدة. ومن ثم، يعد ماكس هوركايمر من المؤسسين الحقيقيين لمدرسة فرانكفورت، وقد كان مديرا لها منذ 1931م، وقد اهتم في بداية المعهد بدراسة الفلسفة الاجتماعية، ونقد المذهب الوضعي والمثالية الألمانية والوضعية المنطقية، وهاجم الميتافيزيقا الغربية على غرار جاك ديريدا ومارتن هايدجر. وقد عاب هوركامير على الوضعية ميلها الكبير إلى العلمية والموضوعية والتجريبية، وتشييء الإنسان، وفصل الحقيقة عن القيم كفصلها المعرفة عن المصالح البشرية.

وهكذا، يقدم هوركايمر، مقابل الوضعية، وعلى النقيض منها"نظرية جدلية تظهر فيها الحقائق الفردية بذاتها في ترابط لا لبس فيه دائما، وتسعى لأن تعكس الواقع في كليته. فضلا عن ذلك، فإن الفكر الجدلي، يوحد المكونات التجريبية في تركيبات من الخبرة... المهمة للمصالح التاريخية التي يرتبط بها الفكر الجدلي... فعندما يعي فرد فعال من ذوي الحس السليم الوضع الكريه للعالم، فإن الرغبة في تغييره تصبح هي المبدأ المرشد الذي ينظم به الحقائق المعطاة، ويشكل منها نظرية ... وبقدر ما يعتمد التفكير الصائب على إرادة قويمة، بقدر ما تعتمد الإرادة القويمة على التفكير الصلب."[8]

ويتابع ماكس هوركايمر التعريف بنظريات مدرسة فرانكفورت وتوجهاتها في مقال قيم تحت عنوان( النظرية التقليدية والنظرية النقدية)(1937م)، يوضح فيه أسس المدرسة ومرتكزاتها النظرية والتطبيقية. وقد سعى هوركايمر جادا إلى تسليح الطبقة العاملة (البروليتاريا) بفكر نقدي تغييري، ووعي طبقي تنويري. وقد اهتم هوركايمر بالمجال الثقافي، واهتم كذلك بالفرد كمركز للفكر والعمل، متأثرا في ذلك بالفلسفة الوجودية السارترية وفلسفة ماكس فيبر، واعتنى بشكل من الأشكال بعلم نفس الفرد والتحليل السيكولوجي. وقد انتهى هوركايمر، في نهاية حياته، عن أن يكون منظرا نقديا، فتحول إلى راهب ديني وصوفي، حينما جعل كانط وهيجل فوق ماركس.

أما الثوري النقدي هربرت ماركوز، فقد كتب مجموعة من المقالات في الثلاثينيات من القرن الماضي، خاصة كتابه( العقل والثورة) (1941م)، داعيا إلى نظرية اجتماعية جدلية مناقضة للعلم الاجتماعي الوضعي، كما عند أوجست كونت، وشتال، وفون شتاين خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي؛ لأنها كانت تماثل بين دراسة المجتمع ودراسة الطبيعة. وما يلاحظ على ماركوز أنه بنى نظريته الجدلية على أفكار هيجل، وحول فكر ماركس إلى هيجيلية راديكالية، فحصر اهتمامه في نقد أصول الفلسفة الوضعية والعلم الاجتماعي.

وقد عرف ماركوز بعدائه الشديد للهيمنة التقنية، وكان يعتبر العقل المنغلق سببا في استلاب الإنسان وتحويله إلى آلة انتاجية ليس إلا. ومن ثم، فقد بلور ماركوز فلسفة تشاؤمية بسبب اغتراب الإنسان في المجتمع الصناعي الحديث الذي تغلب عليه التقنية، ويضيع فيه الإنسان باعتباره ذاتا وكينونة ووجودا، وهي النزعة التشاؤمية نفسها الموجودة عند ماكس فيبر، و يرجع هذا التشاؤم إلى شعور فئة معينة من المجتمع.أي: الشريحة العليا المثقفة من الطبقة الوسطى، أوالصفوة المثقفة بالإحباط وخيبة الأمل.

وقد برهن ماركوز، في كتابه (إنسان البعد الواحد)، على اختفاء الدور التاريخي الفعال للطبقة البورجوازية والطبقة البروليتارية على حد سواء، و هناك قوة واحدة مخفية متحكمة في مسار هاتين الطبقتين معا هي العقلانية العلمية التقنية. وليست هناك طبقة معارضة، فقد تم استيعاب الطبقة العاملة واسترضاؤها من خلال تحفيزات مادية استهلاكية، وترشيد عملية الإنتاج ذاتها. وقد أثارت أفكار ماركوز"استجابة سريعة لدى حركة الطلبة الأمريكية في أواخر الستينيات بمعارضتها للنظام، ولدى حركات طلابية أخرى في دول أوروبية شتى إلى حدما. لكن الحركات الاجتماعية في ذلك الوقت كانت جميعها واقعة تحت تأثير تحليلات متنوعة عن البنية الطبقية المتغيرة، وعن مغزى التقنوقراطية والبيروقراطية، التي قدم علماء الاجتماع إسهامات ملحوظة بصددها."[9]

وتتركز أفكار هربرت ماركوز - سياسيا- حول ثلاث قضايا شائكة: دور الطلاب في العالم الرأسمالي، والحركة الطلابية في فرنسا عام1968م، ودور الطبقة العاملة الحديثة في الغرب.

هذا، وقد آمن ماركوز بقوى ثورية جديدة ستظهر في المستقبل داخل المجتمع الحديث، وسيتحقق التحرر الاجتماعي عن طريق الإشباع الجنسي، كما يبين ذلك في كتابه (الحب والحضارة). وقد برهن فيه سيكولوجيا" بأن تجاوز الندرة المادية في المجتمعات الصناعية المتقدمة، سيخلق الشروط المناسبة لإحراز البشر هدفهم في السعادة من خلال التحرر الجنسي، وتفوق مبدأ المتعة، الذي تصوره كأساس للانعتاق الشامل المؤثر في كافة العلاقات الاجتماعية."[10]

ويعد تيودور أدورنو من أهم رواد النظرية النقدية، ومن المؤسسين الفعليين لمدرسة فرانكفورت، وقد انصب اهتمامه على مجال الثقافة، وبخاصة الموسيقا، والتحليل النفسي، ونظرية علم الجمال، متأثرا في ذلك بوالتر بنيامين، ولم يعرف بالنظرية الجدلية، بقدر ماعرف بالجدل السلبي في نقده للنظريات الفلسفية والنظريات الاجتماعية، كأنه يعيدنا بهذه الأفكار السلبية إلى مذاهب الشك والنسبية. وإذا كان هوركايمر وماركوز لهما صياغة اجتماعية إيجابية على أساس التصور الهيغلي للعقل، فإن آراء أدورنو كانت بعيدة عن الماركسية، على الرغم من كونه يدعي أن فلسفته مادية جدلية. وقد انتقد أدورنو مرات عديدة أفكار ماركس، وخاصة علم التاريخ والمادية التاريخية، ولم يهتم بتحليل ماركس الاقتصادي، وعلاقته بنظريته عن الطبقات، بل أخذ من جورج لوكاش المستوى السلبي من النقد الإيديولوجي في نقد الوعي الطبقي البورجوازي. وقد ساهم في بلورة النقد الثقافي، كما يبدو ذلك واضحا في بحثه الذي كتبه مع هوركايمر بعنوان( جدل التنوير) (1944م)، حيث انتقد فيه العقل العلمي الوضعي الذي يقدم حقائق زائفة عن الوضع البشري، وانتقد العلم والتقنية، وكان يرى أنهما السبب في استلاب الإنسان واستغلاله، وأنهما وهم إيديولوجي زائف ليس إلا. كما انتقد الثقافة الجماهيرية الساذجة التي تساعد على انتشار الإيدولوجيا الواهمة.

ومن جهة أخرى، رفض أدورنو نظرية لوكاش الواقعية التي تقوم على الانعكاس المباشر، حيث يتحول الأدب أو الفن، في منظوره، إلى مرآة تعكس بطريقة مباشرة مايقع في الواقع محاكاة وتمثلا ونقلا وتصورا. وقد اهتم أدورنو بالجمال اهتماما لافتا للانتباه، ويعد أدورنو كذلك من رواد نظرية الجمالية الجديدة، حيث ألف كتابا تحت عنوان (نظرية الجمال)، حيث يعطي مفهوما جديدا للفن والجمال مخالفا للتصور الماركسي الذي يرى الجمال تمثلا للعالم وانعكاسا له، بينما يرى أدورنو الجمال أو الفن وسيلة هروب غامضة. و" هكذا، يرفض أدورنو نظرة لوكاش إلى الواقعية، مؤكدا أن الأدب لايتصل اتصالا مباشرا بالواقع على نحو مايفعل العقل، فتباعد الفن عن الواقع هو الذي يكسبه قوته ودلالته الخاصة. ويتوقف أدورنو عند الطرائق التي يستخدم بها المسرحي صمويل بيكيت الشكل، والموسيقار شوبنبرج الثورة اللانغمية، ليصور خواء الثقافة الحديثة."[11]

ويعني هذا أن شعرية الأدب لاتكمن في مفهوم المحاكاة، بل في الانزياح والابتعاد عن مفهوم الانعكاس المباشر. كما يتخذ الفن - عند أدورنو- موقفا نقديا وسلبيا من العالم. وفي هذا السياق، يقول دافيد كارتر (David karter):" انتقد أدورنو نظرية لوكاش القائلة: إن للفن علاقة مباشرة مع الواقع. وبالنسبة لأدورنو، إن الفن، بما في ذلك الأدب، معزول عن الواقع، وهذا هو مصدر قوته تماما. إن أشكال الفن الشعبي تؤكد فقط، على مطابقة قواعد المجتمع، وتخضع لتلك القواعد أيضا، ولكن الفن الحقيقي يتخذ موقفا نقديا، في منأى عن العالم الذي أنشأه : " الفن هو المعرفة السلبية للعالم الفعلي". ورأى أدورنو الاغتراب واضحا في كتابات بروست وبيكيت على أنها تثبت هذه المعرفة السلبية للعالم الحديث."[12]

ومن هنا، فالنظرية النقدية - حسب أدورنو - هي نقد للواقعية الماركسية الانعكاسية الساذجة التي تعقد الصلة المباشرة بين الأدب والمجتمع، في جل تناقضاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية.

وفي الأخير،" لم ير أدورنو إمكانية لتحرير الفرد من التسلط والهيمنة، لا في ظهور جماعات معارضة جديدة، ولا في التحرر الجنسي، وإنما ارتأى هذه الإمكانية بالأحرى في عمل الفنان الأصيل الذي يواجه الواقع المعطى بالتلميح إلى مايمكن أن يكون. وعلى هذا، فإن الفن الأصيل يمتلك قوة غلابة، لدرجة يضعه أدورنو في مواجهة العلم الذي يعكس الواقع الموجود فحسب، فيما يمثل الفن الأصيل شكلا أعلى من أشكال المعرفة، وسعيا متجها إلى المستقبل وراء الحق."[13]

أما والتر بنيامين (1892-1940م)، فيعد أيضا من رواد مدرسة فرانكفورت، وقد تأثر بكتابات كارل ماركس وأفكار جورج لوكاش الواقعية، وتكمن أهميته في كونه قدم أفضل الصيغ في الفكر النقدي للأدب، وقد ساهمت نظريته بشكل من الأشكال في ظهور البنيوية التكوينية عند لوسيان كولدمان. وقد اهتم بالفن كأدورنو اهتماما لافتا للانتباه،حيث درس الأدب في ضوء مفاهيم ماركسية، حيث اعتبر الفن والإبداع الأدبي إنتاجا والمؤلف منتجا، كما يتضح ذلك جليا في كتابه( المؤلف منتج) (1934م). وقد طالب بنيامين أن يكون الإنتاج ثوريا، وعاملا فعالا في خلق علاقات اجتماعية جديدة بينه وبين المتلقي. ويعني هذا أنه يدعو إلى الفن الثوري الذي يغير المجتمع شكلا ومضمونا، وينوره بشكل إيجابي عبر تمرير رسائل ثورية . ومن هنا، يعتمد الفن عند والتر بنيامين " على تقنيات معينة من الإنتاج، شأنه في ذلك شأن غيره من أشكال الإنتاج.أي: يعتمد على أنماط معينة في الرسم والنشر والعرض المسرحي...إلخ.هذه الأنماط جزء من القوى الإنتاجية للفن، وجانب من مرحلة من مراحل تطور الإنتاج الفني، تتضمن جماعا من العلاقات الاجتماعية بين الفنان المنتج والمتلقي المستهلك."[14]

ومن جهة أخرى، يرى بنيامين أن الاستنساخ الصناعي قد قضى على الفن الراقي والسامي، وحوله إلى كليشيهات لاحياة فيها ولاروح. وهكذا، يقول بنيامين في مقاله( العمل الفني في عصر الاستنساخ الصناعي) (1933م):" إن الأعمال التراثية في الفن كانت تحيط بها هالة من التفرد والتميز والتباعد والديمومة. ولكن الاستنساخ الآلي للرسم، مثلا، قضى على هذا التفرد، وأحل محل اللوحة الفريدة نسخا شعبية، فحطم بذلك من هالة الفن المتوحد المغترب، وأتاح للمشاهد أن يرى اللوحة حيث يشاء، وحين يشاء. وإذا كان البورتريه يحافظ على تباعده عن الموضوع، فإن آلة التصوير تنفذ إلى الموضوع، وتقارب بينه وبين المشاهد إنسانيا ومكانيا إلى أبعد حد، فتقضي على أي سحر غامض ينطوي عليه الموضوع. يضاف إلى ذلك أن الفيلم في آلة التصوير يجعل الناس جميعا خبراء، ماظلوا قادرين على التقاط الصور الفوتوغرافية؛ فتتهدم الشعيرة التقليدية لما سمي بالفن الراقي."[15]

هذا، وقد كرس إريك فروم كتاباته لإنشاء علاقة بين التحليل النفسي والماركسية" عن طريق توسيع تفسيرات سيغموند فرويد فيما يتعلق بالفرد، لتشمل الموقع الطبقي للأسرة والوضع التاريخي للطبقات الاجتماعية. وتابع فروم في أعماله اللاحقة هذا الهدف الرامي إلى إقامة علم نفس اجتماعي ماركسي، يمكن أن تندمج فيه نظرية فرويدية معدلة، وبخاصة في نموذجه عن" الشخصية الاجتماعية"، التي صاغها في ملحق كتابه( الخوف من الحرية). ومع ذلك، توقف فروم في ذلك الوقت عن إقامة أية علاقات مع المعهد. فقد كان تفسيره السوسيولوجي الجديد، والذي يعد أكثر تجريبية وأكثر ماركسية للتحليل النفسي، موضع نقد كل من أدورنو وماركوز بعد فترة وجيزة."[16]

أما يورجين هابرماس مجدد مدرسة فرانكفورت، فيمثل النظرية النقدية في مرحلة مابعد الحداثة، وهو من أبرز المعبرين عن الاتجاه العقلاني، إذ نقد الطابع التقني والوضعي القمعي للعقل في الممارسات الرأسمالية والاشتراكية، ويعد أيضا عند توم بوتومور المفكر الأكبر لما بعد مدرسة فرانكفورت أو النظرية النقدية الجديدة. و"على الرغم من قربه من الماركسية، فإنه يختلف مع ماركس في أمر أساسي: فهو يرى أن ماركس قد أخطأ في إعطائه للإنتاج المادي المركز الأول في تعريفه للإنسان في رؤيته التاريخية، باعتباره تطورا للأشكال والأنماط الاجتماعية .

ولهذا، يرى هابرماس أن التفاعل الاجتماعي هو أيضا بعد أساسي من أبعاد الممارسة الإنسانية، وليس الإنتاج وحده، وهو ما يوضح فلسفته التي تقوم على مفهوم الاتصال أو التواصل، وعلى أسبقية اللغة، وأولويتها على العمل.

والعقل الاتصالي عند هابرماس، هو فاعلية تتجاوز العقل المتمركز حول الذات، والعقل الشمولي المنغلق الذي يدعي أنه يتضمن كل شيء، والعقل الأداتي الوضعي الذي يفتت الواقع ويجزئه، ويحول كل شيء إلى موضوع جزئي حتى العقل نفسه." [17]

وقد وجه هابرماس انتقادات صارمة للماركسية، فأعاد بناءها على أسس جديدة، وتسمى هذه المرحلة من مراحل مدرسة فرانكفورت بمرحلة مابعد الماركسية. وقد بدأ مقالاته التي كتبها في الستينيات بتقويم الوضعية العلمية والمنطقية على غرار أسلافه من مفكري معهد فرانكفورت. وقد ميز بين ثلاثة أنواع من المعرفة انطلاقا من منظور المصلحة التي تحققها للجنس البشري في كتابه(المعرفة والمصالح البشرية) (1974م)، وقد حصرها في مصلحة تقنية، ومصلحة عملية، ومصلحة تحررية. وقد اعتبر هابرماس النموذج النفسي الفرويدي أداة صالحة للنظرية النقدية لتحقيق الثورة التحررية الإنسانية والمجتمعية. وقد أكد هابرماس أسبقية اللغة على العمل، وأكد أيضا ترابط اللغة والعمل الاجتماعي، حيث من الصعب فصل عنصر على آخر، وخالف بذلك رأي ماركس الذي كان يعتبر العمل هو الذي يخلق الإنسان . لكن هابرماس يرى أن اللغة بأنها هي التي تحقق الاستقلال الذاتي والمسؤولية. وبهذا، يكون هابرماس قد انتقل من نظرية المصالح المعرفية إلى نظرية اللغة والاتصال. ويلاحظ أن هناك ارتباطا في فكر هابرماس بين التحليل الفلسفي ونظرية المجتمع، وإن تغيرت طبيعة هذا الارتباط بالتدريج. ففي كتابه( المعرفة والمصلحة البشرية)، كان هناك تماثل بين الأنواع الثلاثة من المعرفة مع قسمات رئيسة للحياة الاجتماعية، وهي: العمل، والتفاعل، والتسلط. وانتقل في المرحلة الثانية إلى تقديم نظرية في الحق لاتضرب بجذورها في المجتمع، وإنما في اللغة بوصفها ميزة عامة للجنس البشري، وتستمر هذه الفكرة في أعمال هابرماس، وإن كان يشدد في الأخير على إعادة بناء النظرية في المجتمع. و" بالفعل، فإن هذا التطور يسجل ابتعادا أكثر عن نظرة مدرسة فرانكفورت في مرحلتها الأخيرة، وأصبح هذا التباعد أكثر صراحة بإعلان هابرماس أنه يتناول النظرية الاجتماعية بوصفه" منظرا ماركسيا مهتما بمواصلة التعاليم الماركسية في ظل ظروف تاريخية متغيرة على نحو كبير". وهكذا، قدم هابرماس عناصر النظرية الماركسية المعاد بناؤها في عملين مهمين خلال السبعينيات، دار أولهما حول مشكلات الشرعية في المجتمعات الرأسمالية إبان مراحل تطورها الأخيرة، والثاني حول المادية التاريخية."[18]

وبناء على ماسبق، فقد حدد هابرماس أربعة أنواع من الأزمات التي تعانيها المجتمعات الرأسمالية المعاصرة: الأزمة الاقتصادية، وأزمة العقلانية، وأزمة الشرعية، وأزمة الدافعية أو أزمة التحفيز.ومن ثم، فقد حاول أن يقدم تقويما للتحول الذاتي للرأسمالية المتطورة. ومن هنا، يقدم هابرماس قراءة تقويضية للمجتمع الرأسمالي، وقراءة تفكيكية للمجتمع البورجوازي المعاصر. و" في الظن أن المسألة الأكثر وضوحا، هي مدى ابتعاده عن أفكار مدرسة فرانكفورت الباكرة، حيث نجده قد سار، إلى حد ما، في عكس الاتجاه الذي بدأه أدورنو وهوركايمر، بإيلائه أهمية كبرى للنظرية الماركسية في المجتمع على نحو متميز، حين كرس مزيدا من الاهتمام لتحليل الهياكل الاقتصادية والسياسية، فيما نجد، على العكس، إشارات ضئيلة في أعماله لصناعة الثقافة.

وأكثر من هذا، فإنه لايطابق النظرية النقدية بالفكر الفلسفي في مواجهة العلم. فهو يقترح أن يوضع النقد بطريقة ما بين الفلسفة والعلم. وهذا المفهوم يتيح مجالا لعلم تجريبي عن المجتمع، على الرغم من أن ذلك لاينبغي أن يستنفذ إمكانية المعرفة الاجتماعية، ويجب إتمامه، أو وضعه، في إطار فلسفة تاريخ لها هدف سياسي.

وفي الوقت نفسه، توجد هناك أيضا استمراريات واضحة في النظرية النقدية من الثلاثينيات حتى الوقت الراهن.

وعلى الرغم من أن هابرماس لم ينسب إلى الفلسفة دورا بارزا للغاية، مثل ذلك الذي حازته في فكر أدورنو وهوركايمر، فإن واقع الحال بلا شك، وبخاصة في أعماله الباكرة، أنه كان لايزال مشغولا إلى حد بعيد بنقد الوضعية، وكان تأثيره ملحوظا بقوة كبيرة في المناظرات ما بعد النظرية حول الأسس الفلسفية للعلوم الاجتماعية."[19]

هذا، وقد مال هابرماس إلى البنيوية التكوينية باعتبارها بديلا لفلسفة التاريخ التي تبنتها مدرسة فرانفكورت إبان بدايتها، متأثرا في ذلك بجان بياجيه، ولوسيان كولدمان.وبعد ذلك، يشرع في التمييز بين الرأسمالية المنظمة والاشتراكية البيروقراطية بوصفهما الشكلين الرئيسين للترشيد العقلاني للمجتمعات الحديثة. ويبني هابرماس نظريته النقدية في علم الاجتماع على مرتكزين ضروريين هما: الفلسفة والعلم. بيد أن نظرية هابرماس غير تاريخية، ولاتعتني بالاقتصاد، كما هو حال النظرية الماركسية الأولى. و" نرى أن السمة الأكثر تميزا لنظرية ماركس، وإسهامها الأكثر أهمية في إقامة علم واقعي عن المجتمع، هي أنها لا تتعامل مع التفاعل الاجتماعي على وجه العموم، وإنما تتناول علاقة البشر بالطبيعة، والتفاعل فيما بين البشر في عملية الإنتاج، كاتجاهات سائدة ومولدة ومحددة لأشكال أخرى من التفاعل.

إن هذا هو المفهوم الذي منح الماركسية قوتها التفسيرية، والذي لايزال يمنحها هذه القوة حتى اليوم.لأنه مهما تكن الحاجة إلى إعادة بناء للنظرية الماركسية من أجل فهم المراحل المستجدة من تطور المجتمعات الحديثة بشكل ملائم، ولاسيما دورالدولة وطبيعة الصراعات الطبقية، فإنه لايزال ضروريا البدء من تحليل تنظيم الإنتاج وتسييره، سواء كان ذلك على شكل تسلط رأس المال المتركز في شركات وطنية أو متعددة الجنسية، أو تسلط الإدارة البيروقراطية للصناعة المؤممة."[20]

وعليه، فقد مر فكر هابرماس – حسب سامي خشبة- بمرحلتين رئيستين: مرحلة نقد العقل الوضعي الذي ساد الغرب مع نضج الرأسمالية، وتطور العلوم الإنسانية والتجريبية. والمرحلة الثانية التي انشغل فيها هابرماس ببناء نظرية اجتماعية قائمة على حركة تنويرية جديدة أو استئناف القديمة، وصياغة عقلانية تسترشد بالمنجزات العصرية لعلوم الطبيعة والعلوم الاجتماعية، وخاصة علم الاجتماع، وعلوم اللغة والاتصال، وعلم النفس التربوي التطوري.[21]

ويمكن أن نحدد بدورنا مراحل أخرى لفكر هابرماس، ففي المرحلة الأولى، انتقد الوضعية العلمية والمنطقية. وبعد ذلك، انتقل إلى الحداثة ليعتبرها دليلا على العقل التنويري مقابل النزعات اللاعقلانية التقويضية والتفكيكية، وقد ارتأى أن الحداثة نموذج للتحرر من كل أنواع السيطرة، حيث تتطابق النظرية والتطبيق، والمعرفة والمصلحة... و ركز أيضا على الاتصال بأنواعه باعتباره وسيلة لبناء المعرفة، وليس مجرد تبادلها، كما أشار إلى ذلك في كتابه (الاتصال ونشوء المجتمع)(1976). وقد أعاد للقيم والمعايير الاجتماعية أهميتها، وتبنى الكفاءة الأخلاقية كمضمون للاتصال الاجتماعي، وذلك في كتابه (نظرية الفعل الاتصالي)(1981م). لكن هابرماس ينتقد (مابعد الحداثة) التاريخية ابتداء من عام 1985م، حيث يرجع فشلها إلى اختلال التوازن بين القيمة المعنوية والقيمة المادية؛ مما حول عقلانية التنوير إلى حالة مرضية، وتلك هي الحال التي يصف بها تصور فرانسوا ليوتار وجان بودريار لما بعد الحداثة[22].

 

5- النظرية النقدية في الميزان:

من أهم إيجابيات النظرية النقدية أنها تنتقد التوجهات الرأسمالية بالتقويض والتشريح والتفكيك، وتنتقد النظريات العلمية والوضعية التي أهملت الإنسان والذات والمجتمع والمصلحة الاجتماعية والقيم الأخلاقية، واعتبرت الإنسان موضوعا مشيأ، تتحكم فيه الحتميات الجبرية، وأنه لاقوة له ولافاعلية في صنع التاريخ أو تغيير المجتمع. ومن ثم، فقد جاءت النظرية النقدية لتصحيح أوضاع المجتمع وتغييرها بتعرية المؤسسات الرأسمالية المهيمنة، وفضح أوهامها الإيديولوجية، وتطوير المفاهيم الماركسية في ثوب جديد، أو إعادة صياغتها مرة أخرى كما فعل هابرماس. وقد تحققت -فعلا- قطيعة إبستمولوجية بين النظرية النقدية القديمة والنظرية النقدية الجديدة.

ويمكن القول: لقد مرت مدرسة فرانكفورت بمجموعة من المراحل، فقد انشغلت في الثلاثينيات والأربعينيات بالاشتراكية الوطنية، ومعاداة السامية، واهتمت في الخمسينيات بصناعة الثقافة، واعتنت في الستينيات بالحركات الثورية التحررية، ولاسيما ثورة الطلبة والأقليات العرقية، لتهتم في سنوات السبعين وبعدها بنظرية المعرفة، وإعادة النظر في كثير من الآراء الماركسية، وبناء أسسها من جديد، وصياغة نظرية ماركسية جديدة، والاعتناء بالقضايا السياسية والمجتمعية في ضوء النظرية النقدية. وقد ارتبط علم الاجتماع بالماركسية، ووضعت النظرية النقدية إبستمولوجيا بين الفلسفة والعلم، وخاصة مع مفكر التجديد هابرماس.

أما عن أهم الانتقادات الموجهة إلى مفكري مدرسة فرانكفورت اختلاف آرائهم من شخص إلى آخر، واختلاف توجهات مدرسة فرانكفورت لـــ(مابعد الحداثة) عن مدرسة فرانكفورت في فترة الثلاثينيات من القرن العشرين. كما استبعدت المدرسة اهتمامها بالتاريخ والاقتصاد إلى حد كبير، وانحرفت انحرافا كبيرا عن مبادىء الماركسية الكلاسكية، كما يتضح ذلك جليا عند الجيل الثاني من مفكري معهد فرانكفورت. وقد همشت النظرية النقدية الجديدة مع هابرماس الطبقة العاملة باعتبارها طبقة ثورية سياسية فاعلة ومغيرة.لذا، وصفت مدرسة فرانكفورت بأنها" ماركسية بدون بروليتاريا"[23]. ومن هنا، " يبدو أن مفهوم مدرسة فرانكفورت عن تدهور، أو تلاشي الطبقة العاملة كقوة سياسية، قدم أساسا على فكرة طوباوية وخيالية عن الثورة التي هي بأية حال الطريقة الوحيدة، أو الأكثر ماركسية، لتصور عملية الثورة الاجتماعية. وربما يكون هذا المفهوم قائما أيضا على انعكاس الخبرة الاستثنائية الأمريكية، الناجمة عن غياب طبقة عاملة منظمة سياسيا في المجتمع الأمريكي، على فكرهم، ولاسيما في حالة ماركوز."[24]

وفي هذا النطاق، يقول توم بوتومور في كتابه( مدرسة فرانكفورت): " وقد أخفقت مدرسة فرانكفورت في الالتزام بالطريقة القاطعة التي اقترحها هوركايمر للنظرية النقدية، حين ذكر أنها لا تمتلك المفاهيم والأدوات التصورية القادرة على سد الفجوة بين الحاضر والمستقبل."[25]

وفي الأخير، يمكن القول بأن النظرية النقدية في عمومها قد ابتعدت في مراحلها الأخيرة عن الماركسية التي انطلقت منها في بداياتها، بل أعلنت هذه النظرية فشلها حينما اعتبر هابرماس بأن نظرية (مابعد الحداثة) حالة مرضية بسبب اختلال التوازن بين ماهو معنوي وماهو مادي.

 

الخاتمة:

وهكذا، نصل إلى أن النظرية النقدية هي قراءة ماركسية للمجتمع، ونقد للنظرية العلمية والوضعية التي أهملت الإنسان والذات والتاريخ والمجتمع والأخلاق. ومن ثم، تعمل النظرية النقدية على تنوير المرء الملتزم، وتنويره عقلانيا وذهنيا، وانتقاد الاغتراب في المجتمع الرأسمالي، وإدانة فكرة التشييء والاستلاب والقمع الآلي. ومن ثم، تستند النظرية النقدية، في قراءتها للأدب والفن والمجتمع، إلى مفاهيم النقد المراكسي الكلاسكي أو الماركسية المعدلة في نظرية هابرماس. ويمكن أن نحدد مجموعة من المراحل التي قطعتها النظرية النقدية الجديدة، فكان هناك في البداية اهتمام بنقد الوضعية العلمية ومعاداة الفكرة السامية. وبعد ذلك، انتقل الاهتمام إلى المجال الثقافي مع ماركوز، ليتم الإنصات إلى الحركات الثورية الطلابية والأقليات الممضطهدة، لتتخذ النظرية النقدية توجها جديا مع هابرماس، حيث بدأت النظرية النقدية الجديدة تقدم تصورات مختلفة حول المجتمع، متأرجحة في ذلك بين الفلسفة والعلم. كما أعيدت صياغة الماركسية من جديد على أسس علمية وسياسية واجتماعية مابعد حداثية، لتنتهي النظرية النقدية بالثورة على (مابعد الحداثة) نفسها، حينما وقع اختلال مجتمعي وحضاري بين القيم المادية والقيم المعنوية، فترتب على ذلك أن أصبحت (مابعد الحداثة) حالة مرضية مأساوية.

الادب- الادباء- ادبية متنوعة- دراسات ادبية- النقد الادبي

 



سنة النشر : 2010م / 1431هـ .
حجم الكتاب عند التحميل : 1 ميجا بايت .
نوع الكتاب : pdf.
عداد القراءة: عدد قراءة النظرية النقدية للمجتمع

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل النظرية النقدية للمجتمع
شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

برنامج تشغيل ملفات pdfقبل تحميل الكتاب ..
يجب ان يتوفر لديكم برنامج تشغيل وقراءة ملفات pdf
يمكن تحميلة من هنا 'http://get.adobe.com/reader/'

المؤلف:
حسام الدين فياض - Hossam El Din Fayyad

كتب حسام الدين فياض د حسام الدين فياض كاتب الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة قسم علم الاجتاع - كلية الآداب في جامعة ماردين - جامعة حلب سابقاً.❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ النظرية النقدية للمجتمع ❝ ❞ النظرية النقدية عند رايت ميلرز رؤية راديكالية ملتزمة ❝ الناشرين : ❞ نحو علم اجتماع تنويرى ❝ ❱. المزيد..

كتب حسام الدين فياض
الناشر:
نحو علم اجتماع تنويرى
كتب نحو علم اجتماع تنويرى ❰ ناشرين لمجموعة من المؤلفات أبرزها ❞ النظرية النقدية للمجتمع ❝ ❞ النظرية النقدية عند رايت ميلرز رؤية راديكالية ملتزمة ❝ ومن أبرز المؤلفين : ❞ حسام الدين فياض ❝ ❱.المزيد.. كتب نحو علم اجتماع تنويرى